استشهاد 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    لحظة وصول بعثة الأهلي مطار قرطاج استعدادا للعودة إلى مصر (فيديو)    تشكيل الزمالك المتوقع ضد نهضة بركان في إياب نهائي الكونفيدرالية.. جوميز بالقوة الضاربة    رئيس «مصر العليا»: يجب مواجهة النمو المتزايد في الطلب على الطاقة الكهربائية    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    بعد الانخفاض الكبير في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد بالمصانع والأسواق    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    حزب الله يستهدف عدة مواقع لجيش الاحتلال الإسرائيلي.. ماذا حدث؟    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    حماية المنافسة: تحديد التجار لأسعار ثابتة يرفع السلعة بنسبة تصل 50%    اسكواش - وأخيرا خضع اللقب.. نوران جوهر تتوج ببطولة العالم للسيدات    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    محمود أبو الدهب: الأهلي حقق نتيجة جيدة أمام الترجي    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    الأرصاد الجوية تحذر من أعلى درجات حرارة تتعرض لها مصر (فيديو)    حقيقة تعريض حياة المواطنين للخطر في موكب زفاف بالإسماعيلية    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    مصطفى قمر يشعل حفل زفاف ابنة سامح يسري (صور)    حظك اليوم برج العذراء الأحد 19-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أصل الحكاية.. «مدينة تانيس» مركز الحكم والديانة في مصر القديمة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    قفزة جديدة ب160 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الأحد 19 مايو 2024 بالصاغة (آخر تحديث)    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    رئيس الموساد السابق: نتنياهو يتعمد منع إعادة المحتجزين فى غزة    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    ماجد منير: موقف مصر واضح من القضية الفلسطينية وأهداف نتنياهو لن تتحقق    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    رغم تعمق الانقسام فى إسرائيل.. لماذا لم تسقط حكومة نتنياهو حتى الآن؟    تزامناً مع الموجة الحارة.. نصائح من الصحة للمواطنين لمواجهة ارتفاع الحرارة    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الهبوط والعصب الحائر.. جمال شعبان يتحدث عن الضغط المنخفض    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    مصرع شخص في انقلاب سيارته داخل مصرف بالمنوفية    مسلم يطرح أحدث أغاني ألبومه الجديد «اتقابلنا» (تعرف على كلماتها)    «فايزة» سيدة صناعة «الأكياب» تكشف أسرار المهنة: «المغزل» أهم أداة فى العمل    إعادة محاكمة المتهمين في قضية "أحداث مجلس الوزراء" اليوم    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    نقص أوميغا 6 و3 يعرضك لخطر الوفاة    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل جديد للثورات - ثورة المفكرين (23)
نشر في محيط يوم 07 - 02 - 2013


: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية
بقلم د محمد رؤوف حامد

بالنسبة للثورات العربية, يمكن القول أنه, فى ظل سطوة الأنظمة الدكتاتورية طويلة الأمد, والتى تسيدت على شعوبها فى البلدان العربية على مدى عقود, صارت "جماعية" جماهير المواطن العادى هى البديل الوحيد للتغيير. ذلك بعد أن كانت هذه الدكتاتوريات قد نجحت فى تطبيع وتهذيب وتلجيم القوى السياسية فى بلدانها, الأمر الذى كان يجرى بالتوافق (فى المصالح الخاصة) مع قوى النيوليبرالية العالمية.

وهكذا, أضحت "جماعية" المواطن العادى فى الأقطار العربية تُمثل الفعل الثورى (أو المدخل الى الفعل الثورى) الجديد فى هذه المنطقة من العالم.

لقد كانت هذه "الجماعية" هى المدخل الوحيد الممكن للتغيير (الذاتى / الوطنى), ولقد ساهمت تطورات تكنولوجيا الإتصال والمعلوماتية, أو وسائط التواصل الإجتماعى (والتى تُعد أحد ملامح الثورات الميكرو), فى جعلها (أى الجماعية) تبزغ بسهولة نسبية, وتصير أمرا واقع.

