الحرب هي ما يستمر فينا من رماد بعد حرائق الموت 200 ألف جزائري قضوا ضحية الحروب الأهلية الصراع العسكري يتحول لصراع الهوية بالجزائر البطل يرفض الاندماج بمافيا الأدوية العالمية سعدت كثيرا عندما علمت أن الرواية الجديدة للأديب الجزائرى واسينى الأعرج صدرت حصريا مع مجلة دبى الثقافية ، وانطلقت فى رحلة بحث عن المجلة التى تنفذ من الأسواق سريعا . مشيت من التحرير للإسعاف لم أترك بائع جرائد لم اسأله ،و لكن الجواب كان دائما واحد " نفذت " ، و لكنى لم أفقد الأمل و صممت أن أحصل على نسخة وتابعت البحث رغم حرارة الشمس القاسية ، و عند وصولى لآخر بائع بالإسعاف تنهدت وقلت عندما نفقد الأمل فى الأشياء نجدها أمامنا . وسألت البائع وتوقعت كالعادة أن أسمع نفس الرد ، و لكنه ظل يبحث حوله و أنا أتابعه بعينى ، حتى أخرج المجلة من صندوق و ناولها لى فى يدى ،حينها لمعت عينى بإحساس النصر وكأننى فزت باليانصيب . احتضنت الرواية و كلى شوق لأتعرف على أحدث روايات واسينى ، و أستطيع ان أقول بعد إنهائى للرواية أنها جديرة بهذة المعاناة ، و أن لغة واسينى قادرة على إدخالك فى حالة دوار لغوى لا مثيل لها بين عوالم الأحلام والوجع اليومى لواقعنا المعاش . الوجع الجزائرى بكلمات قليلة استطاع أن يلخص واسينى جوهر روايته بأكملها حينما قال : " الحرب ليست فقط هى ما يحرق حاضرنا ،و لكن أيضا ما يستمر فينا من رماد حتى بعد خمود حرائق الموت .. لكل فراشة احترقت أجنحتها الهشة ، وهى تحاول أن تحفظ ألوانها ، و تبحث عن النور فى ظل ظلمة كل يوم تتسع قليلا " . وهذا يجعلنا نتساءل كيف يمكن أن تختصر بلد بأكملها فى ثورة وماتش كورة ،فأغلب ما يعرفه المصريون عن الجزائر هى ثورة الاستقلال عن فرنسا الذى وقف بجانبها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وجميلة بوحريد ، و الصراع المصرى الجزائرى على ماتش كورة ! لكن روايات واسينى و الكاتبة أحلام مستغانمى و العديد من الأدباء الجزائريين تنبئنا بالكثير عن ذلك الوجع الجزائرى بعد حرب أهلية أتت على الأخضر و اليابس ، ثم أتت الحرب الصامتة لتحيل كل شئ رمادا . ففى الرواية يتحدث واسينى عن معاناة الشعب الجزائرى بعد انتهاء الحرب الأهلية ، و كلهم أمل فى بداية جديدة ولكن الحرب الصامتة تُجهز على أحلامهم ، حيث استيقظت الأحقاد والرغبة فى الانتقام ، ليعيشوا بزمن الخوف بين الاعتقالات والاغتيالات ، من ينتقم لنفسه أو لابن أو لوالد . فى أرض يكتب فيه الشباب وصيتهم و هم فى عمر الزهور ، فيه تعودوا على الموت حتى أصبح لا يعنيهم كثيرا ، أكلت الحرب الأهلية أكثر من 200 ألف إنسان ، الجزء الأكبر منهم لم تكن هذة الحرب حربه ، وها هى الحرب الصامتة لم تشبع و يستمر نزيف الدم . و رغم ذلك تصر الدولة أن الحرب انتهت و أن عصر الرخاء والأمان قد بدء ، ومن يقول العكس ، فهم مغرضون يبثون الشائعات يبغون بلبلة البلاد ومنع السياحة من القدوم ، و نقتبس من الرواية : " سيحرقون البلد بعقلية الإطفائى الذى لا يتحرك إلا عندما تشتعل النار ، لا يعرفون استباق الاحداث ، لم يتغيروا أبدا " . و بقراءة تلك الكلمات ندرك أن الأمة العربية ربما لم تستطع أن تكون أمة واحدة ، إنما تفكير حكامها دائما واحد ، والشعب دوما هو الضحية . كما نجد فى الرواية ملامح صراع أشبع أجيالا كاملة من الجزائريين بعد الاستقلال تخبطا بين ثقافتين و لغتين و عالمين ، و إن انتهى الصراع العسكرى و لكن خلف وراءه صراعا أكثر قسوة و ضراوة " صراع هوية " . ونقرء من الرواية عن حملات التعريب التى تمت بعد الاستقلال : " حرموا اللغة الفرنسية على الكل و قالوا إنها من بدع المستعمر للاستيلاء على الأرواح ، و لم يفعلوا الشئ نفسه مع اللغة الانجليزية .. و اللواتى أصررن على التدريس بالفرنسية ذبحن ، تخيلى ؟ كيف تصبح لغة ما سببا فى القتل ! " كما يظهر ذلك الصراع فى صفحات الرواية المختلفة فالبطلة تشعر بالراحة لدى سماع آيات القرآن الكريم ، و لكنها مع ذلك تشرب النبيذ و أحبت فتى يهودى ، وتقول : " لم أدخل إلى الكنائس و المساجد إلا كسائحة عابرة .. فشلت حتى فى أن أكون مسلمة جيدة " . كما تثير الرواية قضية " الطائفية " بقولها : " لم يكن احد يهتم لقناعات جاره المسلم أو المسيحى أو اليهودى أو الإنسان ، فلا يفرق بين الخصوصيات الدينية الكبيرة و لكن يتفنن فى التفاصيل بالسؤال عن الطوائف و الملل ، كيف تخفى ذلك لمدة قرون ليستيقظ من جديد بهذا العنف و بهذة الكثافة حيث تبدو مواجهته مستحيلة ؟ و لكن تعود تؤكد أنه لا يهم دينك أمام الموت ،فهم يغتالون من يحاول أن يفهم مهما كانت ديانتهم و حتى من هم بغير دين . و لا تنسى الرواية إلقاء الضوء على الإعلام وتأثيره قائلة : " الصحافة الوطنية الرسمية و الخاصة تكتموا على حريق السجن بعد فضيحة سرقة أعضاء المساجين ، و هم من يتصيدوا الأخبار ، حتى أصبحنا نتخيل ان لا شئ آخر فى هذة البلاد إلا المرضى جنسيا و المعتوهين و القتلة " . وكذلك لجنة تقصى الحقائق التى تتقصى كل شئ إلا الحقائق ،كما ذكر واسيني عدة مرات فى روايته أول رئيس منتخب للبلاد الذى اغتيل بعد يومان من انتخابه بعد تدشينه لجسر العشاق . مملكة الفراشة " هنا يموت قاسى " مثل شعبى جزائرى يعنى الإصرار على البقاء فى المكان نفسه مهما كان الثمن ، هذا ما فعله زبير الذى ترك معامل باريس و أوروبا ، ليعمل فى معامل الجزائر لإنتاج الأدوية ، رفض أن يترك بلده ، كما رفض أن يتعاون مع القتلة " مافيا الأدوية " التى تدفع بالمخدرات الاصطناعية للأسواق و تساهم فى قتل الشباب ، تلك المخدرات التى لجأ لها ابنه لينسى مشهد تقطيع صديقه أمام عينه فى حرب كل طرف فيها يرى أنه هو صاحب الحق . وكان زبير يقول لابنه " لا تقتلهما فهم فى النهاية أبناء بلدك و إخوتك .. أنت أيضا فى نظرهم خادم للطاغوت .. حاول أن تفهمهما ربما كانا ضحايا مثلنا جميعا لحرب صنعها غيرنا " . و كان يرفض أن يسمى الحرب بالأهلية ، لأنه كان يجد فى كلمة الأهلية شيئا من العطف و الحنان ، كان يقول هذة حرب قذرة ، مركبة و مميتة و بآلاف الأقنعة ، حرب ضد الأهالى " ، وكان مقتنعا : "لست فى حرب ضد أحد ، بينوا لى عدوى المفترض و سأقف معكم .. عدو مقنع بدون وجه .. بدا لى كل الناس مجرمين و أبرياء فى الوقت نفسه " . صمم زبير على التصدى لمافيا الأدوية فتم اغتياله على عتبة منزله ، و أمام ابنته ياما بطلة الرواية ، التى لم يتبقى لها سوى أمها حيث غادرت أختها التوأم للخارج . و انسحبت أمها من الحياة شيئا فا شئ لم تتحمل موجة التقتيل اليومى و لم تتحمل انشغال زوجها عنها ، فانشغلت بالكتب و افتتنت بكاتب ميت ، عندما قتل زوجها زادت