تعتبر التجربة البولندية في الانتقال الديمقراطي، إحدى التجارب الثرية والمناسبة لشعوبنا العربية ولا سيما "مصر"، فعلى الرغم من الاختلافات بين التجربة المصرية والبولندية في أسباب وأهداف التغيير وطبيعة النظام والمعارضة، إلا أن فكرة الانتقال من نظام إلى آخر فكرة تتشابه كثيراً. حيث شهدت "مصر" و"بولندا" تحولات وتغييرات سياسية سعت كل منهما للقضاء على الظلم والاستبداد والمصاعب الاقتصادية مع اختلاف الفارق الزمني، فعبرت "بولندا" عن ثورتها عام 1989، أما "مصر" فجاءت عام 2011. وقد أثير هذا الموضوع بعد عقد الدكتور "ياسر علي" - رئيس مركز معلومات - دعم واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء اجتماع مع رئيس وزراء بولندا الأسبق "جيرزي بوزيك"، وعدد من الدبلوماسيين، بهدف التعرف على نتائج التجربة البولندية، ومسار التحول الديمقراطي الذي خاضته، وبحث إمكانية استفادة "مصر" من إرهاصات تلك التجربة الرائدة. فما هو وجه الشبه والاختلاف في التجربتين، وهذا ليس من منطلق عمل جدول لأوجه التشابه والاختلاف بين التجربتين، ولكن بهدف الاقتراب من التجارب السابقة للفهم وأخذ العبرة؟!. طريق التوريث وإذا ما أردنا الحديث عن النموذجين، فنلاحظ أن هدف التغيير في "بولندا" كان هو التحول إلى النظام الديمقراطي والسوق الحر، بينما كان الهدف في "مصر" هو القضاء على الفساد والتوريث، وتوفير مستوى معيشة أفضل للشعب الذي كان يعيش أغلبه في ظروف اقتصادية واجتماعية متردية، وكان الانتقال في "بولندا" بمثابة نهاية للحكم الشيوعي السلطوي، بينما كان الانتقال في "مصر"، نهاية حكم ينوى البقاء إلى الأبد عن طريق التوريث. وحول الوضع الاقتصادي والسياسي لكل من "بولندا" في نهاية الثمانينيات و"مصر" قبل الثورة المصرية فكان متدهوراً، ومثل دافعاً قوياً في القيام بالثورة البولندية. حيث تخلل النظام السياسي البولندي حزباً شيوعياً مستبداً، كان الأمين العام للحزب هو بمثابة رأس الدولة، ولم تكن "بولندا" تعرف انتخابات رئاسية ديمقراطية بين مرشحين لأحزاب مختلفة، وقد كان الحزب الحاكم (حزب العمال الاتحادي) حزباً منغلقاً يستخدم العنف ضد المعارضين في الخمسينيات والستينيات، ولم يكن الحزب يتقبل فكرة وجود معارضة أو رأي آخر. بيئة خصبة وعلى نفس المنوال في "مصر" قبل يناير 2011، فشهدت قطاعات عريضة من الدولة مزيداً من الفساد وتدني مستوى المعيشة وغضبٍ عارم ضد ما عرف بمشروع التوريث. كما تخلل النظام المصري حزباً واحداً (حزب الوطني الديمقراطي) حرص هو الآخر على اتباع نفس أسلوب الحزب البولندي، حيث عمل من خلال رئيسه وأجهزته على اعتقال المعارضين له وخاصة من جانب التيار الديني، ودأب على تزوير الانتخابات كي يضمن بقاءه في السلطة، ولعدم نجاحه في التوصل إلى حلول وسط مع المعارضة السياسية - وإن ظهر نوع من الإصلاح المتأخر (حسام بدراوي) -؛ لجأت المعارضة إلى خيار الثورة للإطاحة به. كما عانت المعارضة البولندية هي الأخرى من مساوئ الحكم "الشيوعي"، والتي بدأت منذ الخمسينيات، وتبلورت في 1980، حيث تم قمعها بالأحكام العرفية في 1981. وعلى الرغم من هذا، ظلت المعارضة البولندية المتمثلة في حركة التضامن مثالاً للمعارضة السلمية التي نجحت في توسيع نطاق مؤيديها، وفي نفس الوقت نجحت في التواصل مع النظام، على الرغم من أن هذا النظام هو الذي قام بحلها واعتقال قادته، وهذا هو الفارق بين المعارضة المصرية والمعارضة البولندية. ومن ثم كانت الظروف واحدة قبل قيام الثورتين، ومثلت تلك الظروف البيئة الخصبة لاندلاع تلك الثورات، مطالبة بتغيير الأنظمة القائمة وبناء أنظمة جديدة، ولكن مع اختلاف الفارق في أن الثورة البولندية سعت إلى التوافق والتفاهم حتى آخر لحظة مع النظام القائم، في حين أبت الثانية ذلك، ففي الوقت الذي وجدت فيه المعارضة المصرية العنف والثورة مخرجاً، رأت المعارضة البولندية في التفاهم والحوار حلاً. مرحلة عالقة هكذا كان الحال قبل الثورة، أما الآن في "مصر" ورغم سقوط النظام السابق وتولي الرئيس "مرسي" (رئيس منتخب لم يكمل فترته الرئاسية الأولى) قيادة الدولة المصرية، إلا أن "مصر" ومنذ بداية الأحداث في يناير2011 وحتى الآن ما زالت عالقة في مرحلة الصراع بين