لعل مبدأ تكافؤ الفرص وسيادة القانون هو حجر الأساس في الدولة القانونية التي تسعى إلى إقرار مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية في كل نواحي الحياة بين الحاكمين والمحكومين، لكن انتشار الفساد الإداري الذي استشرى عبر ما يعرف "بالواسطة" مثل أهم العقبات التي تصطدم بها مساعي الحفاظ على دولة القانون والمؤسسات. وفي الوقت الذي تعالت فيه هتافات الربيع العربي تحت شعار "عيش..حرية..عدالة اجتماعية" ومع تعليق تطلعات أبناء الربيع العربي على ثورات أسقطت أنظمة ديكتاتورية، واعتقدوا أن ظاهرة الواسطة المرتبطة بالمحسوبية والنفاق الاجتماعي ذاهبة إلى الزوال، باتت الآمال معلقة بحالة من الشك حول هذه الإمكانية، في ظل إشارة تقديرات العديد من المنظمات الأهلية والحقوقية العربية والدولية إلى أن الواسطة لا تزال تنشط في دول الربيع العربي. ومن الملاحظ في بعض الدول العربية أن الواسطة ازدهرت حتى أصبحت تمثل ظاهرة في مجتمعاتنا، بل إنها تحولت إلى تجارة يدر منها "سماسرة" مختصون مبالغ مالية من مواطنين غلبهم الجهل إلى جانب إحساسهم بالظلم من سلطات ومسؤولين يمارسون القمع على الضعيف لحماية القوي، مما جعل العديد من الباحثين يفتشون فيما وراء الأسباب التي تؤدي إلى تفشي هذه الظاهرة في المجتمع العربي، وكذلك تداعياتها الخطيرة التي تستوجب البحث عن السبل الكفيلة للقضاء عليها. ثقافة أم ممارسة؟ وبعد انتشارها بصورة سريعة ومنذرة للخطر، أصبحت الواسطة جزءً من الحياة اليومية للأفراد، ومحدداً لطبيعة العلاقات فيما بينهم، وأحد أوجه نفوذ الشخص وتشعب مصالحه ومعارفه ومكانته الاجتماعية. ويمكن تقسيم الواسطة إلى نوعين أحدهما محمود أو ما يطلق عليه (الشفاعة الحسنة) وهي مساعدة شخص ما في الحصول على حق يستحقه شرعاً أو نظاماً أو إعفائه من شرط لا يجب الوفاء به، أو مساعدته في الحصول على حق لا يلحق الضرر بالآخرين، والنوع الثاني من الواسطة "المذموم" وتهدف إلى الحصول على حق غير مستحق لشخص أو إعفائه من واجب ملتزم به، وفي كلا الحالتين يلحق ضرر بالآخرين، وهذا النوع من الواسطة هي المتفشية بين أفراد المجتمع وفي أغلب الجهات الحكومية. فهي تعد إحدى ظواهر الفساد المتعلق بالجانب الإداري سواء في القطاعات الرسمية أو غير الرسمية، إذ ترتبط بتجاوز النظام والقانون والمؤسسات للوصول إلى الأهداف الشخصية بواسطة شخص يستطيع عمل هذا التجاوز بالتحايل على القانون والمؤسسات. ويعود السبب في تفشي ظاهرة الواسطة إلى شبكة من الأسباب الاجتماعية المعقدة، منها المتعلق بترابط أفراد المجتمع وما تقتضيه من دواعي المساعدة ومد يد العون وهو أمر حميد إذا لم يسبب ضرراً لأحد، ولكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، فضلاً عن الأسباب البيروقراطية الإدارية في عمل الأجهزة الحكومية من تعقد وطول الإجراءات والشروط للخدمات المقدمة وعدم وضوح الأنظمة وتضاربها والتهاون في تطبيقها وغياب الشفافية والرقابة على أعمالها. وإذا كانت الواسطة ظاهرة لا يخلو منها أي مجتمع، فإن خطورتها في ازدياد مستمر، فهي بالقطع تؤدي إلى تآكل سيادة القانون وفشل المؤسسات، وتكون أخطر ما يمكن عندما يصبح اللجوء إليها عرفاً اجتماعياً، بل وأخطر من ذلك عندما ترتدي لباس الدين تحت عنوان: "قضاء الحاجات" أو "الشفاعة". خطورة بالغة. بيد أن موجة الربيع العربي التي تفجرت منذ عام 2011 دليل صارخ على تداعيات الفساد التي استشرت في المجتمع في صورة "الواسطة" والتي وصلت إلى حد الآثار المدمرة التي يصعب حصرها على كافة المجالات السياسية والاجتماعية وبالأخص على المستوى الاقتصادي، وأكدت العديد من الأبحاث على ضعف النمو الاقتصادي في ظل انتشار تلك الظاهرة، مما تسبب في انتشار البطالة وغياب الكفاءات الإدارية. ويؤكد الباحثون في مجال التنمية البشرية أنه لا يمكن الفصل بين التنمية في صورتها الحقيقية، وما تحويه من مفاهيم كالمساواة والعدل والتمكين من الحياة الكريمة لجميع المواطنين، سواء في التعليم والحفاظ على حقوق الأجيال القادمة أو بالاختيار للعمل بناءً على الكفاءة لا الوراثة أو المحسوبية. مواجهة مطلوبة وفي ضوء التحليل السابق لأسباب تفشي ظاهرة "الواسطة" والآثار المدمرة لها، يجب التنبيه إلى أن محور العمل للحد من تفشي هذه الظاهرة في المجتمع يتطلب تضافر جهود مؤسسات المجتمع المختلفة في إطار منظومة شاملة. فعلى المستوى الرسمي، يحتاج الأمر إلى إجراءات فورية لفرض تغيرات هيكلية تتعلق بالإصلاح القانوني وتوفير الغطاء الرقابي والمؤسسي اللازم في بيئة يسودها الوعي الاجتماعي والثقافي الذي يسهل من تكريس هذه الحلول. لذا؛ من الضروري زيادة الوعي الاجتماعي بخطورة تلك الظاهرة من خلال الأسرة والمدرسة، وإرساء مبدأ العدل وتكافؤ الفرص، فضلاً عن ضرورة تعزيز مؤسسات المجتمع المدني من دورها في نشر هذا الوعي لإحكام خطة شاملة من الرقابة والشفافية في أعلى مستوياتها في كل مؤسسة عامة أو خاصة، مما يساعد على خلق ثقافة مغايرة ومناهضة لثقافة الواسطة. ومن هنا، يتحمل المجتمع بأكمله ضرورة المواجهة المطلوبة للكشف عن الواسطة في كل القطاعات، والابتعاد عن العشوائية وشبكة العلاقات المتشعبة، التي تؤدي في النهاية إلى انهيار قيم العمل وأخلاقياته، مما ينعكس بالسلب على الخدمات المقدمة للمواطنين وبالتالي الإنتاجية الاقتصادية بوجه عام.