وزير التعليم العالي يعلن أسماء (50) فائزًا بقرعة الحج    انتظام التصويت بالسفارة المصرية في الرياض    رئيس جامعة المنوفية يستقبل المحافظ وضيوف الجامعة في احتفال عيدها التاسع والأربعين    ارتفاع سعر الدولار في البنوك المصرية (آخر تحديث)    ميناء دمياط يستقبل 11 سفينة ويصدر أكثر من 43 ألف طن بضائع خلال 24 ساعة    مدبولي: الاقتصاد الوطني حقق نموًا ملحوظًا بمشاركة القطاع الخاص    جامعة أسوان تشارك في احتفالية عالمية لعرض أكبر لوحة أطفال مرسومة في العالم    باسل رحمى: خطة فى بورسعيد لتطوير مشروعات إنتاجية وجعلها قادرة على التصدير    جهود وزارة التموين لمنع محاولات الاحتكار والتلاعب بأسعار السلع.. تفاصيل    اليابان تدين استمرار أنشطة الاستيطان الإسرائيلية    تواصل الاشتباكات الحدودية بين تايلاند وكمبوديا    بحضور بوتين.. مجلس الاتحاد الروسي يوصي الخارجية بالعمل على حوار مع واشنطن والتوصل لتسوية دائمة في أوكرانيا    بيراميدز يتلقى إخطارا بشأن تحديد مواعيد مباريات دور المجموعات لبطولة دوري أبطال أفريقيا    موعد مباريات بيراميدز فى الجولات 3 و4 و5 من مجموعات دوري أبطال أفريقيا    بدء جلسة محاكمة اللاعب السابق علي غزال بتهمة النصب    وكيل تعليم الإسكندرية: مدارس التكنولوجيا التطبيقية قاطرة إعداد كوادر فنية لسوق العمل الحديث    تأجيل محاكمة عامل استدرج صديقه بحجة إقراضه مبلغ مالى وقتله فى شبرا الخيمة لفبراير المقبل    أحمد فهمي يكشف لمعتز التوني في "فضفضت أوي" ذكريات خاصة مع أحمد السقا    عفت محمد عبد الوهاب: جنازة شقيقى شيعت ولا يوجد عزاء عملا بوصيته    أصداء أبرز الأحداث العالمية 2025: افتتاح مهيب للمتحف الكبير يتصدر المشهد    هل يجوز استخدام شبكات الواى فاى بدون إذن أصحابها؟.. الإفتاء تجيب    مستشفى الناس تحتفل بإطلاق مركز الأبحاث الإكلينيكية رسميا.. خطوة جديدة نحو التحول لمدينة طبية متكاملة بِتَسَلُّم شهادة اعتماد من مجلس أخلاقيات البحوث الإكلينيكية بحضور مستشار رئيس الجمهورية وممثل الصحة العالمية    السكة الحديد: تطبيق التمييز السعري على تذاكر الطوارئ لقطارات الدرجة الثالثة المكيفة.. ومصدر: زيادة 25%    سبق تداوله عام 2023.. كشفت ملابسات تداول فيديو تضمن ارتكاب شخص فعل فاضح أمام مدرسة ببولاق أبو العلا    ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي بقيمة 7 ملايين جنيه    قرار جمهوري بتجديد ندب قضاة للجنة التحفظ على أموال الجماعات الإرهابية    مدافع من سيتي وآخر في تشيلسي.. عرض لتدعيم دفاع برشلونة من إنجلترا    تسليم 2833 بطاقة خدمات متكاملة لذوي الإعاقة بالشرقية    شقيقة طارق الأمير تنهار بعد وصول جثمانه لصلاة الجنازة    حوار إسلامي مسيحي لأول مرة بقرية «حلوة» بالمنيا حول ثقافة التسامح في الجمهورية الجديدة (صور)    