ما من شك أن الشارع السياسى المصرى بات يعج بظواهر غير صحية نتيجة تحوله من إشراقات وشفافيات ثورة الى دوامة من الخصوصيات الظلامية السياسية.
لقد تشكلت هذه الدوامة من سلاسل من "الحيودات" عن مسار الثورة. ولقد حوّلت هذه الحيودات الشارع السياسى الى مايشبه مقلبا للقمامة, تتراكم فيه مستجدات وتتابعات ما يمكن إعتباره متبقيات غير صحية, أو "زبالة سياسية" Political Waste , تعوق (وتُضَيّع) إنجاز ما كان من أحلام وطنية لمليونيات المواطن العادى (الذى فجّر الثورة).
فى معنى "الزبالة" السياسية:
المقصود بالزبالة السياسية تلك الإجراءات والأحداث المتناقضة مع ذاتها, أو مع الثورة, أو المضادة للمصالح العليا, وطويلة المدى, للوطن والمواطنين.
بمعنى آخر, الزبالة السياسية تتمثل فى إجراءات وتتابعات, تأخذ شكل دوامة, ترمى (أو تؤدى) الى أن "يزهق" الناس من الثورة ويتمنون أيام "مبارك", و/أو أن تنتقل البلاد من إنشقاق الى آخر, و/أو أن يتدهور الإستقرار بحيث تعم الفوضى وتتسيد.
عندها تكون دوامة الظلامية (أوالزبالة) السياسية قد أدت دورا محوريا فى تسهيل تنفيذ سيناريوهات إضعاف مصر وإخضاعها (بواسطة أعداء لها فى الخارج), وفى إتاحة إستحلابها (بواسطة أنانية أبناء لها فى الداخل).
وهكذا, يمكن تشبيه الوضع الحالى بموجات من الزبالة التى تُقزف بترتيب على الجميع, قوى سياسية وثورية ومواطنين عاديين, بحيث ينشغلوا جميعهم بالتنظيف من "وساخة" مقزوفات الزبالة, والتى تتنوع وتتعدد بإيقاع سريع.
فى خضم موجات الزبالة – كفعل أو كنتاج لأفعال – يغرق الجميع فى ردود أفعال من التقزز, واللوم, والصراخ الحاد فى كل الإتجاهات. وفى نفس الوقت, يتشتت إنتباه الجميع عن أهمية البحث عن فعل, أو طريقة, أو منهج لإيقاف سيول الزبالة, ولتحويل الطاقة المبذولة فيها, وتلك المبذولة فى مقاومتها, الى توجه ينفع مستقبل مصر وشعبها, ويُقيم تنمية حقيقية, ويُؤسس لديمقراطية ناضجة (وراشدة).
أما عن أشكال وطبيعة الزبالة, فهى تتمثل – على الأقل – فى متبقيات وتداعيات لأفعال وأحداث وتوجهات على غرار مايلى:
- ظاهرة تكرار إستصدار قرارات و/أو مراسيم رئاسية دون درجة كافية من النضج (و/أو القبول و/أو التناسب مع الأوضاع) بدليل الرجوع عنها.
- إشكاليات الجمعية التأسيسية للدستورمنذ بزوغها.
- إستخدام "الذراع" الفيزيائية ضد القضاء, وضد الإعلام.
- تحويل (أو إخضاع) النفوذ الحكومى للهيمنة بواسطة فصيل سياسى بذاته. ذلك برغم أن الحكومة جاءت فى سياق (وكنتاج ل) ثورة شعبية لم يقم بها فصيل سياسى بعينه.
- تصريحات برؤى, من قيادات فى جماعة الإخوان المسلمين, تتناول قضايا وطنية حساسة, دون داع, و – ربما أيضا – دون وعى.
- بزوغ فكرة طرح ماأُطلق عليه "صكوك إسلامية", والتى تأتى كأداة للإستحواز على الممتلكات (والأصول) الوطنية, الأمر الذى يغتال كفاحات تاريخية للشعب المصرى, ويرجع بالبلاد مئات السنين الى الوراء. وفى هذا الشأن يمكن القول بعدم جواز إضافة صفة "الإسلامية" لمثل هذه التوجهات أو الترتيبات, وحتى لايتاح الزج بالدين (أو إمتطائه) لتمرير أفعال مضادة للمصالح الوطنية.
