: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بقلم د محمد رؤوف حامد
مع بداية القرن ال21 , نشر لنا مقالا بعنوان "مستقبل الثورات" ( العربى الكويتية- يناير 2000) . ثلاث سنوات بعدها, صدر كتاب يحمل نفس العنوان “ Future of revolutions” , عن دار "زد", تحرير مجموعة من الأكاديميين بقيادة بروفيسور فوران, أستاذ علم الإجتماع بجامعة كاليفورنيا. تكرار العنوان (فى المقال ثم فى الكتاب), وربما أيضا فى إصدارات أخرى قليلة (فى ذلك الوقت), كان مؤشرا على وجود هما إنسانيا عاما بخصوص الموضوع, الأمر الذى تأكد مؤخرا (نهايات العقد الأول وبدايات العقد الثانى من القرن ال 21) فى عديد من الأحداث التغييرية الجديدة تماما, وفى الآلاف من الإصدارات (بنفس العنوان – "مستقبل الثورات"), كمقالات وكتب, والتى نجمت كإنعكاس لهذه الأحداث.
وهكذا, الآن, مع بدايات العقد الثانى من القرن ال 21, يفرض الموضوع نفسه من جديد بدرجة أعلى بكثير عن ذى قبل.
منذ ثلاثة عشرة عاما, كانت السياقات الرئيسية بخصوص مستقبل الثورات تتعلق بكل من التقدم العلمى -التكنولوجى والعولمة. وأما حاليا, فالسياقات تتعلق بتقاطعات حادة من الأزمات والصراعات العالمية والإقليمية والمحلية معا. ذلك فضلا عن ظاهرة (وأوضاع) مايعرف بالثورات العربية, أو ب " ثورات الربيع العربى", إضافة الى حركيات إنتفاضية من "جماعيات" المواطن العادى ضد السياسات العامة فى العديد من عواصم االعالم, والغرب على وجه الخصوص.
مايهدف اليه الطرح الحالى إذن, هو الإجتهاد فى التعرف على المحتملات والممكنات بخصوص مستقبل الثورات, وذلك بالأخذ فى الإعتبار لكل من:
1- ماكان منظورا عن مستقبل الثورات مع بداية القرن ال21.
2- المتغيرات التى تجسمت مع مسيرة العقد الأول من القرن ال21.
3- المعطيات والشواهد المتعلقة بالثورات العربية وبالحركيات الشعبية الغربية الموازية.
4- المشكلات التى تواجه قوى السلام (أو جماهير المواطن العادى) على إتساع العالم.
5- المعرفة الإنسانية التغييرية القادمة (أو الموجة الثورية العالمية الجديدة).
6- ثورة المفكرين.
أولا: مستقبل الثورات مع بداية القرن ال21 :
فى نظرة خاطفة على "مستقبل الثورات", كما ورد منذ حوالى عقد من الزمان, فى المقال والكتاب المشار اليهما أعلاه, يمكن القول بأن المقال (يناير 2000 ) كان يشير الى التحول من الثورات بإعتبارها التغيير فى نظم الحكم بالقوة, الى الثورات بإعتبارها التغيير النوعى فى مجالين (أو على مستويين) أساسيين. الأول يختص بطريقة الحياة ( للأفراد والجماعات), من خلال متغيرات ومنتجات العلم والتكنولوجيا, مثل التغييرات فى التعليم والطب والرياضة والإتصال والبحث العلمى والخدمات ...الخ, وهو ماسُمى ب "الثورات الميكرو". وأما الثانى فكان التغيير فى العلاقات الدولية بواسطة القوى المهيمنة نسبيا على العالم, مثل التغيير فى قوانين وأوضاع التجارة العالمية, وهو ماسمى ب " الثورات السوبر" أو الماكرو. ذلك مع وجود تأثيرات متبادلة بين النوعين من الثورات (الميكرو والسوبر).
أما عن الكتاب (2003) فقد كان يهتم أساسا بالبحث فى الفرص والظروف الخاصة بحدوث تغييرات فى نظم الحكم, وفى تقديرنا أن أهمية رئيسية لهذا الكتاب تقوم على كونه, فى مواطن عديدة منه, يُحمّل كل من الإدارة والمخابرات الأمريكية المسؤلية عن تردى الأوضاع (الإقتصادية والإجتماعية والأمنية) فى العالم.
ثانيا: المتغيرات التى تجسمت مع مسيرة العقد الأول من القرن ال 21
فى البداية, يمكن القول بوجود ثلاث أمور جديرة بجذب الإنتباه:
الأمر الأول هو أنه, بالفعل, الثورات الميكرو والثورات السوبر قد غمرتا العالم. لقد تغيرت بسرعة طريقة الحياة, تحت تأثير التكنولوجيات المتقدمة (وخاصة تكنولوجيات المعلوماتية والإتصال). وكذلك تغيرت العلاقات الدولية بشدة من خلال متغيرات عولمية شبه كلية, مثل قوانين التجارة العالمية, ومثل قاعدة 20/80 والتى تقضى بأنه يكفى للنشاط الإقتصاد العالمى أن يقوم به 20% من القائمين به, بينما على " ال 80% الباقية" أن تعيش على إحسانات تلقى اليها من ال 20% الأولى.
وأما الأمر الثانى, فهو أن المتغيرين معا, طريقة الحياة و العلاقات الدولية, قد أديا (فى ظل سياقات ناجمة عنهما وأخرى موازية لهما) الى نشأة إعتبارات وعوامل جديدة يكون (أو كان) من شأنها أن تدفع (وأن تؤدى) الى إنعكاسات من نوع جديد على مستقبل التغييرات, أو على مستقبل قوى وحركيات التغيير. إنها إعتبارات وعوامل تتعلق بالإتساع الآخذ فى التعاظم والتطرف بشدة فى الفروقات (وفقدان التكافؤ) بين البشر, وذلك فى مسائل غاية فى الحيوية والحرج, مثل الغنى والفقر, ومثل الأمن الإنسانى (والذى يتمركز حول الحاجات الأساسية والهوية الإجتماعية والكرامة).
هنا يمكن الإشارة الى أنه إذا كانت هذه الإنعكاسات تعنى إعادة الإتجاه الى الثورة, فإن الفعل الثورى المحتمل يمكن أن يكون ذو طبيعة جديدة تتناسب مع المستجدات فى سياقات الزمن الحالى (الأمر الذى تُعد الثورات – أو الإنتفاضات العربية – الأخيرة نموذجا له, أو على الأقل ملمحا لبداياته).
ثم يجىء الأمر الثالث, والذى يتمثل فى ثبوت المسؤلية العليا لكل من الإدارة الأمريكية والمخابرات الأمريكية عن الإنحراف فى الشرعية الدولية وعن الخلل فى النظام المالى العالمى (حرب الخليج الثانية نموذجا).
القوى صاحبة التسلط العولمى:
الأمور الثلاثة السابق الإشارة اليها أدت الى تصاعد حاد للتناقضات فى الأوضاع العالمية / المحلية. لقد سببت هذه التناقضات أزمة عالمية مركبة, تتشابك وتتقاطع فيها أشكال مختلفة من التوترات المالية والعسكرية والإجتماعية والإقتصادية والأمنية والبيئية. إنها بحق تراجيديا عولمية (أو كوكبية) تتجسم فى العديد مماقصدت اليه العولمة من تغييرات وإنحرافات فى الوسائل والمعايير فيما يتعلق بالتنمية والتقدم. وذلك على غرار توجهات وإجراءات مثل الخصخصة وإزدواجية كل من المعايير والقيم والشرعية. لهذه الأزمة (أو التراجيديا) العالمية المتشابكة حركيات ذات ملامح خاصة, بدأت فى الظهور المُبكر منذ حوالى عقد من الزمان, يُشار فيما يلى الى بعضها:
1- تكرار تجمع النشطاء فى كافة القارات والشعوب فى مظاهرات وحركيات عالمية متوافقة الحدوث ضد أنواع متباينة من ممارسات الظلم والخلل الدوليين. بعض هذه الحركيات تمثلت فى مظاهرات ومؤتمرات. والبعض الآخر ظهر فى شكل أنشطة الكترونية مناهضة. من أمثلة هذه الحركيات والأنشطة يمكن الإشارة الى مايلى:
أ) بدء المقاومة الشعبية الدولية ضد قوانين التجارة العالمية (أثناء إنعقاد المؤتمر الوزارى لمنظمة التجارة العالمية – سياتل 1999 ).
ب) إدانة شركات الدواء العالمية (39 شركة) فى الدعوى القضائية التى تحالفن فى إقامتها ضد حق حكومة جنوب أفريقيا فى توفير أدوية الإيدز بسعر مناسب لمواطنيها (2001).