حسام بدراوي يهاجم إماما في المسجد بسبب معلومات مغلوطة عن الحمل    الاتصالات: إضافة 1000 منفذ بريد جديد ونشر أكثر من 3 آلاف ماكينة صراف آلى    «الصحة» تعلن تقديم أكثر من 1.4 مليون خدمة طبية بمحافظة البحر الأحمر خلال 11 شهرًا    بالأعشاب والزيوت الطبيعية، علاج التهاب الحلق وتقوية مناعتك    إيمان العاصي تجمع بين الدراما الاجتماعية والأزمات القانونية في «قسمة العدل»    الداخلية تكشف حصاد 24 ساعة من الحملات المرورية وضبط أكثر من 123 ألف مخالفة    أمم أفريقيا 2025| تفوق تاريخي للجزائر على السودان قبل مواجهة اليوم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 24-12-2025 في محافظة الأقصر    أمم إفريقيا – براهيم دياز: سعيد بتواجدي في المغرب.. والجمهور يمنحنا الدفعة    وزير الري يحاضر بهيئة الاستخبارات العسكرية ويؤكد ثوابت مصر في ملف مياه النيل    وزيرا التعليم العالي والرياضة يكرمان طلاب الجامعات الفائزين في البطولة العالمية ببرشلونة    ميدو عادل يعود ب«نور في عالم البحور» على خشبة المسرح القومي للأطفال.. الخميس    هاني رمزي: أتمنى أن يبقى صلاح في ليفربول.. ويرحل من الباب الكبير    كيف واجهت المدارس تحديات كثافات الفصول؟.. وزير التعليم يجيب    بولندا: تفكيك شبكة إجرامية أصدرت تأشيرات دخول غير قانونية لأكثر من 7 آلاف مهاجر    الأوقاف: عناية الإسلام بالطفولة موضوع خطبة الجمعة    فاضل 56 يومًا.. أول أيام شهر رمضان 1447 هجريًا يوافق 19 فبراير 2026 ميلاديًا    حمادة صدقي: منتخب مصر فاز بشق الأنفس ويحتاج تصحيحا دفاعيا قبل مواجهة جنوب أفريقيا    الصغرى بالقاهرة 11 درجة.. الأرصاد تكشف درجات الحرارة المتوقعة لمدة أسبوع    بعد تعرضه لموقف خطر أثناء تصوير مسلسل الكينج.. محمد إمام: ربنا ستر    رئيس هيئة الرعاية الصحية: مستشفى السلام ببورسعيد قدكت 3.5 مليون خدمة طبية وعلاجية    وكيل صحة بني سويف يفاجئ وحدة بياض العرب الصحية ويشدد على معايير الجودة    دبابات الاحتلال الإسرائيلي وآلياته تطلق النار بكثافة صوب منطقة المواصي جنوب غزة    رغم تحالفه مع عيال زايد وحفتر…لماذا يُعادي السيسي قوات الدعم السريع ؟    وزير الخارجية يتسلم وثائق ومستندات وخرائط تاريخية بعد ترميمها بالهيئة العامة لدار الكتب    بوتين يرفض أى خطط لتقسيم سوريا والانتهاكات الإسرائيلية    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 24 ديسمبر    فنزويلا: مشروع قانون يجرم مصادرة ناقلات النفط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوبٌ في جبينِ الفجر
نشر في محيط يوم 03 - 10 - 2011

سلسةُ مقارباتٍ ثقافية للحال المصرية بعدَ ثورة يناير2011 م.
حقًا إنه فجرٌ جديدٌ، وعد به الخامس والعشرون من يناير2011 م، لكنْ ثمَّة ندوبٌ في جبينه نخشى أن تتفاقمَ مضاعفاتها.
