كنا قد توقفنا في المنشور السابق عند إعلان نتيجة انتخابات اتحاد الطلاب، وكما قلت : أعلنت النتيجة، وفزتُ بمنصب أمين اللجنة الثقافية بكلية الآداب جامعة المنصورة، وفاز (محمد عبد الفتاح) مرشح أسرة النور المحسوبة على التيار الديني، بمنصب نائب أمين اللجنة الثقافية، وبالمناسبة كان مرشح اللجنة الثقافية من "أسرة مصر" المحسوبة على الحزب الوطني الحاكم، طالبة غير محجبة لا أذكر اسمها الآن، وإن كنت ما زلت أحتفظ بنسخ من أوراق الدعاية التي كانت الأسرتان توزعها، وعندما أعود إلى مصر إن شاء الله سوف أستخرج الأسماء وأضع لكم هنا صورا لبعضها، فأنا والحمد لله أحتفظ بأرشيفٍ ضخم يشمل كثيرا من الأوراق التي شهدت مراحل حياتي المختلفة، والتي قد يظنها البعض أوراقا لا قيمة لها، ولكنني أعتبرها جزءا لا يتجزأ من حياتي. أعود إلى موضوع الطالبة، وأقول: كان سفورها أحد الأوتار المهمة التي لعبت عليها الجماعة الدينية، التي كانت شعاراتها الانتخابية تتمثل في عبارات من قبيل: "نحن من أشرق فينا هدى رب العالمينا" و "الكفوف في الكفوف فاشهدوا عهودنا" وغير ذلك من الشعارات التي لا أذكرها الآن، لكن لم يكن من بينها شعارات الأخوان المعروفة مثل: "الإسلام هو الحل" أو "الله غايتنا، والقرآن دستورنا... إلخ". على أية حال، طلب مني موظف شئون الطلاب الذي كان يشرف على الانتخابات أن أحضر أول اجتماع لاتحاد الطلاب في الغد، وذهبت في الموعد، لأجد المفاجأة الثانية في انتظاري، لقد كان معظم الحاضرين من ذوي اللحى، وسرعان ما اكتشفت أن أسرة النور اكتسحت الانتخابات، ولم يكن ثمة من هو خارج تنظيمهم غيري، ووجدت نفسي يتيما في الاجتماع، ولم يستمع أحد إليّ ولا إلى رؤيتي عن النشاط الثقافي، فقد كنت أتحدث عن إقامة معارض كتب، والاتصال ببعض الناشرين، وتنمية نشاط مكتبة الكلية، وغير ذلك، ولكن أهم ما حدث في ذلك الاجتماع أنهم انتخبوا أمينا عاما لاتحاد طلاب الكلية، وطبعا كان من أسرة النور. المهم أن ما حدث في أثناء الانتخابات، وأعمال الدعاية التي كانت تقوم بها الأسرتان، واجتماع اتحاد الطلاب، كان يجري تحت سمع وبصر مخبري أمن الدولة بالكلية، وهؤلاء المخبرين إما موظفين بالكلية، أو طلاب، وأحيانا من أعضاء هيئة التدريس، وطبعا وصلت التقارير إلى مكتب أمن الدولة في مدينة شربين تفيد بأن لي نشاطا سياسيا دينيا متطرفا. وهنا أستطرد لأوضح لمن لا يعلم أنني كنت أقيم في مركز بلقاس بمحافظة الدقهلية، ولم يكن بمركز بلقاس مكتبٌ لأمن الدولة، ولذلك كان مركز بلقاس يتبع مكتب أمن الدولة في شربين. وربط ضباط أمن الدولة بين التقارير القديمة عن نشاطي الديني القديم المتمثل في خطب الجمعة وإطلاق اللحية، وبين النشاط الجديد الذي هو حسب ما وصلهم من تقارير: عضو في جماعة دينية متطرفة ومرشح على قائمتهم لانتخابات اتحاد الطلاب، واكتسح الانتخابات بطريقة مريبة. وهكذا فُتح لي ملف في أمن الدولة ظلما وعدوانا، وأصبحت من المسجلين لديهم. ولا أكتمكم سرا، أنا كنت قلقا جدا من هذا الأمر، لم أكن أعلم أنه فُتح لي ملف في أمن الدولة، ولكني كنت أخشى من ذلك، ولذلك قررت الإقلال من حضور اجتماعات اتحاد الطلاب، والتفرغ لدراستي، صحيح أنني كنت نشط