وإذا كان الفعل الثورى, والمتمثل فى هذه الجماعية, قد جاء مفاجئا للمراقبين, ولشعوب الشمال, فإنه لم يكن كذلك بالنسبة للبعض فى الداخل العربى (والمصرى على وجه الخصوص), وذلك من منظور ماكان قد جرى طرحه عام 2007 من وجود "دورة زمنية للتغيير" يُتوقع بمقتضاها قدوم تغيير سياسى كبير فى مصر فى الفترة 2009 (+ أو – عامين). [فى هذا الخصوص يمكن مراجعة كتاب "ثورة 25 يناير: من أين والى أين؟ – دار المعارف – القاهرة – 2011", و كذلك مقال "الحركات الإحتجاجية.. ماذا يتبقى منها بعد عامين؟ - جريدة البديل المصرية – 23 أغسطس 2008].

من المنظور المعرفى, جاءت "جماعية جماهير المواطن العادى" كتعبير بالغ الدلالة عن تغير فى "الوعى الجمعى" Collective consciousness للشعوب, ووصول هذا الوعى الى قمة عالية, خاصة تجاه شيوع الفساد, وغياب العدل, وممارسات الإحتقار.

إضافة الى ذلك, بدء الوعى الجمعى هذا يؤثر إيجابيا على مايمكن أن يكون قد ترسب عبر زمن طويل نسبيا (عقود وقرون) داخل "اللاوعى الجمعى" Collective unconsciousness من خصائص سلبية, كان من شأنها إبطاء ردود الأفعال الغاضبة تجاه سياسات الحكام. من أمثلة هذه الخصائص, والتى صارت تتعرض للتغير الآن, ملاحظات للعلامة المصرى الراحل جمال حمدان عن غلبة سلوك اللامبالاة عند الإنسان المصرى من خلال تمكُن صفات خمس منه ، وهي التدين والمحافظة والاعتدال والواقعية والسلبية.

وهكذا, يمكن التوقع بأن ماحدث من تقدم فى "الوعى الجمعى" لجماهير المواطن العادى فى البلدان العربية, سيكون من شأنه إحداث تغييرات وتطويرات حميدة داخل "اللاوعى الجمعى". من أمثلة ذلك مايمكن إعتباره (على الأقل فيما وضح حتى الآن فى النموذج المصرى) بزوغ ملحوظ لرغبة المواطن العادى فى تحسين معرفته السياسية, و تنامى متصاعد فى قدرته على "التعلم الذاتى"وتطوير رؤاه.

النموذج المُجسم هنا (بشأن التعلم الذاتى) يتمثل فى إجماع غالبية جماهير المواطن العادى فى مصر على التصويت لصالح قوى الدين السياسى (فى الإنتخابات البرلمانية), ثم بدء الشك المنهجى (التلقائى), بناء على الممارسات الواقعية, فى مدى صلاحية الجمع بين الدين والسياسة, وكذلك بدء الفهم العام (والإستيعاب) لماهية وطبيعة "القوى المضادة للثورة".

أما عن قوى الشمال السياسى (قوى النيوليبرالية, والإدارات الحاكمة, وعلى رأسها الإدارة الأمريكية), فبرغم أن حدوث الإنتفاضات الثورية العربية (من خلال "جماعية" المواطن العادى) لم يكن فى حدود توقعاتها بدرجة كبيرة, إلا أن هذه القوى قد مارست (ولازالت تمارس) فعلها فى التأثير – الإنحرافى – على مصائر هذه الإنتفاضات (أوالثورات) بحِرَفية عالية.

فى هذا الخصوص يمكن الإشارة الى مشهد التقارب الذى حدث بين الإدارة الأمريكية و الإخوان المسلمين (فى مصر), منذ مابعد الثورة مباشرة (أى قبل الإنتخابات البرلمانية), والذى قد أخذ فى التصاعد تباعا.

فى نفس السياق, يمكن الإشارة الى تدخلات مثيلة (وإن إختلفت فى الكم والنوع) من جانب قوى الشمال السياسى الرسمى (الحكومات والإتحاد الأوربى .. الخ) مع أوضاع وتداعيات الإنتفاضات الثورية فى البلدان العربية الأخرى.

وبينما كان من الطبيعى أن تبزغ الثورات الشعبية العربية من خلال جماعية المواطن العادى, وبدون رأس قيادية جماعية لها, مما أدى الى حيودات وإنحرافات عن المسارات الثورية المفترضة (وذلك تحت تأثير كل من القصور الذاتى للديكتاتوريات الحاكمة ,أو التى كانت, والضعف المزمن للقوى السياسية التقليدية, والتدخلات الأجنبية), فإن من المتوقع أن يكون للمذاق الشعبى للوعى الجمعى الجديد عند المواطن العادى أثره فى إحداث إستكمالات وتصحيحات ثورية تالية.

قد ينظر البعض بإستغراب وتساؤل بشأن تفضيل الغرب النيوليبرالى لإستحضار "الدين السياسى" الى قمة الحياة السياسية فى المنطقة العربية.

فى هذا الخصوص تجدر الإشارة الى أن هذا النوع من الغرب قد سبق وأن ساهم فى إستحضار و / أو إستخدام ودعم الدين السياسى (أفغانستان والعراق كنموذجين). معنى ذلك إذن أن الإشكالية الحالية للدين السياسى فى البلدان العربية لاتبزغ صدفة, حيث هى تمثل خطورة كبرى و "مركبة". وذلك لعدة أسباب, يمكن الإشارة الى بعضها فيما يلى:

أ‌- أن من شأن تبؤ الدين السياسى للسلطة, فى أية دولة عربية, إستحضار سياقات سلبية تكون هذه الدولة فى غنى عنها, وذلك مثل:

- تعريض البلاد لنار سلاسل الفتن الدينية, والتى يمكن أن يكون لكيانات خارجية دورا فى منهجتها وتزكيتها.

- إتاحة التبرير لشرعية هُوية إسرائيل ككيان سياسى قائم على الدين.

- عرقلة إمكانات وسرعات تقدم البلاد, حيث المنظور الدينى لايمكن أن يكون إلا عنصرا واحدا من عناصر التقدم الحياتى, وليس
عنصرا مهيمنا على بقية العناصر(والتى من أمثلتها العلم والتكنولوجيا والصناعة والإقتصاد ... الخ).

- إخصاب المناخات والسيناريوهات التى تعمل على إعادة تقسيم بلدان المنطقة العربية, من منظورات تفتيتية, خصوصا بالإعتماد على زرع التجزيئات, وتنمية الفتن الدينية (والمذهبية).

ب - أن المرجعية الدينية (أو الروحية) السياسية تُعدُ نموذجا تلقائيا (وطبيعيا) لمسألة (أو نقيصة) تحديد (وتحجيم) دائرة الإنتماء (للأفراد والكيانات) على أساس أخلاقى و/أو روحى خصوصى Moral circle .

ذلك بمعنى أن هذه المرجعية (بشكلها السياسى) تتجه الى الفصل أو التمييز بين "من هم معنا (أو مثلنا أو متعاطفين معنا)", و آخرين ممن هم "ليسوا معنا (أو ليسوا مثلنا أو ليسوا متعاطفين معنا)", الأمر الذى يقود الدين السياسى الى تقليصات فى الإنتماءات, يكون من شأنها الإنحدار بالأطر المرجعية للسياسات, ولعمليات إتخاذ القرار وإختيار القيادات, الى مستويات أدنى من مستوى المرجعية الوطنية, مما يعضد التفتت والتخلف.

ذلك كله إضافة الى الرجوع بالشارع السياسى الوطنى الى الخلف ثقافيا ومجتمعيا, الأمر الذى يحول الممارسات السياسية الى صراعات لإيقاف الإنحدار المجتمعى وتجزأة الوطن, بدلا من النضالات الممكنة فى إتجاه معاناة – وإستحضار – التقدم (الحالة المصرية نموذجا).

وإذا كان ماذُكر أعلاه يتعلق ب "الجماعية" فى التعبير عن الرفض فى الثورات العربية, فماذا عن "الجماعية" فى الحركيات الشعبية الغربية الموازية؟

كما يرى البعض, قد يكون فى جماعية جماهير المواطن العادى فى الغرب, للإحتجاج على قرارات أو ممارسات السلطة السياسية, قدرا من التأثر بجماعية الثورات العربية. وبرغم ما قد يكون فى ذلك من حقيقة, ولو بشكل جزئى, إلا أنه يمكن رؤية هذه الجماعية (الغربية) من منظور آخر, وهو الإرتقاء التلقائى الذاتى (والضرورى) للمواطن العادى الغربى فى الممارسات السياسية.

التلقائية فى هذا الإرتقاء تأتى من خلفية أن المواطن العادى الغربى, طبقا للتقاليد الديمقراطية المعمول بها, ليس ممنوعا من التظاهر والإحتجاج, وفى العادة لايجرى تزوير مباشر لصوته الإنتخابى. أما عن الضرورة فى هذا الإرتقاء فقد جاءت من يأس هذا المواطن من سياسات وإمكانات القوى الحاكمة, وكذلك من يأسه من باقى القوى السياسية البديلة التى يمكن أن تأتى من خلال الإنتخابات.

المسألة إذن أن التلقائية والضرورة فى جماعية المواطن العادى الغربى تشيران الى حدوث إنتكاسة (أو تدهور) فى الأوضاع السياسية فى الشمال, أو فى فعالية الوضعية الديمقراطية السائدة هناك.

بمعنى آخر, حدث إنكشاف لعوار ما فى الديمقراطية الغربية. هذا العوار دلّ على أنها (أى الديمقراطية الغربية) ليست - بعد - بالكفاءة التى تُمكنها من الحفاظ على مصالح جماهير المواطن العادى.

سر هذا العوار هو دخول مجتمعات الغرب فى مرحلة المعاناة من السياسات النيوليبرالية, والتى لاتأبه بمصالح المواطن العادى بقدر إهتمامها بمصالح الفئات الغالبة فى شريحة الرأسمالية العليا الشرسة وحلفائها من أهل "البزنسة".

جوهر المشكلة إذن أن قد حدث فى الغرب تحول جذرى عن مجتمع الرفاه الى مجتمع الرأسمالية المتوحشة ( أو النيوليبرالية), وذلك منذ حقبة " تاتشر / ريجن", أو منذ أفول التوازن الدولى التقليدى (بين الشرق والغرب).

من الناحية العملية, لقد حدث هذا التحول بإسم العولمة تحت سمع وبصر (بل وفى إطار) اللعبة الديمقراطية, وبمشاركة كافة الأحزاب السياسية. وهكذا, برغم مشاركة القوى السياسية المختلفة من "يمين", و " يسار", و "خضر", ... الخ, إلا أن مصالح جماهير المواطن العادى فى الشمال كانت مغيبة.

لقد إكتشفت جماهير المواطن العادى (الغربى) فجأة خطأ السياسات القائمة (والتى وقعت برغم وجود أحزاب سياسية عريقة ونشطة). ذلك حيث تسريح عشرات ومئات الألوف من العمالة لم يكن لصالح التنافسية والتقدم التكنولوجى, بقدر ماكان لصالح الدخل المادى للفئات العليا الحاكمة للشركات والبنوك العالمية الكبرى, وضد مصالح الأغلبية, والتى تتمثل فى الإنسان العادى.

نفس الشىء ينطبق على النقل للعديد من المصانع, والصناعات, والأنشطة البحثية, لبلدان أخرى حيث الثروات البشرية (والأسواق) الأكبر حجما, و الأيدى العاملة الأرخص (الصين والهند ...الخ).

المسألة إذن, بالنسبة للمواطن العادى فى الغرب, أن قد سُرقت الرفاهية من حياته, وحلت محلها سياسات الخصخصة, و تسريح العمالة, والبطالة, والتقاعس المتدرج عن تقديم الخدمات الأساسية, بالتوازى مع تنشيط هائل لعمليات تسليع هذه الخدمات.

وإذا كان من الغريب أن عملية السرقة هذه قد جرت بقصد, وبشكل منظومى, وبالإعتماد على مايبدو وكأنه شرعى, من مؤسسات دولية ومحلية, ومن مفاهيم مصبوغة بالإقتصاد, إلا أن الأكثر غرابة يتمثل فى إستمرار تمادى القوى العولمية (والمحلية), الدافعة لسياسات سرقة الرفاهية, فى الضغط النوعى والكمى من أجل مواصلة تطبيق هذه السياسات, بالرغم من ثبوت أضرارها ورفض جماهير المواطن العادى لها !!!.