الحلقة الأولى:
في تفسير ما حدث في ضوء لعبة المجاز والحقيقة
مفتتح:
لعل أولَ سؤالٍ يغازل التلقي في هذا الاستهلال هو لماذا هذا العنوان:
"ندوبٌ في جبينِ الفجر" الذي جعلته عتبةً للدخول لسلسلة المقاربات التي ترهص لها هذه الحلقة؟
والإجابة على هذا السؤال تقتضي شقين:
أولهما: أن العنوان ليس شيئًا ترفًا أو نافلةً من القولِ تقف اعتباطًا على باب الكلام، بل هو- كما يذهب المشتغلون بالخطاب- المضمون المكثف لما سيرد تحته من دراسات وتحليلات لواقعٍ ما، أو لظاهرةٍ ما، أو لكلامٍ ما. فعنوانُ الكلامِ مركزُ دلالاته، وعتبةُُ الدخول لمعناه وأبعاده. فهو (أي العنوان) لا يجيء اعتباطيًّا، ولا يَهَبُ نفسهُ للحديثِ مجانًا، وإنَّما يجيءُ علامةً لُغويةً ترابطُ عند مُدْخَلِ الحديث، فتصبحُ جوازَ مرورٍ نحو مكامن المعنى، بل تصبحُ - أيضًا– وسيطًا فاعلاً بين الكلامِ ومتلقيه. وهذه من بعض السمات الوظيفية اللغوية للعناوين وفق ما تذهب إليه المدارس الحديثة جلها في مقاربات الخطاب.
وثانيهما: أن عددًا من الندوب بدأت – بالفعل - تعتور جبين الفجر الجديد (المراوغ حتى لحظة كتابة هذه السطور)، الفجر الذي ناضل من أجله المصريون وضحوا بأرواح شبابهم فداءً له. وقد ظهرت بعض هذه الندوب – التي نسوق بعضها على سبيل المثال لا الحصر - جليَّةً فيما يحدثُ من استقطابٍ بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة حول هوية مصر السياسية والثقافية خلال المرحلة المقبلة
هل هي ليبرالية/ حداثية/ مدنية؟ أم إسلامية؟ - (فيما يسلم العقل والمنطق السليم للمثقف المنتمي لحضارته وتراثه العربي والإسلامي- كما سنوضح في مقالةٍ لاحقة - بعدم التعارض بين الديني والمدني) ،
إذ يتضح لدى كل فصيل فكري أو سياسي رغبته في إقصاء الآخر، فيما يجدر بهذه الفصائل وتلك التيارات أن يكون الاستقطاب فيما بينها حول ملامح خارطة طريق تضع مصر على عتبات المستقبل سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ومن ثمَّ حضاريًّا. وليس أدل على خطورة هذا الاستقطاب من محاولات المد والجزر التي دارت ولم تزل تدور رحاها بين التيار الإسلامي وفريق العلمانية حول مسألة الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً ،
وأي ثوبٍ يليق بمصر أن ترتديه خلال القادم من الزمن: الثوب المدني أم الديني. كل ذلك انعكس ولم يزل ينعكس على وتيرة التفاعلات السياسية الراهنة في البلاد والتي منها النتائج المتواضعة للاجتماعات التي تتم بين المجلس العسكري وقادةِ الأحزاب السياسية.
وهذه الندوب هي فقط على سبيل المثال لا الحصر كما ذكرنا. وكما تؤكدها شواهد الواقع وبقاء الحال حتى الآن على ما كانت عليه قبل بشائر الفجر المراوغ؛ فمنذ أن نجحَ شعار "ارفع رأسك فوق أنت مصري".. الذي كانت منحوتة ثوريةً بامتياز من منحوتات ميدان التحرير،
منذ أن نجح هذا الشعار في خداعِ الوجدان ودغدغة مشاعر بنات الأحلام التي تتوق نسائمَ الحُرية، منذها وأنا أراقب المصريين حولي : من منهم سيجرؤ على رفع رأسه أولاً؟، فمنذها وحتى الآن وهم حائرون ..يحاولون.. يفشلون.. يعاودن .. يخفقون، فما أن يرفع أحدهم رأسه إلا وتنخفض ثانيةً إلى أسفل ، بعدما ينقلب إليها البصر خاسئًا وهو حسير ! فأثقال كثيرة تتآمر على الرأس المسكينة فتحنيها حتى ليكادُ أسفلها يلتصق بصدر حاملها. فالدَّيْنُ مفجع، والفقر مدقع، ورصاص البلطجية ووميض أسلحتهم البيضاء يتسيد الموقف فوقها ساخرًا منها ومن حاملها، فتفضل الرأس المسكينة الانحناء لأسفل ليسلم حاملُها من شَرَكيْن: شَرَك البلطجة فوقها، والشَرك الذي نصبته لها بالوعات الصرف وحُفَرُ الطريق ومطباتُها من تحتها..منذها وحتى الآن ولم يجرؤ مصريٌّ على رفع رأسه ،
فيا للعجب !. ثمانيةُ شهورٍ وخير أجناد الأرضِ إما فاقدو الحيلة في تأمين الشارع المصري وإمَّا أنهم لا يريدون ذلك في الأساس لحاجةٍ في نفس يعقوب لا يعلمها إلا القائمون على الأمر في مصر المحروسة.