جدا في دفعتي، إلا أن ذلك النشاط لم يخرج عن النطاق الأكاديمي، حيث كنت أنظم رحلات علمية وندوات، بل وأقوم بعمل محاضرات للطلاب لمراجعة المقررات، وأذكر في إحدى المرات أنني كنت ألخص للطلاب بعض المحاضرات في مقرر مصر الفرعونية الذي كان يدرسه الدكتور فرنسيس عبد الملك غطاس، وكان مقررا صعبا، والدكتور لا يفعل أي شيء في المحاضرة غير أنه يقرأ من الكتاب، والكتاب مليء بالمصطلحات الغريبة والنصوص الهيروغليفية، ووصف للمعابد، ويطغى عليه الجانب الأثري أكثر من التاريخي، حيث كان الدكتور فرنسيس متخصص في الآثار الفرعونية، وفي أثناء تلخيصي لأحد موضوعات المقرر في حضور عدد كبير من الطلاب والطالبات، دخل أحد العمال وطلب منا مغادرة المدرج، لأننا ليس عندنا محاضرات هنا، وأنه سوف سيقوم بإغلاق المدرج، فرفضت الخروج، وشرحت له ما نفعله، فأصر على طردنا من المدرج، وتصادف مرور الدكتور حسين عبد الرحيم عليوة وكيل الكلية وقتها، فسأل عن الحكاية فشرحت له الأمر، فأعجبته الفكرة، وطلب مني الاستمرار، وأمر العامل بتركنا في حالنا. وكان من أشهر الأنشطة التي قمت بها أيضا تنظيم رحلة إلى الإسكندرية لزيارة معالمها التاريخية، وأهمها بالطبع المتحف اليوناني الروماني، وعمود السواري وغيرها، فاقترحت ذلك على الدكتور أبو اليسر فرح- رحمه الله، وكنت من المقربين إليه لنشاطي الكبير ومداخلاتي الكثيرة في محاضراته، وهذه قصة أخرى قد أحكيها يوما ما- فطلب مني أن أكتب طلبا للعميد، وهو سوف يوقع على الطلب بالموافقة على الإشراف على الرحلة، وقدمت الطلب للعميد الدكتور علي بركات، فحول الطلب للعرض على مجلس القسم، ووافق مجلس القسم، ثم عُرض الأمر على مجلس الكلية ووافق المجلس، ثم أخذت خطابات من الكلية لإدارة رعاية الشباب في الجامعة لحجز أتوبيس الجامعة، وللمدينة الجامعية للطالبات للسماح لهن بالتأخر خارج المدينة إلى حين العودة من الرحلة ليلا، وقمت بتجميع اشتراكات من الطلاب قيمتها ثلاثة جنيهات لكل طالب، وكانت هذه أرخص اشتراكات لأي رحلة قامت بها الكلية أو أي أسرة من الذين كانوا ينظمون الرحلات للمتاجرة بها وتحقيق الربح، حيث كان اشتراك الرحلات للقاهرة أو الإسكندرية لا يقل عن خمسة جنيهات بأي حال، ويكون الاشتراك مقابل السفر فقط. أما رحلتنا فقد شمل اشتراكها السفر ودخول المتاحف وزيارة حديقة حيوان الإسكندرية، وسندوتش كفتة وعصير، وأذكر هنا بكل خير الزميلين موسى سالم وأشرف أنس اللذان وقفا معي في تجهيز كل هذه الأشياء. واشتريت ببقية المبلغ هدايا متنوعة، وقمت بإعداد قوائم أسئلة، وأجريت مسابقات في طريق الذهاب والعودة، ووزعت الهدايا على الفائزين. وكنت والحمد لله محبوبا من كل الطلاب، حتى إنهم أطلقوا عليّ لقب (تريبيون الدفعة) وكلمة تريبيون: لاتينية من أصل يوناني تعني المحامي أو النائب، وكان تريبيون العامة في مجلس الشيوخ الروماني هو الذي يمثل عامة الشعب ويدافع عن مصالحهم أمام طبقات النبلاء والعسكريين. فمن حرصي على مصالح زملائي ومدافعتي عنهم أطلقوا عليّ هذا اللقب. ولا أدري إن كانت هذه الأنشطة هي الأخرى مراقبة من أمن الدولة أم لا، أنا لا أدعي أنني كنت ناشطا سياسيا، ولا أرغب في أن أطبل لتيار