- إقتراب الإخوان (رئيسا وحكومة ..) من التوافق مع التوجهات العولمية المضادة لمصالح الدول النامية. وذلك بإنجذاب وتسارع أكثر مما كان يحدث من جانب مبارك. ذلك أنه كان (برغم فساد نظامه) أكثر من الإخوان – نسبيا – تجنبا لإثارة القلاقل السياسية والمجتمعية الحادة.
- تعامل الإخوان مع إشكاليات ومسائل الحكم من منظورات خصوصية, لاتتوافق مع أى من الإتجاهات السياسية المحافظة أو التقدمية, وإنما تعود الى إطار مرجعى خاص جدا بهم, وكأنهم هم كل الوطن والمواطنين, وبشكل مطلق. من الأمثلة على ذلك تراجعهم عن تعهداتهم, والتى من أبرزها الوعد بعدم خوض الإنتخابات الرئاسية.
- معلومات معلنة عن وصول شحنات هائلة (موصوفة بالخردة) من ميناء قطر الى ميناء السويس, بإسم أحد كبار قيادات الإخوان, مع ظهور تحليلات بأن هذه الشحنات ربما تكون أسلحة. ذلك مع غيبة معلومات عن صدور ردود أفعال حاسمة من المسؤلين.
- إنتشار البلطجة (والقتل) ضد التظاهرات السلمية, وذلك دون محاسبة وبعيدا عن (أو مع وجود شلل فى) ذراع العدالة.
ملامح وحقائق تتعلق بالأزمة الوطنية الناجمة عن الزبالة السياسية:
الإمعان فى سياقات وتنوعات مايمكن وصفه بغرق الشارع المصرى فى سيول من الزبالة السياسية يستدعى التوقف عند معان مجردة يصعب إهمالها:
أولا – أن البلاد تخضع الآن لما كنا قد حذرنا منه فى فترة ماقبل الإنتخابات البرلمانية والرئاسية, وهو "البقرطة السياسية", بمعنى محاولات القضاء على الشرعية الثورية بإستخدام شرعية بيروقراطية سياسية تستند على كونها نتاج للإنتخابات.
هنا, غنى عن القول أن المقصود بشرعية الثورة تلك السياقات والمتطلبات والرغبات التغييرية التى بُعثت فى ميدان (وميادين) التحرير وكان من شأنها إسقاط مبارك, وتبلور إحتياجات وضرورات وإستحقاقات – ثورية – كبرى, مثل تفريغ البلاد من الفساد, وتسيير الدولة بواسطة حكومة ثورة, وإحداث تغييرات جذرية فى السياسات العامة, وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية (عيش – عدالة – حرية – كرامة).
ثانيا – أن البلاد تعانى الآن من غيبة العقل الإستراتيجى الوطنى.
فى هذا الخصوص, اللوم على الجميع. اللوم للإخوان, والذين يمكن أن يكون لهم عقل إستراتيجى, لكن بمرجعية تختص بهم كجماعة, بأكثر بكثير من مرجعية الثورة ( أو الوطن). واللوم لسائر القوى السياسية, والذين كانت حركيات معظمهم (هم والإخوان) بالنسبة لمسار الثورة, تأتى عادة من منظورات أقرب الى الفردية والتجزيئية, ولاتقترب من الحس الإستراتيجى الوطنى إلا فى سياقات الكوارث.
هنا نتذكر كيف كان ظهور عمر سليمان كمرشح محتمل للرئاسة, حافزا - إستثنائيا - للإخوان على العودة الى مليونيات ميدان التحرير, وعلى الدعوة للتعاون مع بقية القوى الوطنية.
وهنا, نتذكر أيضا أن تحالفات القوى السياسية مع بعضها كانت فى الإنتخابات البرلمانية أعلى منها بكثير فيما يتعلق بإستحقاقات الثورة.
وفى نفس السياق نتذكر كيف أن التسارعات الى لقب "مرشح محتمل للرئاسة" كانت تطغى على الدعوة الى تشكيل رأس قيادية جماعية للثورة.
ثالثا – أن تقدم أى بلد فى العالم, فى الزمن الحالى, لايمكن أن يقوم على الأيديولوجيا, أيا كانت شيوعية, أو رأسمالية, أو تصطبغ بالدين ...الخ.