ومن التناقضات التى تكشف (أو هى بالفعل قد كشفت) عن عوار اللعبة الديمقراطية فى الغرب يمكن ملاحظة أمرين.

الأمر الأول أن الغرب شديد النيوليبراية (والمتمثل بالذات فى السياسات الأمريكية) لايكف (برغم كافة المشكلات الإجتماعية التى أحدثها فى شعوبه) عن الضغط على المجتمعات الغربية القليلة التى لاتزال محافظة على الرفاهية الإجتماعية لمواطنيها (مثل المجتمعات الإسكندنافية) من أجل التحول عن هذه السياسات. إن ذلك الضغط يُذكر بما كان قد جرى من ضغوط على المجتمع اليابانى, فى بداية تسعينات القرن الماضى, من أجل التنازل عن الخصوصيات التراثية التى عُرف بها اليابانيين, مثل "التوظف مدى الحياة" فى نفس المؤسسة (كنوع من الإنتماء اليابانى).

وأما الأمر الثانى فيتمثل فى محاولة حل المشكلات الإقتصادية الإجتماعية فى مجتمعات الغرب من خلال سياسات التقشف austerity , وليس من خلال إصلاح وتطوير أنظمة الضرائب, والبنية الإقتصادية, وسياسات الإنتاج والتشغيل.

وهكذا, جماعية المواطن العادى (العربى) كانت ولاتزال هى المدخل للثورة على أنظمة وأوضاع الدكتاتورية والتخلف. ذلك بينما جماعية المواطن العادى (الغربى) هى المدخل الأوّلى لإحداث تغييرات نوعية فى النظام الديمقراطى, بحيث يعود للمواطن العادى حقه فى الرفاهية, وبحيث لايُسرق منه هذا الحق من خلال سياسات تجرى صياغتها من وراء ظهره, وعلى موائد النيوليبرالية.

مايمكن إذن ملاحظته بشأن الإشكاليات السياسية لجماهير المواطن العادى, سواء هو عربى أو غربى, أن القوى السياسية المُتسيدة, فى اللعبة الديمقراطية التى تمارس بإسمة, سواء كانت فى الحكم أو فى المعارضة, أو كانت محافظة أو يمينية أو يسارية, هى (فى قدراتها أو توجهاتها) أدنى مما يُتوقع منها.

فى البلدان العربية (وتحديدا فى مصر كنموذج) كانت جماعية القوى السياسية من أجل إستحقاقات الثورة أقل بكثير (بل وتكاد أن تكون غائبة) مقارنة بجماعية المواطن العادى.

وأما فى بلدان الغرب, فإن القوى السياسية (والفكرية) لم تصل بعد الى القدرة على صياغة حلول حقيقية لما قامت (وتقوم) الرأسمالية الشرسة (أو قوى النيوليبرالية) بزرعه من توجهات سياسية/إقتصادية/إجتماعية مضادة لحاجات وتوقعات المواطن العادى.

هنا يمكن القول بأنه عندما تفشل (و / أو تفسد) القوى السياسية فى مجملها, فى الشمال والجنوب على السواء, فإن الحاجة الى "الفكر" (أو المعرفة التغييرية) تصبح على أشدها, الأمر الذى سيجرى تناوله فى البند "خامسا".

رابعا: المشكلات التى تواجه قوى السلام (أو جماهير المواطن العادى) على إتساع العالم.

إذا كانت القوى المتشددة (أو المتطرفة) الثلاث, والمشار اليها فى البند ثانيا أعلاه, تتسبب فى توليد وتأجيج الأزمات العالمية والمحلية, والتى تصيب جماهير المواطن العادى فى العالم بالقلق والإحباط, .. وإذا كانت القوى السياسية المتصدية للعبة الديمقراطية فى الشمال (سواء هى فى الحكومة أو فى المعارضة) لم تفلح, من خلال الممارسات الديمقراطية السائدة, فى إقناع وتهدئة الإحتجاجات الجماهيرية الجماعية فى بلدانها, فإن السؤال الحيوى الذى يبزغ هنا يكون من شقين:

الشق الأول: ماهى الأسباب التى تؤدى الى ترجيح فعل قوى التطرف الثلاث على كافة جهود قوى السلام فى العالم؟