حالتها سوءا ، لتدخل فى حالة انفصال عن الواقع و تعيش فى عالمها الخيالى مع محبوبها الميت ، حتى ماتت غارقة بين واقع لم تتحمله و خيالا كان أكبر منها . فا نقرء من الرواية " هشاشة سنوات المرارة تعلمنا كل شئ بما فى ذلك وسائل التدمير الذاتى " . و ظلت ياما وحدها تحاول أن تواجه مصيرها بعد أن فقدت كل من أحبت فى الحرب الصامتة ، و هددتها الشرطة لتغير أقوالها بأن والدها لم يُغتال بل مات بسكتة قلبية فرفضت ان تغير أقوالها و تقول : " هل يمكن ان يكون الكذب الرسمى الى هذا الحد ، حتى فى الكذب ليسوا أذكياء أبدا " و قالت ساخرة " لن أقتل والدى مرة ثانية ، أما السياحة و الأمان كل شئ ظاهر و الحمد لله " . تركت ياما فرقة ديبو جاز التى كانت تعزف بها بعد أن اغُتيل حبيبها فكان الكلارينات وسيلتها لتحدى القتلة و الموت ، و انشغلت بعملها بالصيدلية و كفاحها اليومى ليصل الدواء للمحتاجين ، مع نقص الدواء فى الاسواق و زيادة الأدوية المغشوشة . كانت هشة و منهكة بالخسارات تقول : " جرح مفتوح صعب أن ينغلق فى مقبرتى الداخلية التى تكاثر عدد سكانها " ، "لعنت الحرب التى تركت بصمتها و خوفها و نهايتها القاسية على ، قتلت والدى و هزمت أمى و هجرت توأمى نصفى ، و أحرقت أخى ، و طوحت بى بقوة فى عرض الحياة " خشيت أن ينتهى مصيرها كأمها و ان ينتقل عدواها إليها . وحتى تستطيع أن تعيش فى ظل حياة أصبحت على الهامش ، هربت إلى الروايات و مملكة زوكربيرغ الزرقاء التى أسمتها " مملكة الفراشة " ، كانت تستعيض بالعالم الافتراضى و الخيالى عن ذلك الواقع المشوه التى لا تزال متصلة به رغم قسوته . أحبت ياما كاتب مسرحى عن طريق الفيس اسمه " فادى " وأسمته بفاوست فقد كان لها عادة بتسمية الأشخاص بأسماء أبطال الروايات ، كانت تستعيض بحنانه عن مفقوديها ، فاوست غادر البلاد بعد تهديده بالاغتيال ، ليختار بنفسه المنفى بعيدا عن مدينة تقتل أبنائها ، و عندما قرر العودة وأعلنت الدولة " عودة الابن الضال " لتؤكد أن مواطنيها يعودوا بعد استتاب الأمن كليا ، خشيت ياما عليه هو من عارض بمسرحياته المسئولين و الأنظمة العربية . قائلة :" إلا تخاف من أن تكون الدولة هى الشيطان و تسعى خلف روحك ..فى هذة البلاد ، كلما حاولوا أن يغتالوا فنانا أو كاتبا ، منحوه إدارة معقدة و أغرقوه فى تسيير رواتب العمال و فى إضراباتهم الاجتماعية حتى يصبح مكروها من الجميع و ينتهى به الأمر إلى المرض و الذبول ثم الموت البطئ " . قبسات من الرواية " اخطر شئ فى الحروب الصامتة ان يخسر الانسان الالوان التى فى اعماقه و قلبه الحى و يتحول الى مجرد دودة قاتلة و ناخرة بسرية لأكثر العظام قوة صلابة ". " الحرب الأهلية شئ آخر ، عندما تنتهى لا تنتهى ، و عندما تتضاءل تخرج من أعماقها حرب أخرى ، فيتوجه كل واحد نحو موتاه ليدفنهم واحدا واحدا و يشحذ سيفه ، و يهيئ سكاكينه فى الخفاء لتبدء الحرب الصامتة ، حرب الانتقامات السرية .. جيش من المنتقمين المؤهلين لذلك .. الانتقام دائما أعنف من العنف ذاته " " ليست الأرض هى القاسية ، فنحن نصنع بها ما نشاء ، مساحة أبهى من الجنة نحسد عليها ، أو جهنم الموت المجانى ، البشر و الجهل هما السبب فى كل شئ ، فى الخير و الشر " . " الحرية هى كل ما تبقى لنا فى وضع فقدنا فيه كل شئ عن سبق إصرار و ترصد " .