التقدم يكون من خلال منظورات العلم وتوجهات ووسائل الإدارة [فى هذا الخصوص يمكن الرجوع الى "الإدارة أيديولوجية القرن ال 21" فى كتاب "إدارة المعرفة: رؤية مستقبلية"- سلسلة إقرأ – دار المعارف – 1998].
من هذا المنظور, فإن إقدام أية أطراف على نقل البلاد الى هيمنة أيديولوجية ما, هو أمر غير حكيم, ونزعم بأنه يتضاد مع المصالح العليا, طويلة المدى, لمصر والمصريين.
من هذا المنظور أيضا تظل الأهمية القصوى لكافة الأيديولوجيات, سواء هى يسارية أو ليبرالية, أو سياسية دينية, فى إطار الإمداد بالجماليات و القيم والأخلاقيات, والتى – جميعها – يمكن أن تكون عونا ودعما لتسيير شؤن البلاد بالإعتماد على العلم والإدارة, أولا وأخيرا.
بل أكثر وأهم من ذلك يمكن القول بأنه, من شأن الإعتماد على العلم والإدارة (وليس الأيديولوجيا السياسية – سواء هى دينية أو غير دينية) تجنيب البلاد ديكتاتورية السلطة [كما حدث فى أوروبا الشرقية], وتجنيبها عمليات تهميش إحتياجات المواطن العادى [كما جرى فى العقدين الأخيرين فى العديد من بلدان الإتحاد الأوروبى من خلال سياسات رأسمالية المحافظين الجدد – اليونان نموذجا], وكذلك تجنيب البلاد تشددات التطرف بإسم الإسلام [كما يحدث منذ فترة فى الباكستان وأفغانستان], بينما الإسلام برىء تماما من سلوكيات التشدد والتطرف.
رابعا – أن "الظلامية السياسية" الجارية لايمكن أن تؤدى الى أى تقدم فى شؤن مصر والمصريين, وهى تمثل منصة رجوع الى التخلف.
خامسا – أن مجمل السياقات السابقة توضح أنه, إذا لم ينفتح كل من الإخوان (والذين أصبحت لهم الرئاسة والحكومة والبرلمان), وكذلك السياسيين الوطنيين من سائر الإتجاهات (ومعهم شباب الثورة), على إحتياجات مصر وشعبها بشأن إستحقاقات ثورة 25 يناير [وعلى وجه الخصوص: تفريغ البلاد من الفساد – حكومة ثورة (وليس حكومة إخوان) – تغيير السياسات العامة من أجل التحول الى التنمية الصناعية التكنولوجية (وليس "الشحاتة" أو بيع أو تأجير الأصول الوطنية)], فإن الجميع عندئذ – كقيادات – يكونوا قد خذلوا الوطن و قاموا ب (أو ساهموا فى) خصخصة الثورة.
إذا إستمر ذلك العبث بشؤن البلاد فإن الشعب المصرى والتاريخ لن يرحما من يخذل وطنا عظيما كمصر, أو يخصخص ثورة شعبية رائدة مثل ثورة 25 يناير.
المجلس القومى للأمن الداخلى:
هناك إذن حاجة وطنية عاجلة الى مايلى:
1 – صياغة العقل الإستراتيجى الوطنى (والذى لايزال غائبا – برغم الثورة). هنا يمكن الرجوع الى طرح سابق بعنوان "سيناريو ثورة 25 يناير فيما بعد إستفتاء 2012 – رسالة الى قوى الثورة" (23 ديسمبر 2010).
2 – تخلى الإخوان عن أجنداتهم الخاصة فى تسيير شؤن الوطن, وعلى وجه الخصوص (وبشكل عاجل) مايتعلق بالإقتصاد (كأولوية). فى هذا الخصوص عليهم الإستعانة ب (والتعلم من) خبراء وخبرات التنمية الوطنية, وليس خبراء وخبرات العولمة (أو الرأسمالية الشرسة/ النيوليبرالية).
3 – إتخاذ المناسب من الإجراءات بخصوص المحافظة على الأمن والأمان والإستقرار فى الشارع الوطنى.
