أيا كانت النتائج الرقمية للإستفتاء, وبصرف النظر عن الطعون فى ملابساته, مهما كان كم هذه الطعون, ومهما كانت نوعياتها, فإن أهمية هذا الإستفتاء تكمن فى كونه قد أصبح الكشاف (أو البطارية) التى بواسطتها يمكن الإستدلال على حقائق وأوضاع لم تكن فى السابق مرئية بنفس درجة الوضوح التى تُرى بها الآن. حقائق كبرى تكشفها "بطارية" الإستفتاء:
الحقائق والأوضاع الجوهرية التى كان لهذا الإستفتاء فضل الكشف عنها وتأكيدها (بل وتعريتها) تتلخص فيما يلى:
1-أن جماهير المواطن المصرى العادى هى أكثر نقاءا وبصيرة وقدرة على التعلم الذاتى مقارنة بالنخبة, سواء كانت نخبة الإخوان أو نخبة القوى السياسية المختلفة.
2- أن التغير الكبير والآخذ فى الإزدياد, بشأن حجم المعارضة الجماهيرية لما تعتبره إتخاذ الدين كساتر من أجل التمكن من السلطة, كما وضح فى الإستفتاء الأخير مقارنة بإستفتاء مارس 2011, يُعدُ أمرا دالا على إنكشاف جماهيرى لقدر توجهات " الأنا" عند الإخوان, بقدر ماهو أيضا أمرا دالا على قوة تديُن المصريين (مسلمين ومسيحيين). ذلك حيث قوة التدين هى التى تؤهل الإنسان المؤمن لإدراك الحكمة الأصيلة بأن "الدين لله .. والوطن للجميع", وتدفعه للدافع عنها والعمل بها, حيث أولا وأخيرا وكما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "الدين المعاملة".
3- تتمثل إشكالية كبرى عند الإخوان فى أن الفلك الخاص بتوجهاتهم يتقوقع داخل إطارهم كجماعة, ولا ينطلق الى الإطار المرجعى الأعلى منهم, والذى هو الإطار الوطنى (أى الخاص بعموم الوطن وسائر المواطنين), وإلا لكانوا قد نجحوا فى حسن إستخدام ماتوفر لهم من أغلبية برلمانية فى التوافق مع جماهير المواطن العادى التى صنعت الثورة, ومع كافة القوى السياسية التى عارضت مبارك (وعلى رأسها "كفاية"), من أجل تحقيق مطالب الثورة, والتى كانت تتعلق بالفساد والديمقراطية والعدالة والكرامة وتقدم البلاد, ولم تتعلق أبدا بأى منظور يتشدق بالدين.
4- أن إندفاع الدكتور مرسى فى قراراته كرئيس للجمهورية, وتكرار تتاالى هذا الإندفاع, ووصوله الى حد إحداث "شرخ" فى البلاد ووفيات وإصابات وليس مجرد إستفتاء, إنما هو أمر يستحق وقفة ومراجعة.
الوقفة والمراجعة هنا أعلى جدا من أن تختص بالدكتور مرسى, أو بطاقم الرئاسة, أو بالإخوان, ...الخ. إنها تختص بمسار الثورة.
ذلك أن كل ماجرى فى البلاد منذ مارس 2011 كان يبعد بها تدريجيا عن مسار الثورة, حتى بلغ هذا الإبتعاد ذروته بقرارات الدكتور مرسى, مما أدى بالبلاد الى الشرخ الذى تجسم مؤخرا فى الإستفتاء.
5- الوضع برمته يدل – بالقطع – على أن الثورة لاتزال داخل المرحلة الإنتقالية, ولم تتخطاها بعد. هذه الوضعية (أو الحقيقة) تدركها جماهير المواطن العادى ربما بأكثر مما يدركها الدكتور مرسى, و بأكثر مما تدركها غالبية الكوادر المعروفة كقيادات للقوى السياسية المختلفة, وبأكثر جدا مما تتقبلها جماعة الإخوان.
6- التباين بين الإدراكات "الوطنية النقية" لجماهير المواطن العادى (التى صنعت الثورة), من جهة, وإدراكات الدكتور مرسى (وإخوانه) وغالبية قيادات سائر القوى السياسية, من جهة أخرى (مهما تنوعت أو تباينت التوجهات أو الشعارات) هو مصدر الخطر الأول على إستقرار البلاد أكثر من أى شىء آخر.