والشق الثانى: ماهى الأسباب التى أدت بالممارسة (أو اللعبة) الديمقراطية فى الشمال (أو فى الغرب) أن تعجز عن الوفاء بحاجات الجماهير فى كلياتها, مما دفع هذه الجماهير الى أن تستنهض نفسها, فى جماعيات إحتجاجية كبيرة ومتواصلة, للتعبير عن رفضها للسياسات العامة القائمة بخصوص التشغيل والأجور؟

الحقيقة أن هناك عاملا مشتركا رئيسيا لايمكن التغافل عنه عند البحث عن الإجابة لأى من الشقين المكونين للسؤال. إنه تماما نفس العامل المشترك الذى لايمكن إغفاله بخصوص ماصار يجرى تعمميمه من غبن وإحتقار تجاه المواطن العادى فى معظم بلدان الشمال والجنوب على السواء.

يتمثل هذا العامل المشترك – أساسا – فى المصالح (أو المنظورات) الخاصة.

بمعنى آخر, المشكلات التى تواجه قوى السلام (أو جماهير المواطن العادى) على إتساع العالم ترجع الى تسَيُُد "عولمى" لخاصية الأنانية.

هنا, يتحول السؤال المطروح الى الإستفسار عن الأسباب التى قد أدت الى (أو إستُخدمت فى) زرع وتنامى التسيُد العولمى للأنانية. فى هذا الشأن يمكن الإشارة الى ما يلى:

1- أن النيوليبرالية الجديدة (العالمية والمحلية) تملك المال, والذى تستخدمه, إعلاميا ومخابراتيا, فى غسيل أدمغة العامة, وفى إفساد القيادات والأنظمة, إضافة الى إستخدامه فى التخديم المعرفى على أهدافها (بالدراسات العلمية والإستراتيجية وبحلقات التدريب). ذلك فضلا عن ماتتمتع به من مرونة وسرعة فى التصرف, بقوة دفع براجماتية فجة.

2- أن الصهيونية, بالإضافة لإمتلاكها للمال, والذى تستخدمه نفس الإستخدام السابق ذكره (كالنيوليبرالية الجديدة), فإنها تملك أدوات للتخويف و الإرهاب, على غرار الإتهام بمعاداة السامية, فضلا عن التصفية الجسدية, والتى تستخدم أيضا- بواسطة قوى التطرف عامة, وإن إختلفت الأشكال.

3- أن التمادى فى رد الفعل المتطرف يَحدث (ويُعضّد) بشكل "رنينى" متعدد الإتجاهات (مباشر أو غير مباشر) بين القوى الثلاث.

4- وفى النهاية يأتى سبب خاص بالقوى الشعبية والسياسية, العالمية والمحلية, التى تتصدى لقوى الأنانية والتطرف الثلاث. إنه سبب إجرائى نوعى ( أو إدارى سياسى) إذا صح التعبير. يتمثل هذا السبب فى وجود تباين حاد فى كيفية الإعداد الإستراتيجى للتوجهات. فبينما قوى التطرف الثلاث تلجأ الى عناصر وحركيات السرية, والمنظومية, والتخطيط طويل المدى, إضافة الى التحالف (بحيث تكاد تتكامل فى عديد من توجهاتها, بقصد أو بدون قصد), فإن القوى المناصرة للعدالة ولمصالح الشعوب ليس لها خطط طويلة المدى أو توجهات يجرى إعدادها بعناية, و بهدوء, وبمنظومية, حيث توجهاتها تُصنع أو تُصاغ فى شكل بيانات تصدر فى (أو عن) لقاءات عامة, أقرب الى التظاهرات العاطفية الجماهيرية منها الى الترتيبات و الأحداث التنظيمية.

بمعنى آخر, القوى الشعبية والسياسية العالمية (المتطلعة للعدالة والسلام) تمارس مهامها ضد قوى الأنانية والتطرف والتعصب فى أطر " مؤتمراتية" جماهيرية, هى أقرب الى "الهواية" ومنتديات الخطابة منها الى "الحِرَفيّة" و صناعة الإستراتيجية. وذلك, بالطبع, دون الإعداد لمواجهات (أو حملات) منظمة.