تفسير ما حدث في ضوء لعبة المجاز والحقيقة - تكثرُ وتتكاثرُ، وطبيعيٌ ومنطقيٌ أنْ تكثرَ وأن تتكاثرَ الأسئلة الثقافيةُ الباحثةُ في تفسير ما حدث وما يحدث وما يتوقع له الحدوث خلال القادم من الزمن، في ضوء ثورة يناير2011 م. فالمعروفُ أن الكلامَ، كلَّ الكلامِ أو معظَمَهُ يفرضهُ منطقُ السؤالِ عن السببيةِ والكيفيةِ، في ضوء علاقة هاتين بكلٍّ من الزمان والمكان والبشر. وكما يقولُ المتنبي:
فقليل من الكلام اشتياقٌ وكثيرٌ من ردِّهِ تعليلُ.
ولأن ما حدث أبعد وأكثر غموضًا وعمقًا من أن يطالَهُ غوَّاصٌ ماهر، فضلاً عمَّن يدعون الغوص، ولكونه غامضًا ومدهشًا فهو مثير للأسئلة، وكما يقول نيل أرمسترونج عالم الفضاء الأمريكي الشهير:
"الغموضُ يخلقُ الدهشةَ والتساؤلَ، وهما معًا يجسدانِ أساسَ رغبةِ الإنسانِ في الفهمِ والمعرفة".
كما أننا أبناء ثقافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ أعلت من شأن السؤالِ، وجعلته مفتاح الرؤية ومفتاحَ العلمِ والمعرفة والثقافة، بل ومفتاح المشاركة في الحياة العامة. فنحن أبناء ثقافةٍ مرتكزاتها تقوم على القرآن والسنة.
القرآن الذي لم ينكر على سائلٍ سؤالَهُ مرةً، ولم يحجر - مرةً - على سؤالٍ، فضلاً عن كونهِ لم يحجر على الأسئلة المغرضة التي لم تسع لمعرفةِ الحقِّ، ومن ثمََّ لإحقاقه وإقراره والعمل به، وإنما سعت ولم تزل تسعى لإبطاله والتشكيكِ فيه، فقد جاء النص القرآني يحترم السؤال ويُجِلُّهُ ويجعله مدخلاً لحوارِ الأخذ والعطاء من منطلقاتٍ حضاريةٍ بحتة. فقال ضمن ما قال: "يسألونك عن الروح قل الروحُ من أمر ربي" (الإسراء 85).. "يسألونك عن الساعةِ أيانَ مرساها..." (الأعراف 187، والنازعات 42).. والآيات في هذا السياق كثيرةً.
وقد جاءت السُّنَّةُ معليةً من شأن السؤال بوصفه أداةً وطريقةً للتعلم، فضلاً عن كونه مفتاحًا للمعرفةِ وللعلم ولليقين والتثبيت على الإيمان وعلى الحق. فقد جاء في صحيح مسلم عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منّا أحد. حتى جلس إلى النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيهِ إلى ركبتيهِ ووضعَ كفيهِ على فخذيه، وقال:
"يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا).قال : صدقت.
فعجبنا له، يسأله ويصدقه‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌؟.... الحديث.
فالسؤال هو جوهر ثقافتنا في الأساس نحن أبناء الثقافة العربية التي قال سفيرها ذات شعرٍ:
ولو أنِّي جُعلت أميرَ قومٍ لما قاتلتُ إلا بالسؤالِ
فإن الناسَ ينهزمون منهُ وقد ثبتوا لأطرافِ العوالي.