7- أنه بينما للإخوان عقل تنظيمى يدير شؤنهم, وبينما قد مارست جماهير المواطن العادى الإرتقاء الى العقل الجماعى بعبقرية عظيمة حققت إسقاط مبارك, ورفعت من قدر الرفض فى الإستفتاء, إلا أن النخبة السياسية (والثورية) المصرية المعارضة لم ترتقى الى العمل من خلال عقل جماعى بعد, الأمر الذى يُشكل مصدر الخطر الثانى على إستقرار البلاد.
8- فى هذا الخصوص لايمكن إعتبار تحالف القوى السياسية فى شكل جبهة الإنقاذ الوطنى ممثلا – إستراتيجيا – للعقل الجماعى المفترض. ذلك حيث هذه الجبهة قد نشأت بشكل طارىء (أى تكتيكى), وكرد فعل يتعلق بتحدى إجرائى محدد, ولم تصل بعد الى مأسسة تمكنها من وضع سيناريو يتمثل فى إبتكار تصور لأكثر من خطوة (أو مرحلة) تالية, أى إبتكار الفعل (الذى يخلق قوانين وطنية للشارع السياسى) وليس مجرد التحالف الوقتى لإنجاز رد لفعل ما, يتضاد مع الثورة.
9- أن حالة الثورة المصرية تعانى مما يمكن وصفة – مؤقتا – بتشخصن كوادر النخبة السياسية. حالة التشخصن نراها فى الإدلاء بالتصريحات الفردية دون رابط جماعى, ونراها كذلك فى الإعتماد على الصراخ الفردى كمعيار للفعل السياسى, وعدم اللجوء الى التجبيه المؤسسى الأطول مدى. وربما يشهد على أزمة النخبة هذه تقاعسها عن التفكر الجماعى فى أطروحات ومتطلبات حرجة, تختص بمسار الثورة, كانت قد جرت الإشارات المتتالية اليها على مدى ما مضى من المرحلة الإنتقالية, وذلك مثل:
- تشكيل رأس قيادية جماعية للثورة.
- إنشاء وزارة لمقاومة الفساد فى أول حكومة تشكلت بعد إسقاط مبارك.
- التحذير من التواصل بين الإخوان والأمريكان بعد أسابيع من بزوغ الثورة, وبينما الثورة لم تكتمل.
- إعتبار الإنتخابات دخيلة على الثورة, حيث لإنجاز مسار الثورة أولوية تسبق كل من الدستور والإنتخابات.
- ضرورة الإتجاه الى مأسسة الثورة, وتشكيل هيئة عليا لإستكمالها وحمايتها.
- التحذير والتحسب من محاولات محتملة للبقرطة السياسية للثورة فيما بعد الإنتخابات البرلمانية والسياسية.
10- أن الشواش الراهن فى الشارع السياسى المصرى لايمكن أن يكون فى مصلحة مصر والمصريين. وإذا كان هذا الشواش يحدث – الى حد كبير – بفعل مواقف وتصرفات متطرفة من جانب الإخوان, سواء كان ذلك بضوء أخضر (أو بإستحسان) من الولاياتالمتحدة (والغرب) أو بدونه, فإن الحد من هذا الشواش هو مسألة قومية تقع مسؤليتهاعلى عاتق القوى السياسية مجتمعة (ومن بينها الإخوان).
من كل ماسبقت الإشارة اليه أعلاه يمكن إدراك أن المشكلة الوطنية الكبرى فى اللحظة الراهنة لاتتمثل - أصلا - فى نتيجة الإستفتاء, أيا كان إتجاهها, وأيا بلغت الطعون عليها, وإنما تتمثل فى أن المرحلة الإنتقالية للثورة مجمدة, وجرى التعدى عليها منذ فترة.
الحقائق الأكبر بخصوص وضعية ثورة 25 يناير:
إذا كانت النقاط العشرة السابقة تمثل حقائق الموقف الراهن (المصاحب للإستفتاء وسياقاته), فإن النظرة الى مستقبل ثورة 25 يناير, ومن ثم مستقبل تقدم الشارع السياسى المصرى, ومستقبل تقدم مصر (الدولة والوطن والمواطنين), تتطلب الإعتبار, والإستحضار, لكليات مفاهيمية لاغنى عنها, وهى:
أولا: أن ثورة 25 يناير لم تأتى صدفة. إنها جزء موضوعى فى التاريخ. ذلك حيث قد جرى عام 2007 تنبؤا صريحا بحدوثها, وبأنها متوقعة الحدوث فى الفترة 2009 (زائد أو ناقص عامين), الأمر الذى قد حدث بالفعل, وجاء حدوثه مطابقا للدورة الزمنية للتغيير السياسى فى مصر,والتى جرى إكتشافها فى سياق التنبؤ المذكور. إضافة الى أن بزوغ الثورة فى يناير/ فبراير 2011 قد جاء فى سياق إمتدادى لحركيات إحتجاجية متصاعدة بدأت على وجه الخصوص ب "كفاية" عام 2004.