فى هذا الشأن نقترح تشكيل "مجلسا للأمن القومى الداخلى". هذا المجلس يكون معنيا بأمن وأمان وإستقرار الشارع السياسى, والشارع العام, أثناء المرحلة الإنتقالية للثورة, والتى لازالت قائمة, طالما إستحقاقات الثورة لم تتحقق بعد. ذلك بمعنى أنه مجلسا مرحليا.
من ناحية أخرى, إذا كنا فى وقت سابق قد أشرنا الى أن مسار الثورة ينتهى عند الوصول الى سقفها ,أى "سقف الثورة", والذى يعنى إستكمال إستحقاقات الثورة ووصول البلاد الى حالة تسمح بالتغيير من خلال الديمقراطية ودون الحاجة للعودة الى حالة الثورة (كتاب الكترونى: "25 يناير- أصالة شعب وضبابية نخبة" – مايو 2012), فإن السياقات الحالية ,والتى تنتج متبقيات غير حميدة قد يمكن وصفها بالزبالة السياسية, ربما تستدعى إعتبار المرحلة الإنتقالية ممتدة طوال فترة الرئاسة الحالية, بحيث تنتهى مع بداية فترة رئاسية جديدة.
هذا وربما بخصوص منظومية أعمال هذا المجلس (مجلس الأمن القومى الداخلى), يمكن بشكل أوّلى, الإشارة الى:
- أن يكون رئيس مجلس الوزراء (أو نائب رئيس الوزراء) أمينا للمجلس, على أن تكون الرئاسة دورية بين أعضائه, ممن تزيد أعمارهم عن 40 عاما.
- أن يتشكل المجلس من ممثل واحد (عالى المستوى) لكل مما يلى:
• المخابرات العامة.
• المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
• الشرطة.
• النيابة العامة.
• الأزهر
• الكنيسة.
• النقابات العمالية المستقلة.
• القوى السياسية (الأحزاب) من غير الأغلبية – رجل.
• القوى السياسية (الأحزاب) من غير الأغلبية – سيدة.
- أن يتشكل مطبخ المجلس (أى غرفة عملياته) من أحد المراكز الإستراتيجية الخاصة (على غرار مركز النيل للدراسات).
- أن يقوم أحد المراكز الإستراتيجية (ربما من خلال مقاربة أو تكليف مشترك من الجبهة الوطنية للتغيير و كفاية و جبهة الإنقاذ) بالإعداد العملى للصياغة التفصيلية الممكنة (والمكتملة) لهذا الإقتراح, من حيث الأهداف, وطريقة العمل, والتتشكيل, والترتيبات والمتطلبات اللوجستية.
- أن يكون للمجلس – بعد الدراسة وتبادل الرأى – حق إصدار رؤاه فى شكل قرارات (و/أو توصيات بقرارات وسيناريوهات).
- أن يجرى تنفيذ رؤى وقرارات وتوصيات المجلس من خلال التوافق, عبر الحوار المباشر, بين المجلس ورئيس الجمهورية (أو نائب الرئيس), وفى حضور وزراء الدفاع والعدل والداخلية, وكذلك رئيسى جهازى المخابرات العامة والأمن الوطنى (أمن الدولة/المباحث العامة سابقا).
وبعد,
إذا كنا فى وقت سابق (قبل وبعد 25 يناير 2011) قد أشرنا الى أهمية الإرتقاء الحلزونى كميكانيزم فى إحداث تغييرات سياسية كبيرة (كما قد جرى بالفعل فى ثورة 25 يناير), فإن هذا الإرتقاء الحلزونى "الإيجابى" لن يخمد. وذلك برغم ما يُشاهد على الساحة من وقت لآخر مما قد يعتبر تدهورات حلزونية للشارع السياسى, على غرار ما جرت الإشارة اليه ك "زبالة سياسية".
مثل هذه التدهورات (أو الزبالة) لن توقف المسار الإرتقائى للمصريين بشأن إستكمال إستحقاقات الثورة. المسألة (أو الإشكالية) تتمثل فى أن التكلفة الزمنية والبشرية سترتفع.
من هنا كان التحذير لمن يتخازل عن إستحقاقات ثورة 25 يناير, أو يستمرىء تخطيها وخصخصتها لصالحة, حيث الشعب والتاريخ لن يرحما.
** خبير دوائي وكاتب
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه