طول عمري لم يكن لي أي نشاط سياسي أكثر من مجرد نقد سياسة مبارك أثناء الحديث مع الأصدقاء أو الأسرة، وتوضيح بعض المقارنات والتحليلات التاريخية بين عصره وعصور من سبقوه بحكم المهنة. ومع ذلك فقد صنفني أمن الدولة على أني ناشط سياسي، ومنتمٍ لجماعات دينية متطرفة. وكانت البداية من خطبة الجمعة، حيث تجرأت وألقيت خطبة الجمعة لأول مرة في حياتي وأنا طالب في المرحلة الثانوية في ظرف غياب خطيب قريتنا الشيخ صبحي عثمان رحمه الله. ومن بعدها اعتاد الشيخ صبحي إذا كان عنده مشوار خارج القرية أن يرسل لي يوم الخميس يطلب مني تجهيز خطبه الغد لأنه لن يكون موجودا، وفي البداية كنت أقرأ الخطبة من ورقة، ومع الوقت اكتسبت الخبرة والشجاعة لارتجال الخطبة، وهو ما عودني على المواجهة، وعدم الحرج من الحديث في المؤتمرات والندوات بثقة واقتدار. وحيث إن شعر ذقني كان قد بدأ ينبت، فكثيرا ما كنت أطلق للحيتي العنان، وبذلك اكتملت الصورة لدى مخبري أمن الدولة، وجاءتني الأخبار بأنني مراقب، وعن طريق أحد المعارف- الحاج حمدي الدخميسي- له قريب يعمل مخبرا في أمن الدولة طُلب من والدي- رحمه الله- ومن ابن عمي الأستاذ محمود حامد هلال أن ينصحاني بالتخفيف من هذه المظاهر، وفي الحقيقة لم أهتم كثيرًا، لأن كل خطبي كانت مواعظ دينية، ولم أتكلم يوما في السياسة، كما أن لحيتي كنت أطلقها شهرا وأحلقها شهرا هكذا بغير انتظام ولا منهج معين. وتصادف أن جاء ذلك المخبر هو والحاج حمدي الدخميسي إلى منزلنا يوما بعد صلاة الجمعة، وأنا لا أعرفه، وكنت أجلس في الشرفة (الفراندا) أنا وأخوتي وبعض الأصدقاء نلعب بأوراق اللعب (الكوتشينة) فجلس الرجل مع أبي وابن عمي في ركن من الفراندا ولم نهتم نحن بما يهمسون به، وانشغلنا باللعب، وبعد ذلك عرفت بأنه مخبر أمن الدولة، وأن ابن عمي أقنعه بأنني لا علاقة لي بالسياسة، واقتنع الرجل بكلامه خصوصا وقد رآني ألعب الكوتشينة التي يعتبر بعض المتطرفون لعبها من الكبائر. ومع دخولي الجامعة تطورت الأمور كثيرًا، فبعد حوالي شهر من بداية الدراسة وجدت إعلانا عن فتح باب الترشح لانتخابات اتحاد الطلاب، وحيث كنت مهتما بالقراءة، ومدمنا لشراء الكتب، وعضوا باللجنة الثقافية لاتحاد طلاب مدرسة بلقاس الثانوية للبنين عن فصلي، وكنت أقوم بدور تثقيفي مهم تمثل في تفعيل مكتبة الفصل حيث كنت أستعير من مكتبة المدرسة كتبا منوعة، وأضعها في مكتبة الفصل التي كانت عبارة عن صندوق صغير معلق خلف باب الفصل، وأعيرها للطلاب وأسجل أسماءهم في كراسة لازلت أحتفظ بها عندي في أرشيفي الخاص. وبناء على ذلك كله، فقد قررت أن أرشح نفسي لعضوية اتحاد طلاب الكلية عن اللجنة الثقافية، وملأت الاستمارة، وأعلن اسمي في كشوف المقبولين المرشحين للانتخابات، وحيث إنني كنت جديدا على مجتمع الجامعة فلم أكن أعرف ما الذي يجب أن أفعله للدعاية لنفسي، ولذلك لم أفعل شيئا، غير أني ذهبت إلى الكلية مبكرا صباح يوم الانتخابات لأجد مفاجأة في انتظاري، فقد وجدت اسمي يملأ جنبات الكلية على لوحات من القماش والورق من مختلف المقاسات، ووجدت فرقا من الطلاب توزع أوراق دعاية عند بوابة كليتي- كلية الآداب بجامعة المنصورة، وهي توجد في شارع الثانوية بالمنصورة خارج حرم الجامعة- كما يوزعون اوراق الدعاية في المدرجات وفي فناء الكلية. واستطلعت الأمر، ما الحكاية؟ الحكاية ببساطة أنه كانت هناك أسرتان تهيمنان على الانتخابات: أسرة النور التي قيل لي أنها لها علاقة بالأخوان المسلمين أو إحدى الجماعات الدينية لا أعرف ما هي بالضبط، وأسرة مصر المنتمية للحزب الوطني. وقد تصادف أن كل أسرة رشحت للجنة الثقافية طالبا واحدا، وكان المفروض أن ترشح اثنين (أمين اللجنة الثقافية ونائبه) ومن هنا فضلت كل أسرة أن تدرج اسمي ثانيا بعد مرشحها حتى لا يفوز مرشح الأسرة الأخرى. وكانت النتيجة أن حصلت على جميع الأصوات بنسبة مئة بالمئة، كل من أدلى بصوته انتخب طالبا من إحدى الأسرتين، وانتخبني معه، فأصبحت أنا أمينا للجنة الثقافية، وفاز مرشح أسرة النور بمنصب نائب الأمين. (وللحديث بقية) *أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بتربية قناة السويس والخبير بدار الكتب المصرية *أستاذ مشارك التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الملك فيصل