ج) محاولات التصدى لشروع أمريكا فى الحرب على العراق بحجة إمتلاك أسلحة نووية (2003).
د) المناداة بإيقاف المحرقة التى أقامتها إسرائيل لشعب وأراضى غزة, وبمحاسبة المسؤلين عنها (2008).
2- التدخلات الأمنية / العسكرية طويلة الأمد من جانب القوى الكبرى (وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية) فى مصائر (وعلى أراضى) بلدان أخرى.
3- إنتقال مصانع بأكملها من الغرب الى الشرق (بدوافع رخص العمالة وتعظيم الأرباح), وحدوث إنحراف منظم عن سياسات الرفاه الإجتماعية فى دول الشمال (و الجنوب على السواء).
4- إشتداد بأس قوى التطرف, سواء فى الشمال (من جانب اليمين), أو فى الجنوب (على مرتكزات دينية وعرقية).
5- تحول إسرائيل الى "مايشبه قوة عظمى" على المستوى الدولى, وذلك بالنظر الى إنحرافها عن المعايير والشرعية, وإملائها لتوجهات إنحرافية عنصرية على بعض مواقف عدد من الدول االكبرى, وكذلك تغلغلها فى بعض النزاعات فى بعض البلدان.
6- الإهتزاز المالى الإقتصادى الخطير للولايات المتحدةالأمريكية, وثبوت وجود خروجات متعمدة من قياداتها على حقوق الإنسان.
7- إمتداد الحيرة وعدم الإستقرار فى معظم أنحاء العالم بدرجات متفاوتة, ربما فيماعدا عدد محدود جدا من البلدان التى تفردت بتوجهاتها الخاصة, وذلك على أسس ديمقراطية (مثل البرازيل), أو أيديولوجية (مثل الصين), أو إدارية / سياسية ( مثل سنغافورة).
فى ظل المتغيرات (و/أو الحركيات) السبعة السابقة, وما على غرارها, صار من الواضح أن قوى التشدد أضحت هى القوى صاحبة السطوة فى العالم, و هى تتمركز فى ثلاث متجهات رئيسية.
المُتجه الرئيسى الأول يتمثل فى توجهات الرأسماليين المحافظين الجدد (أو قوى النيوليبرالية) بزعامة غربية أمريكية, وبتغلغل لقوى مماثلة (وأخرى ظل لها) فى بلدان الجنوب (من خلال آليات الخصخصة وتوليد وتربية قيادات محلية نيوليبرالية متشددة يجرى تركيبها على مناصب حكومية وحزبية عليا).
المُتجه الرئيسى الثانى يتمثل فى سلوكيات التطرف, والذى يوجد فى الشمال والجنوب على السواء. فى الشمال, ينشأ تحت إبط القوى النيوليبرالية (واليمينية), وبالتوافق معها. وفى الجنوب, ينشأ إما كردود أفعال للتطرف النيوليبرالى (المالى العسكرى) الشمالى, و/أو كإنقلاب على الشمال النيوليبرالى من قوى (تطرف) جرى صنعها و/أو دعمها بواسطة هذا الشمال النيوليبرالى ذاته (فى إطار إدارة الصراعات الدولية / المحلية بما يُدعى بالفوضى الخلاقة - "طالبان" نموذجا).
المُتجه الرئيسى الثالث يتمثل فى نزعات الصهيونية الإسرائيلية, وذلك من خلال ثلاث أنواع من الحركيات:
أ) توافقاتها (فى الأهداف والوسائل) مع النيوليبرالية الدولية (خاصة فى الولاياتالمتحدة), وكذلك مع النيوليبراليات المحلية فى بلدان الجنوب (من خلال المصالح المالية المشتركة).
ب) تداخلاتها, تخطيطيا وأيديولوجيا, مع عمليات إشعال الصراعات الطائفية و إحداث التطرف فى أماكن مختلفة من العالم, فضلا عن مد ذارعها العسكرى الى عمق بلدان مجاورة, من منظور أمنى خصوصى, وفى غيبة المسؤلية الدولية الفاعلة (للأمم المتحدة مثلا).
ت) إتجاهها الحثيث الى التمييز العنصرى, والذى يتجلى فى الترتيب ليهودية الدولة.