ثانيا: أنه بإعتبار أن ثورة 25 يناير لم تأتى صدفة, فهى تمثل فعلا إيجابيا إراديا. هذا الفعل الإيجابى الإرادى له بحكم نشأته من يحميه. ولأن هذه الثورة, أى ثورة 25 يناير هى أولا وأخيرا ثورة شعبية, فإن حاميها فى أرض الواقع – بإذن الله – هو الشعب الذى أرادها وإستحضرها ومارسها, ولايزال.
هنا نتذكر أن الثورة العرابية (1882) قد بدأت أساسا بمبادرة من النخبة العسكرية, وبعدها بزغت ثورة 1919 كمد شعبى معضدا – فى الأساس – لموقف نخبة سياسة, ثم جاءت ثورة يوليو 1952 كحركة من الضباط الأحرار التف حولها الشعب.
وهكذا, المسألة إذن ثورة 25 يناير هى أولا وأخيرا ثورة شعبية, وهذا هو الفارق الجوهرى والإرتقائى عن الثورات المصرية السابقة, الأمر الذى يجعل إمتطائها بواسطة أى فصيل أو كادر سياسى من أى إتجاه أمرا غير أخلاقيا, ومن الصعب والإستحالة أن يستمر, حيث الشعب هو الذى دعى للثورة وقام بها وهو صاحبها, ونعتقد بأنه لن يتخلى عنها.
ثالثا: أنه بينما الثورات الثلاث السابقة (العرابية, و1919, وثورة يوليو) قد تباينت إنجازاتها مابين الوصول الى عتبة الثورة (فى حالتى الثورة العرابية وثورة 1919), وتخطى هذه العتبة والوصول الى عتبة جنى الثمار, برغم عدم إتمام إكتمالها (فى حالة ثورة 1952), فإن الوعى الداخلى الخاص بثورة 25 يناير, والذى هو خاص بوعى الشعب المصرى, نظن أنه قد إستوعب دروس الإخفاقات فى الثورات السابقة, بمعنى أنه لن يسمح بها.
المسألة إذن أن ثورة 25 يناير لن تهدأ مهما مر من وقت ومهما واجهت من صعوبات , دون أن تحقق الوصول الى عتبة جنى الثمار, وتطمئن على سلامة إستمرارية مسار جنى الثمار. إنه الإطمئنان الذى يتحقق بوصول مسار الثورة الى سقفها المفترض, والذى هى الآن – بالتأكيد – منحرفة عنه بقدر كبير.
رابعا: أن المشاهد من إستحسانات وتعاطفات رسمية أجنبية (أمريكية و أوروبية وأخرى سلطوية عربية) مع حركيات ركوب الثورة بتسييس الدين, هى أمور غير حسنة النية, وضد صالح تقدم مصر.
إن هذه الإستحسانات والتعاطفات تنشد – كهدف مستتر- إنحراف مصر عن النموذج التغييرى الأمثل, والذى تترقبه وتتمناه الشعوب الأخرى, وعلى وجه الخصوص تلك العربية والإفريقية, حيث جميعها تنظر الى الشعب المصرى بإعتباره الأخ الأكبر, والذى فى تقدمه يكون تقدمها. وهذا بالضبط هو ماتخشاه, وتتحسب له القوى العالمية المحافظة (أو الرأسمالية الكبرى أو النيوليبرالية).
ماذا تفعل القوى السياسية ( تجاه إستكمال وحماية الثورة) ؟:
فى هذا الخصوص نتجنب الوقوع فى خطأ الرسم التفصيلى لسيناريو بعينه, لكننا نؤكد على حاجة الثورة لوجود سيناريو لإستكماها, تماما كحاجة الإنسان للماء والهواء.
هنا نقترح على الحركيات المهتمة بالشأن العام الخاص بثورة 25 يناير (من حيث إنجاز أهدافها وتحقيق المسار الديمقراطى) مطلبين أساسيين.