لذا فالحديثُ في هذه الحلقة يبحث من منظور الإبداع في تفسيرٍ مغايرٍ لما حدث، أي في تفسير يومِ الخامس والعشرين من يناير من وجهة نظر فلسفية لا تنكر على وجهات النظر الأخرى ما ذهبت إليه من تفسير وأسباب للحدث العظيم، وإنما فقط تحاول أن تقدّم تفسيرها الخاص من وجهة نظر إبداعية.
لقد هيمن المجازُ في عهد الرئيس المخلوع على كلِّ شيءٍ حتى أصبحَت المجازات ركيزةً أساس في الحكم والإدارة وكسب ثقةِ الشعب، فرئيسٌ لم يكن مؤهلاً أن يكونَ رئيسًا وفق ما يقتضيه تاريخُ مصر وحضارةُ مصر وريادتها وعروبتها، وما يجب أن تكونَ عليهِ درجة حضورها الإقليمي والدولي، ولكن لعبة المجازات التي درج عليها الخطاب الإعلامي والخطاب الفني الموجه جعلت منه رئيسًا وصانعًا لنصر أكتوبر وحكيمًا واستراتيجيًّا من الطراز الرفيع الذي روّجت له المجازات الخائنة في خطابنا الإعلامي وفي خطاب الرئيس نفسه (الذي غيّر مفهوم "المعركة" عبر لعبة المجاز من كونها دالاًّ استراتيجيًّا لتصبحَ دالاً اقتصاديًّا فحسب، ألم يقل أكثر من مرةٍ في خطاباته سأخوض معركة التنمية، أو خضنا معركة التنمية، وتعبيرات مجازية أخرى من هذا القبيل تنزاحُ بمفهوم المعركة من دلالاته العسكرية لدلالات أخرى مراوغة؟!)، بل ورجل الحرب والسلام، وقائدًا لمسيرةٍ من الإصلاح هي نفسها كانت مسيرةً من المجاز فلم يكن الإصلاحُ إلا فيما تقوله وتسوغه مفردات الخطاب السياسي والإعلامي التي كانت تتحدث كثيرًا مدعومة بالصور المختلقة عن مصر التنمية، ومصر الصناعة، ومصر السياحة، ومصر الخضراء - (كأننا لم نعرف أن نصيب الفرد من المساحات الخضراء في القاهرة لا يتجاوز بضع عشر سنتيمترا، فيما يزيد عن 20 مترًا مربعًا في عواصمَ أوروبية كثيرة).
وما احتضنته الأقواس في الفقرة السابقة ليس إلا غيضًا من فيضٍ سقناه فقط مثالاً للتدليل الحي على خطورة شِراك المجاز وألاعيبه ودوره في توطيد دعائم دولةِ الافتراض والترويج للحكم المستبد الفاسد، بعد استمراء المصريين لكؤوس الخديعة المُعَدَّة لهم على موائد الكذب الصريح تارةً، والكذب المتوسل بتراكيب المجاز تارةً أخرى.
وبألاعيب المجاز نفسها صنع الإعلام المصري وزيرًا من المجاز وسفيرًا من المجاز (وقد كان لصاحب هذه السطور أن تحدث مع بعض سفراء مصر خلال ذلك العهد المشار إليه؛ فكانت تصفعه الدهشة بسؤالها: كيف أصبح هذا الرجل سفيرًا لمصر؟ كيف وهو لا يحسن إدارة الأحاديث البينية العادية، فضلاً عن الرسمية؟ كيف وهو لم تستقم في كلامه جملة واحدة، بما يعكس نضوبًا في وعيه وشُحًّا في معرفته لا يقلان عن مثيليهما فيمن اختاره لهذا المنصب الدبلوماسي الرفيع .. ما المعايير التي أعملها النظام حتى تصبح واجهة مصر الدبلوماسية بهذا السوء؟!) وحكومات متوالية قوامها وزراء تم إعمال الولاء بدلاً من الكفاءة شرطًا لتنصيبهم، ومجالس تشريعية لم تكن – أيضًا – إلا مجازًا كبيرًا أوجده التزوير وسوّغه وكرّس له الخطاب الإعلامي، حتى تحول الشعب نفسه إلى شعبٍ من المجاز أكله الهم والعوز والحاجة، فلم يبق من أفراده إلا خشبٌ مسندة، لا نبض فيها ولا روح، ولا حلم تعيش النفوس من أجله. بعد أن شُغِلَ الناسُ برغيف الخبز (الحاف، بل الحافي مع وافر التحية لمن حفر في ذهني وجع الخبز الحافي، الأديب الراحل محمد شكري صاحب رائعة "الخبز الحافي").
