رغم أن لكل حضارة خصائصها التي تميزها من حيث اللغة والديانة والثقافة والعادات، وهي التي تشكل هوية الأفراد والمجتمعات المنتمية لها، وتستمد منهم بدورها عناصر قوتها أو أسباب ضعفها، غير أن حضارات الشعوب كالكائنات الحية، فهي تولد وتنمو وتتأثر بالحضارات الأخرى وتؤثر فيها، حتى تصل إلى أوج قوتها، ثم تضعف وإما تندمج في حضارات أخرى أو تموت وتختفي في غياهب التاريخ. ويعود الحديث عن صراع الحضارات وما شابه ذلك من نظريات، نتيجة تنامي النعرات القومية ضد الأجانب، وارتفاع الأحداث العنصرية في الدول الغربية، ولا سيما مع بروز دور العولمة وانفتاح العالم والحدود للجميع بشكل يسمح بوفود أعداد كبيرة من المهاجرين، سواء كانوا من العرب أو غيرهم إلى تلك الدول في وقت تشهد فيه الدول الغربية أزمات اقتصادية وانطباعات سلبية عن الوفود المهاجرة إليها. وشهد العالم الغربي عموماً وأوروبا على وجه الخصوص موجات من الهجرات لشعوب عدة على مدار التاريخ، وأسهم الصدام أو الامتزاج فيما بينها في تكوين الصورة التي نرى عليها القارة العجوز الآن. مفاهيم خاصة بداية، بجب الإشارة إلى مفهوم كلمة المهاجر، فهو مفهوم واسع يشمل أنواعاً عدة من البشر، منها الأيدي العاملة المهاجرة واللاجئون السياسيون واللاجئون نتيجة الحروب والمهاجرون غير الشرعيين. ومما لا شك فيه أن موجات الهجرة هذه قد ازدادت في عصرنا الحالي، في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية وسيادة مفهوم العولمة الناتج عن التطور الهائل في وسائل الاتصال والتشعب الهائل للتأثيرات بين البشر. ولهذه الهجرات دور مهم في تطور ونمو المجتمعات الغربية والأوروبية، إذ تحتل البرامج الخاصة بالمهاجرين مركزاً متقدماً في أولويات الحكومات والقوى السياسية، وتهتم بها منظمات المجتمع المدني وجماعات الضغط هناك، ولكن يتعرض المهاجرون لاختبارات صعبة تتمثل في كيفية التعامل مع أسلوب الحياة المختلف في مجتمعه الجديد، ومحاولة التأقلم مع منظومة القوانين والقيم والأعراف المغايرة لما جبل عليه في وطنه الأم. ولا سيما بعد احتمالية تعارض واجباته تجاه المجتمع، الذي يحاول الانخراط فيه مع مفاهيمه الخاصة عن التدين أو الزواج أو تربية الأبناء، والتي تشكل جزءاًَ أصيلاً من هويته الثقافية، هذا بخلاف مشاعر التوجس ومحاولات الإقصاء أو العنصرية أو الاستغلال، التي قد يتعرض لها من جانب بعض المواطنين الأصليين. ومن الشواهد الدالة على وجود معوقات في انخراط المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة، هو ما حدث للألمان الشرقيين عند هجرتهم لألمانيا الغربية بعد انهيار سور برلين، وكذلك الصعوبات التي واجهها المواطنون من أصل يوناني والذين عادوا إلى اليونان من دول الاتحاد السوفييتي بعد انهياره، بالرغم من الجذور المشتركة في الحالتين. معايير متفاوتة كل ذلك يبرز معه الخوف على مستقبل تلك البلدان ومستقبل مواطنيها، وهو ما يعني أن تهدد القوميات والجذور الثقافية والتاريخية، حتى وإن تم الاتفاق على المبادئ الأساسية في النظام الديمقراطي لأي بلد، وهي أن يكون لكل المواطنين نفس الحقوق ونفس الفرص عند انخراطهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، دون تمييز فيما بينهم من حيث اللون أو الجنس أو الدين أو العرق. ويبدو أن كل ما سبق ( المبادئ الديمقراطية) لا يتحقق دائماً على أرض الواقع، حيث تتفاوت المعايير الخاصة بانخراط المهاجرين في مجتمعهم الجديد ومدى أحقيتهم في الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية. كما لا تؤدي "الفرص المتكافئة " الممنوحة لهم بالضرورة إلى تلك المساواة المرجوة في الحقوق والواجبات، رغم بعض المساعي التي تهدف إلى إدماج المهاجرين في النسيج المجتمعي على مجموعة من الإجراءات تهدف إلى مشاركتهم الفاعلة في العمل والإنتاج والنشاط الاجتماعي والتعليم. إضافة إلى البعد السياسي الذي أصبح متداولاً، ويتم التعامل من خلاله على أساس أنه أمر واقع لا مفر منه، فإقامة المهاجرين في البلاد المضيفة لمدد طويلة تنشئ لهم حقوقاً سياسية يجب مراعاتها والعمل على تنظيمها؛ حتى يتسنى لهم مباشرتها في إطار من حرية التعبير. شواهد دالة ولحل التداعيات السلبية لتلك الهجرة متعددة الثقافات، تسهم الدراسات الخاصة بالمهاجرين ومعرفة طريقة تفكيرهم وآرائهم في إيجاد أفضل الوسائل لاحتوائهم وانخراطهم في المجتمع بطريقة منظمة، فتقل مظاهر مقاومة التغيير لديهم وانغلاقهم على أنفسهم، وتتلاشى مشاعر التخوف منهم من قِبَل المواطنين الأصليين، وتتيسر مشاركتهم الفاعلة والمنتجة في موطنهم الجديد. ولقد شهدت إنجلترا وفرنسا بشكل تقليدي موجات من الهجرة منذ القرن الماضي، ثم تلتها دول جنوب أوروبا - أسبانيا وإيطاليا واليونان - فظهر فيها بشكل جلي عدم التجانس بين الثقافات، وتفجرت بها مسائل شائكة تدور حول التوازن بين الهوية الدينية والثقافية من جهة، وبين مواكبة متطلبات الحياة في المجتمعات الأوروبية من جهة أخرى. كما عكف المحللون وعلماء الاجتماع منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى اليوم على دراسة موضوع الاندماج الثقافي، إلى جانب الاقتصاديين الذين اهتموا بمتابعة تأثير موجات الهجرة على حركة الأسواق والبضائع وسوق العمل وعلى الحياة الاقتصادية بشكل عام. وعلى الرغم من تشكل قناعة لدى عدد كبير من الدارسين أن احتواء المهاجرين بهدف الوصول إلى نظام متوازن من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يقوم على التعايش وقبول الأخر واحترام هويته الثقافية والدينية أمر مهم، إلا انه شيئاً قد يبدو صعباً وخاصة في حالة التباين الجذري في الثقافات المختلفة. ومع ذلك، ينبغي تعاظم الأدوار لإيجاد نهج أكثر فاعلية في التعامل مع قضايا المهاجرين، من خلال القضاء على ممارسات الاستغلال وعدم المساواة أو العنصرية والتمييز التي قد تواجههم، وزيادة التنسيق بين الدول الأوروبية في هذا المجال وتكثيف الجهود لتفعيل برامج اقتصادية واجتماعية تساعدهم على التأقلم والمشاركة الإيجابية في مجتمعاتهم الجديدة.