من ناحية أخرى, يمكن القول أن الإخفاق المزمن فى مجابهة قوى الهيمنة والتطرف والصهيونية يولد فراغا مزمنا ومتصاعدا فى الساحات السياسية, الدولية والمحلية. إنه فراغ لايجرى ملؤه إلا بالتوجهات الأكثر تطرفا (من الأطراف المختلفة). الأمر الذى قد فاقم من التوجهات المتطرفة, والتى وصلت الى حد مواجهة الآخر بتفجير الذات وبتفجير الآخر والآخرين (فى شكل القنابل الإستشهادية).

نتيجة لماسبق ذكره من أسباب, فإنه يمكن إدراك أن الإخفاق فى مواجهة قوى الهيمنة و التطرف يتدرج نزولا من المستوى الدولى الى المستوى المحلى, وخاصة فى الجنوب, حيث تردى الأوضاع القائمة فى الأنظمة السياسية (ديكتاتورية السلطة وتزييف الديمقراطية), مما يفاقم من عنف وعشوائية ردود الفعل على المستويات المحلية.

النتيجة التلقائية تكون إعادة تصعيد العنف والعشوائية (والتطرف) على المستويات الدولية. ذلك إضافة الى نتيجة أخرى موازية, وهى إستغلال قوى الهيمنة والتطرف الدولية لتوجهات العنف والعشوءة المحلية, بحيث يجرى تسييرها, وإعادة صنعها (من بُعد أحيانا, ومن قُرب أحيانا أخرى) من أجل تأليب و تفتيت وتقسيم القوى الوطنية المحلية, وكذلك تأجيج الصراعات المحلية والإقليمية, متى كان لذلك حكمة أو مغنم عند قوى الهيمنة والتطرف الدولية ومن بينها الصهيونية الإسرائيلية.

من النماذج الحية الشاهدة على ذلك حرب العراق ضد الكويت, وصراعات جنوب السودان ودارفور وتوترات لبنان, ومحرقة غزة, و - ربما أيضا- بعض التدخلات أو المداخلات الغربية فى مسارات الإنتفاضات الثورية العربية.

وهكذا, الأوضاع (أو التوجهات) الرئيسية فى الساحات السياسية الدولية والمحلية تتطلب التغيير (بمعنى الثورة على الأوضاع القائمة) بهدف صنع أحسن, وضمان أكبر, للعدل والسلام و الإستقرار, للذات الإنسانية و للآخر. ذلك سواء كان هذا الآخر إنسانى (أفراد – مجتمعات – علاقات دولية ... الخ) أو بيئى (الطاقة – المياة – المناخ ...الخ).

وإذا كان الأمر كذلك, أى أن الحاجة الى التغيير والثورة على الساحات السياسية الدولية والمحلية, شمالا وجنوبا, هى حاجة حقيقية وعظيمة, فإن غياب أو بطء التغيير ( أو الثورة), أو الإلتفافات حول التغيير من أجل كبته أو تحريفه , كما حدث (ويحدث) تجاه الإنتفاضات الثورية العربية (بواسطة قوى محلية وأجنبية) أو تجاه الجماعيات الغاضبة فى الغرب (بواسطة الحلول الترقيعية, مثل التقشف), هى عمليات تحمل مخاطر كبرى يمكن إجمالها فيمايلى:

1- إستمرار تسارع التفاقم فى عدم المساواة على المستويات العالمية والمحلية, مع تسارع موازى فى معدلات تدهور الثقة, بين جماهير المواطن العادى شمالا وجنوبا, من جهة, و كل من الأنظمة الحاكمة, و القوى النيوليبرالية, والمنظمات الدولية, من جهة أخرى.

2- تزايد فى إتساع المدى التطرفى, وفى تنوعات وحدة التطرف, والتطرف المضاد.

3- المزيد من الأضرار و التدهورات لبيئة الكرة الأرضية.

4- تصاعد عالمى عام فى مستويات القلق وعدم الإستقرار وتقلص الأمن الإنسانى (خاصة الحاجات الأساسية المتعلقة بالأمان والصحة والغذاء والتعليم والإيواء و الكرامة).

اقرا الجزء الاول من الدراسة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.