هكذا دشنتِ المجازاتُ دولتها، وبنى الافتراضُ إمبراطوريته الفاسدة الأمر الذي جعل كاتب هذه السطور يَصرِخُ- ذات شعرٍ - في وجه المجاز قائلاً:
أريدُ مجازًا يُروِّضُ وجهَ الرؤى في الظلامْ
ويكْشِفُ عمَّا يُكِنُّ الخبيئُ،
وإنِ خَوَّفَتْهُ فِخَاخُ الكلامْ
ويفْتَحُ نافذةً من يقينهْ
على ضفةٍ
من رؤاهُ العميقةْ
أريدُ مجازًا
يقولُ لآلهةٍ من مجازٍ مخادعْ
وهِمْتمْ؛
فإن الذين بَنَوْكُم ضعيفو المواهبْ
إذا الحرفُ شرَّحَ ما سطَّروهُ
تبينَ كيفَ تكونُ العِبارةُ عاهرةً
وفقَ كلِّ المذاهبْ.
q خلاصة القول إننا كنا نعيش في دولةٍ من الافتراض ليست من الحقيقة في شيءٍ، حتى جاءت اللحظةُ الفارقة، تلك اللحظة التي تواجه فيها عالمان: عالم الفيسبوك وسائر وسائل التفاعل الأخرى عبر الشبكة العنكبوتية، وهو العالم الافتراضي الذي شكّل عينَ الحقيقة في تلك المواجه، وعالم الحقيقة الذي شكل عين الافتراض ممثلاً في دولة المجاز التي سوق لها الإعلام الرسمي على أنها دولة الرفعة والازدهار والحرية، دولة المؤسسات والأحزاب، دولة الرئيس الملهم والحكومة الرشيدة، فإذا بعالم الفيسبوك العالم الافتراضي يصبح عالم الحقيقة يزمجر فيستحث لاءات الرفض في مراجلها فتغلي فتذيب جليد المجازات على الرغم من عتاب صاحب هذه السطور على مريدي هذا العالم ظنًّا منه أنه لم يعد لديهم سوى تداول النقد وصب مشاعر الغضب على رموز الفساد حروفاً وأحاديث عبر ذلك العالم الافتراضي، فيما تقتضي لحظة التغيير العبور من نعومة الفرض إلى جسارة الواقع عبر النزول إلى الشارع، فقال فيهم في قصيدة بعنوان سيدة الافتراض، التي نشرت قبل الثورة بأيامٍ:
....
فلِكلِّ فاتحةٍ عناءُ البدءِ...
لكِنْ...ثمَّ خطوٌ
مثلُ وجهِ الصبحِ يدركُ خيبةً كبرى
على وجهِ البدايةِ
حينَ وحدكَ لا تزالُ متيمًا بِغَدِ الحقيقةِ،
فيما كلُّ الناسِ حولكَ لا تعيشُ سوى افتراضٍ
لا تقولُ سوى افتراضٍ
لا تحبُّ سوى افتراضْ
فالحبُّ...
والأحلامُ...
والأملُ المرصَّعُ بالندى محضُ افتراضْ:
فالناس تَضْحَكُ عبرَ شاشاتِ "المَسِنْجَرْ"
والحزنُ والأفراحُ يجمعهمْ إذا اتسعت بهمْ
سِجَّادةُ النقالِ أو بهوُ الحديثِ المستفيضِ
على ضفافِ "الشاتِ"
أو رملِ "المَسِنْجَر "
والحاكمُ الأبديُّ قد يُقصى عن الكرسيِّ
(في الفِيسبوكِ)...
أو عُرْفِ "المسنجرِ"
في بلادٍ كلُّ ما فيها افتراضْ.
* كاتب وشاعر من مصر...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.