يواجه الدستور التركي الجديد والرابع في التجربة الدستورية للجمهورية المزمع وضعه، خطابات مختلفة للأحزاب السياسية التركية، وتبايناً فيما يخص أبرز ملامحه المتوقعة لترسيخ الديمقراطية ورفع مستوى الحريات للجميع بمختلف انتماءاتهم وأعراقهم. وقد تم تشكيل لجنة تسوية لإعداد الدستور في 19 أكتوبر عام 2011، وشملت 3 أعضاء من كل من الأحزاب الأربعة بالبرلمان، إضافة لمستشارين وأكاديميين خبراء في أعمال الدساتير، وشارك أكثر من 26 ألف شخص بآرائهم بشأن الدستور الجديد عبر الموقع الرسمى للجنة، ثم بدأت هذه اللجنة أعمالها الصيفية منذ شهر مايو 2012، وعهدت إليها مهمة دراسة مسودة كل حزب عن تصوره للدستور الجديد والتوصل لاتفاق حول المواد المزمع تغييرها للحصول إلى مسودة نهائية مشتركة. محاور خلاف وجاءت على رأس المحاور الأساسية التي يحتد بشأنها النقاش داخل لجنة تعديل الدستور، تعريف المواطنة بتركيا، والنظام الرئاسي بدل النظام البرلماني، وحق التعليم باللغة الأم لغير الأتراك، واللامركزية السياسية والإدارية. وفي الوقت الذي قدم فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم أطروحة تغير نظام الحكم في تركيا من نظام برلماني إلى رئاسي، تحدثت العديد من أحزاب المعارضة عن ضرورة تغيير تعريف المواطنة الحالي، الذي يفيد بأن "كل مواطن في تركيا هو تركي"، إلى تعريف جديد يجب أن يكون "محايداً ويجسد جميع الأعراق التي تعيش في تركيا، دون تمييز بينها، وتوالت التشديدات على أهمية التمسك بمطلب التعليم باللغة الأم للجميع وليس للأكراد فقط. وعلى ناحية محورية أخرى، أكد العضو في لجنة التسوية لإعداد الدستور عن حزب السلام والديمقراطية الكردي "ميرال دانيش بشطاش" أن احتجاجات حديقة جيزي الأخيرة في تركيا، أعادت للواجهة أهمية اللامركزية السياسية والإدارية، وأن تكون كل القرارات غير صادرة من أنقرة فقط، إذ من الضروري إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات التي تمس محيط عيشهم مباشرة. وفي المقابل، أشار عضو لجنة التسوية عن حزب الشعب الجمهوري رضا تورمان، إلى أن النقاش حول المسودات المقترحة بين جميع الأحزاب، يزيد فرص التقارب فيما يخص المواد المختلف عليها. ومن زاوية أخرى، يتخوف العديد من ممثلي الطائفة العلوية في تركيا التي يناهز تعدادها الأربعة عشر مليون نسمة بحسب الإحصاءات الرسمية، من الدستور الجديد حال كونه لا يلبي مطالبهم، ويرون أن ديباجة الدستور التركي قد تتضمن مشاريع قوانين تحد من نشاط المؤسسات المدنية والدينية العلوية، وأن اللجان المتخصصة بصياغة وتعديل الدستور قد عمدت إلى تهميش مطالب الطائفة الرئيسة والمتعلقة بممارسة الشعائر الدينية بعيداً عن أية مضايقات، بما في ذلك الاعتراف ببيوت الجمع التي يمارس فيها العلويون طقوسهم الدينية. كما يشار إلى أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أعلن رفضه للتعليم باللغة الأم خلال لقائه الأخير مع أعضاء لجنة الحكماء لتقديم تقريرها النهائي حول أعمالها فيما يخص عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني. خبرة دستورية وعلى الرغم من هذا التعسر الذي تواجهه مسودة الدستور التركي الجديد فقد عرفت الجمهورية التركية تجربة دستورية عميقة حيث وضعت أول دستور لها عام 1924، واستمرت في المحافظة على المبادئ الأساسية لدستور عام 1921، وبشكل خاص مبدأ السيادة الوطنية، ووفقًا لهذا الدستور الأول، يعتبر المجلس الوطني التركي الكبير "الممثل الوحيد للأمة". وقد وضعت تركيا دستورها الثاني عام 1961، ونص على وجود برلمان بمجلسين تشريعيين، وهما المجلس الوطني الذي يضم 450 نائبًا، ومجلس شيوخ الجمهورية الذي يضم 150 عضوًا يتم انتخابهم من خلال تصويت عام، بينما يتم اختيار 15 عضوًا منهم من قبل الرئيس، ويشكل هذان المجلسان التشريعيان المجلس الوطني التركي الكبير. وفي عام 1982 صوت الأتراك بنسبة 92% لصالح الدستور الثالث الذي وضعه العسكر للجمهورية التركية، وما زال ساريًا إلى الآن بعد إدخال التعديلات عليه سبعة عشر مرة، وبموجب هذا الدستور يتمتع الشعب بالسيادة الكاملة وبدون شروط. ويؤكد الدستور أن الدولة التركية، أرضًا وشعبًا، هي جزء لا يتجزأ وأنها دولة علمانية ديمقراطية مدنية بموجب القانون. يتساوى جميع المواطنين أمام القانون دون أي تمييز بينهم، دون الالتفات إلى اللغة أو العرق أو لون البشرة أو الجنس أو التوجهات السياسية أو المعتقدات الفلسفية أو الدين والطائفة أو أية مثل هذه الاعتبارات، ويقر دستور 1982 بكل حقوق الإنسان والحريات الأساسية مثل حرية الكلام والصحافة والسكن والانتقال وحرية الدين والضمير وحرية المعتقدات والفكر والرأي والتعبير ونشر الأفكار والحريات النقابية. وقد مرر البرلمان العديد من التعديلات الدستورية لإضفاء مزيد من الديمقراطية على دستور 1982، من أجل بسط الحقوق والحريات الديمقراطية في البلد. اكتسبت هذه الجهود قوة إضافية عقب قبول تركيا كدولة مرشحة للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي عام 1999، وموافقة الاتحاد الأوروبي بعد ذلك لبدء محادثات عضوية كاملة مع تركيا عام 2005. بين الفشل والتمرير ورغم هذا الجدل يظل الثابت أنه في حال حصل الدستور الجديد على 330 صوتاً في البرلمان التركي البالغ عدده 550 عضواً، فسيتم تحويله للاستفتاء الشعبي، لكن إذا حصل على 367 صوتاً فسيتم تمريره دون الحاجة للاستفتاء. ومن ناحية أكثر بعداً، فليس ثمة أدلة تذكر على برنامج حكومي إسلامي متشدد من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم، بعد ثماني سنوات من تولي أردوغان منصبه، ولكن أسلوبه المندفع في القيادة وضيقه من الانتقادات أفقده تأييد الناخبين المترددين، فأعداد كبيرة من الأتراك، وخاصة أولئك الذين يميلون إلى نمط الحياة الغربي العلماني، لا تزال متحرجة من أن يحكمها المتدين أردوغان.