النظام والمعارضة؛ حيث استمرت المعارضة في ثورتها ضد النظام حتى الآن. وعلى الرغم من عدم وجود حزب حاكم بعد الثورة المصرية بالمعنى الرسمي والمتعارف عليه في أغلب الديمقراطيات، خلُص المحللون بأن يضعوا حزب الحرية والعدالة أو جماعة الإخوان المسلمين في هذه الخانة، على اعتبار أن الرئيس الحالي هو أحد قادته وممن ينتمون إلى طياته. ويرى البعض أن هذا الحزب يختلف بكثير عن الحزب الحاكم في "بولندا" وخاصة في تعامله مع المعارضة،حيث يعيش الأول في حالة صراع مستمر مع المعارضة، ولم يظهر أي فصيل داخله يحاول التهدئة على عكس الآخر الذي سعى إلى التفاهم. وعن المعارضة البولندية في ذلك الوقت (التضامن)، فكانت تتكون من (10) ملايين عضو وهو ما يمثل ثلث السكان، وكانت تتألف من تيارات سياسية مختلفة وفئات اجتماعية أيضاً مختلفة. وقد استطاعت تلك المعارضة في التواجد في المشهد السياسي في هيئة كيان واحد وقيادة واحدة، وعلى الرغم من احتوائها على بعض العناصر الراديكالية التي كانت ترفض الحوار وترفض السلمية، وتدعو إلى بعض العنف، إلا أن قيادات التضامن استطاعوا أن يقوموا بواجبهم في احتواء هذه الأفكار وهذه العناصر. إخفاق متتالي أما بالنسبة للحالة المصرية، فربما تكون المعارضة قد اتخذت بعض الخطوات الجيدة عندما توحدت في إطار جبهة الإنقاذ الوطني، غير أنها ما زالت لم تصل إلى الدرجة المطلوبة من التبلور والتوحد على غرار قيادات التضامن البولندي. فرغم وجود متحدث رسمي باسم الجبهة وأعضاء بارزين بها وأحزاب كبيرة داخلها، لكنها غير منظمة ويظهر ذلك من خلال تصريحاتها المتباينة والمتعارضة التي تصدر من تيارات تنتمي إلى الجبهة، والتي قد تتعارض مع الموقف الكلى لها. وفشل العديد من رموز المعارضة في محاولة احتواء التيارات الراديكالية والتي تستخدم العنف الفكري والمعنوي قبل العنف الفعلي. وبالتالي أخفقت المعارضة المصرية وخاصة جبهة الإنقاذ التي عُلقت عليها آمال عريضة منذ نشأتها في التواجد في المشهد السياسي بهذا الشكل، حتى اكتفت بالمطالبة بإسقاط النظام بكافة الطرق، ويعد تأييدها لحركة تمرد التي أنشأها الشباب للمطالبة بإسقاط النظام خير دليل على ذلك. كما فشلت بالمثل من الوصول إلى حالة التفاهم مع النظام والحصول على مكاسب منه، والمشاركة في العملية السياسية، كما استطاعت حركة التضامن أن تفعل ذلك من خلال المائدة المستديرة. الوسيط الموثوق ونظراً لتعالي النبرة العالية في الاتهامات بالخيانة والضعف والتراجع لكل من يحاول أن يجد مخرجاً منطقياً للوضع الراهن في "مصر"، والذي يتلخص في الانقسام الحاد بين تيار الإسلام السياسي وبين التيار المدني، افتقرت "مصر" إلى العامل الثالث الذي توفر في التجربة البولندية، والذي ما زلنا نبحث عنه حتى الآن داخل مصر، وهو ذلك الوسيط الذي يستطيع أن يقنع طرفي المعادلة بالوصول إلى نقطة الحوار، ثم يستطيع أن يضمن تنفيذ نتائج هذا الحوار. وقد تمثل هذا الوسيط البولندي في الكنيسة الكاثوليكية، والذي توفرت فيها صفة الحيادية والاستقلالية، وعدم وجود مطالب أو مطامع لها في أي منصب سياسي، سواء في البرلمان أو الرئاسة أو حتى صلاحيات سياسية واسعة،حيث كانت الكنيسة محل ثقة الطرفين بين كل من النظام والمعارضة. على عكس الحالة المصرية اليوم التي سادت، وما زالت تسود فيها لغة التخوين والتشويه لكافة المؤسسات، فلم يصبح لدى المصريين جهة ما أو مؤسسة أو رمز لم يتم تشويهه من جميع الأطراف، كي يقوم بهذا الدور الوسيط. فحرصت جميع الأطراف منذ الثورة وحتى الآن على هدم كل المؤسسات وتشويه كافة الشخصيات التي تعمل في العمل العام، سواء بشكل مقصود أو غير مقصود؛ الأمر الذي أدي إلى استمرار هذا الوضع المتأزم منذ الثورة، وانتقال حلقات الانقسام والمنافسة والصراع من مستوى النخب والأحزاب السياسية إلى مستوى المجتمع سواء مؤسساته أو أفراده. ختاماً ؛ من الضروري اليوم إيقاف هذا المنهج الإقصائي والتشويهي الذي بات يتبناه جميع الأطراف، وإحلاله بمنهج قبول الآخر واستخدام آلية الحوار والتفاهم. علاوة على ذلك، يحتاج حزب الحرية والعدالة إلى تغيير نهجه أو على الأقل ظهور فصيل من داخله يستطيع رؤية هذه المعارضة، وقادراً على طرح بدائل للتعامل معها بشكل أفضل.