من الجدير بالإنتباه أن هذه القوى (أو المُتجهات) الثلاث تتصف بحركية هدّامة, محدودة الأفق, تأخذ شكل "التمادى فى الفعل المتطرف". وكنماذج لسلوكيات التمادى هذه يمكن الإشارة الى مايلى:
- تمادى الرئيس الفرنسى (أكتوبر 2010) ضد المعارضة الشعبية الفرنسية, بخصوص رفضها لتمديد سن الإحالة الى المعاش, فضلا عن قدر من التماهى مع مطالب يمينية متعصبة.
- تمادى شركات الدواء وشركات التأمين الكبرى فى الولاياتالمتحدة, سياسيا وسلوكيا, ضد إجراءات أوباما لتعميم التأمين الصحى على المواطنين.
- تمادى إسرائيل فى رفض (وإدانة) المحاسبة الدولية لها على محرقة غزة ومجزرة أسطول الحرية.
- تمادى مساندة الإدارة الأمريكية للقوة النووية الإسرائيلية, ولتجنيب إسرائيل المحاسبة على كافة ماترتكبه من جرائم وإنتهاكات.
- تمادى النيوليبرالية الغربية فى التلكؤ بخصوص الواجبات الدولية بشأن تصحيح الكوارث البيئية الناجمة عن إنبعاث الغازات, وذلك فضلا عن واجباتها المحلية بشأن تصحيح أنظمة الضرائب بدلا من التصعيد فى سياسات التقشف.
- تمادى أنظمة الحكم فى الجنوب (من خلال التحالف - بل والتوحد - مع النيوليبرالية المحلية) فى سلوكيات الفساد والإفساد, وفى تزييف حالة الديمقراطية السياسية.
- ثبوت إنخداع الجماهير الشعبية بخطط ودعايات النظم النيوليبرالية, بحيث يمضى وقتا طويلا - نسبيا- قبل إنكشاف الحقيقة. تماما كما مضى وقت قبل إنكشاف مدى تمادى الزيف فى الكثير من ممارسات إدارة بوش (الإبن) تجاه مجلس الأمن أو تجاه الرأى العام العالمى, سواء عن طريق الخداع فى التقارير المخابراتية ( مثل: إدعاء إمتلاك العراق لأسلحة نووية) , أو من خلال إنحرافات وإنتهاكات مباشرة ضد حقوق الإنسان (مثل: معتقل جوانتانامو).
مايمكن الإشارة اليه إذن أنه قد بات من الثابت, مع نهايات العقد الأول من القرن ال21, أن المستقبل, بخصوص الإستقرار الدولى, ومصالح الشعوب, ومناخ الكوكب, يتعرض لمخاطر غير عادية بسبب إشتداد وتعاظم أنانية وتطرف هذه القوى الثلاث.
وإذا كان من الطبيعى هنا أن يبرز التساؤل عن قدر ومستقبل عمليات التصدى ضد هذه القوى (أو المتُتجهات) الثلاث والمخاطر الناجمة عنها, فإنه يمكن القول أن هذا التصدى لم يحرز نجاحا حتى الآن إلا فيما ندر. بل أن نجاحاته القليلة تتصل بجزئيات محدودة جدا وليس أبدا بإستراتيجيات أو سياسات.
من الأمثلة على ذلك نجاح الحملات الشعبية العالمية فى إحراج شركات الدواء والتى إضطرت الى سحب دعواها القضائية ضد حكومة جنوب أفريقيا بخصوص أدوية الإيدز (01 20). ذلك بينما لم تنجح كافة القوى العالمية والمحلية فى التصدى لأصل الموضوع, وهو توجهات و قوانين "حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة – تريبس", والتى تعرقل إتاحة الدواء الجديد لمرضى الدول النامية بالأسعار التى تناسبهم, فضلا عن عرقلتها لعمليات تنمية القدرات البحثية والتكنولوجية لهذه الدول.
من جانب آخر, ليس من قبيل الصدفة أن كافة قوى السلام فى العالم, حكومات وشعوب وأفراد, فضلا عن المنظمات الدولية بكامل تنوعاتها, لم تنجح حتى الآن فى فك حقيقى (ومستديم) للحصار الإسرائيلى على قطاع غزة (أو فى إعادة تعميره). ذلك فضلا عن عدم إنجاز أى تقدم بشأن حل الصراع العربى الإسرائيلى.