معين، أو أهلل لحاكم أو وزير، بل إنني كنت حريص على عدم استفزاز أمن الدولة، بالامتناع عن المشاركة في أي نشاط سياسي، وأذكر على سبيل المثال أنني أثناء ما كنت طالب في الفرقة الأولى، كان الدكتور إبراهيم عبد المجيد يدرس لنا مقرر "تاريخ أوربا الحديث"، في مدرج داخل حرم الجامعة- وكما قلت لكم كانت كلية الآداب في شارع الثانوية خارج حرم الجامعة- وفي إحدى المرات كنت واقفا مع الدكتور إبراهيم عبد المجيد أمام المدرج، فمرت أمامنا مظاهرة ضخمة، وكانت هذه أول مرة في حياتي أشاهد مظاهرة، وكانت أول مرة في حياتي أسمع اسم مبارك يُشتم علنا، فقد كان اسم مبارك مقدسا في الإعلام المصري، لا يذكر إلا بكل خير، ولم تكن السموات مفتوحة والفضائيات تملأ الدنيا كما هو الحال الآن، فلم يكن هناك سوى القناة الأولى التي تعمل من التاسعة صبحا حتى الثانية عشرة ليلا، والقناة الثانية التي يبدأ إرسالها من الثانية بعد الظهر إلى الثانية عشرة ليلا تقريبا. وكانت المظاهرة تتكون من نحو خمسمئة طالب أغلبهم من الجماعات الدينية ينددون بمحاكمة سليمان خاطر- ذلك الجندي المصري البطل الذي قتل ستة من الإسرائيليين في سيناء- وكانت الصيحة التي يرددها المتظاهرون هي: "يا مبارك يا جبان، يا حليف الأمريكان". إشارة إلى أن المحاكمة التي قام بها القضاء المصري- الشامخ- إرضاء للأمريكيين والإسرائيليين. ويومها سألني الدكتور إبراهيم عبد المجيد: لماذا لا تنضم للمظاهرة وأنا أعرف أنك نشيط؟ وكنت أشعر كأنني محاط بمخبري أمن الدولة، فقلت له: أنا عندي أولويات، وأهم شيء الآن هو أن أتفوق في دراستي وأعين معيدا في الكلية. المهم أنني تفوقت وتخرجت بتقدير جيد جدا، بترتيب الثاني على الدفعة، ولم يشفع لي تفوقي الدراسي، ولا حرصي على عدم المشاركة في الأنشطة السياسية، لكي أعين معيدا، واستلزم الأمر أن أنتظر أربعة عشر عاما حتى يتم تعييني في الجامعة. أنا لا أريد أن استطرد فأحكي سيرة حياتي، أو مراحل كفاحي المرير خلال تلك السنوات العجاف، ولكني سأحكي لكم فقط عن علاقتي بأمن الدولة، ولذلك اختصر كثيرا من الأحداث، ولا أذكر إلا ما له علاقة بهذا الملف، فبعد نحو خمس سنوات من تخرجي أعلنت الحكومة عن فرصٍ للعمل في وزارة التربية والتعليم، وضرورة التقديم في مكتب العمل، وقدمت أوراقي، وصدر قرار وزير التعليم بتعييني مدرسا للغة الإنجليزية في المرحلة الإعدادية، وطلب مني تقديم مسوغات التعيين وانتظار موافقة الأمن، وانتظرت موافقة الأمن طويلا، ولكن لا حس ولا خبر، وأخيرا جاءني المخبر إياه، وقال لي إنني مطلوب في أمن الدولة في شربين، وذهبت إلى شربين، وقابلني هناك رجل يلبس ملابس مدنية، لا أدري إن كان ضابطا أم أمين شرطة، عقد لي جلسة تحقيق مطوّلة، وسألني كثيرا من الأسئلة عن حياتي ونشاطاتي، وشرحت له بكل صدق ما في الموضوع من لبس، وأنني ليس لي أي نشاط سياسي، وبدا لي أنه اقتنع بكلامي، وأخيرا قال لي: لا تقلق، فسوف تعين إن شاء الله. ولكن... (للحديث بقية). **أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بتربية قناة السويس والخبير بدار الكتب المصرية أستاذ مشارك التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الملك فيصل.