المطلب الأول هو تحويل الإيمان بالشعب وبثورته الى واقع يتجسم فى تصرفات وسلوكيات. الأساس المعيارى فى هذه التصرفات والسلوكيات يتشكل من " الحوار", و "المنهج العلمى فى التفكير" , والجماعية ( وبالذات مأسسة العمل الجماعى).
وأما المطلب الثانى فيتمثل فى العمل الإيجابى المخطط, من أجل تجنيب جماهير المواطن العادى المصرى, أى جماهير الثورة (شبابها وفتياتها / نسائها ورجالها), أكثر مايمكن من خسائر, سواء فى الأرواح و الأجساد أو فى الزمن. ذلك حيث أن إعتبار أن الثورة مستمرة, يتطلب إعتبارات أخرى تختص بتعظيم إنتاجياتها وتقليل خسائرها.
المنتج النهائى الذى يتجسم فيه, ويهدف اليه, كل من هذين المطلبين يكون التوصل الى " تشكيل عقل إستراتيجى" يختص بوضع سيناريو لإستكمال الثورة, فى ظل (وبرغم) وجود أية بيروقراطيات أو تعقيدات (أو حتى مؤامرات).
المدخل الى "العقل الإستراتيجى" لإستكمال الثورة:
هنا يحتاج الأمر الى توضيح أن القادة والكوادر من السياسيين شىء, و أعضاء العقل الإستراتيجى شىء آخر.
على الكوادر السياسية الممثلة للثورة, أو المتعاطفة معها, أن تلتقى تحت مظلة جبهة الإنقاذ أو الجمعية الوطنية للتغيير أو كليهما, وأن تتحاور فى إطار ورشة عمل ( فى شكل جلسة طويلة أو عدة جلسات متتالية على مدى يوم أو أكثر). الهدف من ورشة العمل هذه, والتى يمكن أن يُدعى اليها البعض من المفكرين والإستراتيجيين, هو صياغة طريقة لتشكيل مجموعة فكرية/إستراتيجية تختص مهمتها بوضع سيناريو لإستكمال الثورة. وفى نفس الوقت تظل هذه المجموعة على تواصل دورى منظم من أجل صياغة وإقتراح الرؤى الخاصة بالفعل ورد الفعل فيما يتعلق بمسار الثورة, وبأية حركيات أو مفاجئات تعترض هذا المسار.
المجموعة الإستراتيجية هذه تمثل العقل الداخلى للثورة, بينما الكوادر والقيادات السياسية تشكل بطبيعتها (ولكن من خلال الجماعية) العقل الخارجى, أو القائد الميدان للثورة. ذلك بينما جماعية جماهير المواطن العادى تظل هى الجسم الحى والقائد الأكبر لهذه الثورة الشعبية الغالية.
غنى عن القول هنا, أن الشارع السياسى الخاص بالثورة سيكون أقوى وأقوى فى وجود عقل إستراتيجى يفكر له بعمق ويصنع له السيناريوهات (والتكتيكات), كل ذلك بالإعتماد على "العلم" و "التنظيم".
وغنى عن القول أيضا أن رؤى وفعاليات القيادات السياسية ستكون أرقى وأكثر نضجا وكفاءة فى وجود (وبالإستعانة ب) عقل فكرى إستراتيجى وطنى ثورى.
هذا المقترح, بالإتجاه الى سيناريو لإستكمال الثورة, وبتشكيل عقل فكرى إستراتيجى ثورى متواصل الوجود, نرجو أن يتماس مع المهام والهموم التى تنشغل بها قيادات كل من جبهة الإنقاذ والجمعية الوطنية للتغيير, والذين نقدر جهودهم على مدار الساعة, فيما يتعلق بثورة 25 يناير وبملابسات الأستفتاء.
ختاما, ربما يكون من المناسب الإشارة الى خلفيات لهذا الطرح توجد فى إجتهادات سابقة متضمنة فى كل من:
- "ثورة 25 يناير : من أين والى أين ؟" - سلسلة إقرأ – دار المعارف – 2011.
- 25" يناير.. أصالة شعب وضبابية نخبة" – كتاب الكترونى – مايو 2012.
- رئاسة مرسى: إستكمال للثورة أم للقوى المضادة – مقال – 23 أغسطس 2012.
- طبيعة الإنتقال من براجماتية الإخوان الى مسار 25 يناير – مقال – 20 نوفمبر 2012