حينما وقعت ثورة 25 ينار 2011 ، وبعد أن أسقط الثوار النظام القديم فى جمعة الغضب 25 يناير؛ عندما حرقت الرموز السياسية للنظام ممثلة فى مقرات الحزب الوطني، وعندما حوصرت أذرعته الأمنية الباطشة ممثلة فى مقرات الشرطة.. هنا وجد الثور أنفسهم فى مواجهة المؤسسة العسكرية، التى أخذت تدير مفاوضات سياسية مع كافة أطراف المعارضة من الأحزاب السياسية ومن فرق الدين السياسي! وفى أثناء التفاوض مع التيارات السياسية كانت هذه التيارات حينما تشعر بتضييق الخناق عليها، تلجأ لميدان التحرير وتحاول الاحتماء بالثوار الذين ليس لهم انتماء سياسي أو حزبي بالمرة! أما فى تفاوض المجلس العسكري مع فرق الدين السياسي – ممثلة فى الإخوان- كان الوضع مختلفا، وجد المجلس العسكري أنه أمام قوة منظمة تملك القدرة على الحشد، وتملك القدرة على توجيه الشارع بما للدين من مكانة خاصة عند المصريين، هنا أدرك المجلس العسكري قوة فرق الدين السياسي، وأنها الطرف الوحيد الذى يستطيع التفاوض معه للفكاك من مطالب الثوار القاسية ضد المجلس العسكري وبقايا النظام القديم، حيث وقفت الثورة محلك سر منذ يوم 28/1/2013م ولم تصل للمستوى الاجتماعي والقيمى بفعل فاعل!
لا تملك معظم التيارات السياسية القدرة على الحشد لعدة أسباب تاريخية، ترجع لجمودها الفكري وعجزها عن تطوير خطاب سياسي جامع، كما فشلت بعض تنظيمات هذه التيارات فى العمل بآليات موضوعية تفرز الصالح من الطالح، فلم تنجح معظمها فى تطوير أيديولوجية سياسية معاصرة تجاوب عن كل أسئلة المواطن وتحتوى شخصيته بمحددات هويته وأبعادها المتعددة: الوطنية والقومية والدينية والاجتماعية والإنسانية، ووقفت عند الخطاب التاريخى لها والذى قد يرتبط بظروف وسياقات مغايرة، ولم تنجح فى العمل بآليات تنظيمية موضوعية تسمح بتطور الدور السياسي لكل مواطن حسب قدراته الفعلية.. مما جعل القوام الرئيسي للعديد منها يقوم على الانتهازية والمصالح الفردية والشخصية، وجعلها طاردة للكفاءات والعقول المفكرة القادرة على التطوير.
اما فرق الدين السياسي الرئيسية ممثلة فى الإخوان والسلف، فقد استهدفت شريحتين – عموما – من داخل الشعب المصرى؛ الإخوان استهدفت بعض رجال الطبقة الوسطي الذين يتميزون بالطيبة والذكاء الاجتماعي والرغبة فى فعل الأفضل لكن دون أن يكون لديهم رغبة فى المواجهة أو الصدام (كجماعة الجهاد أو الإسلامية مثلا)، فكان نمط العمل السرى الذى لا يتطلب المواجهة ويسعى لهداية الناس بالحسنى ويعطى صاحبه شعورا بالخلاص الديني نموذجها. أما السلف فقد استهدفت شريحة مختلفة، استهدفت فى خطابها فئتين الأولى هى الأكثر تطرفا فى طبيعتها والتى كان لديها تطلعات دنيوية عالية، وقدمت لهم السلفية فكرة التعالي على المجتمع وتخطيئه وعقابه، بما يتماشى مع فشل هذه الفئة وعجزها فى تحقيق تطلعاتها، والفئة الثانية التى استهدفتها السلفية كانت هى الفئات المهمشة والمقهورة فى أحياء ومدن أقاليم الدلتا وغيرها، حيث أن هذه الفئة المظلومة كانت مهيأة لفكرة التعالي وكراهية المجتمع، فكان نموذج السلفي هو المتعالي على المجتمع الذى يرى فى تأثيمه أو ربما تكفيره خلاصه الديني، دون محاولة للبحث عن بديل.
واصطلح فى علم السياسية الحديث على تقسيم التيارات المشتغلة بالسياسية إلى يمين ويسار، وعموما اصطلح على أن يكون اليمين هو الذى يدعو وينتمي للفكر القديم والمهادنة مع السلطة وأصحاب رأس المال وللفكر الديني فى شكله التاريخى، وأن اليسار هو الذى يدعو للتغيير ومعارضة السلطة وحقوق الناس والعمال وتصور بعض رجاله للدين يقوم على الاجتهاد والمعاصرة.. وفى الجدال ينفى اليمين جموده الديني ومهادنته للسلطة وللأغنياء، ناهيك عن أن أقصى اليمين الديني هو التكفيري الذى يعتقد أنه ممثل الله سبحانه وتعالى يحاكم الناس فى الدنيا! وكذلك ينفى اليسار تسيبه وتحلله من القيم ويؤكد عليها، ناهيك عن أن أقصى اليسار هو اليسار الماركسى الذى يؤكد بعض رجاله إيمانه الديني، ويؤكد البعض الآخر توحدهم مع أفكار ماركس عن تفسير الحياة بلا خالق أو صانع لها!
أما ثوار مصر فلا ناقة لهم ولا جمل فى صراع اليمن واليسار المصرى، الكتلة الأكبر من رجال الثورة المصرية، هم شباب صلب معتدل التفكير يملك قدرة على المواجهة والصبر، علاقته بربه تقوم على الوسطية والفطرة وفهم طبيعة الأشياء، وعلاقته بمجتمعه تقوم على الرفض والسخرية من الكذب والافتعال، هم الفئة التى تملك القدرة على تضحية والفداء وتصر على قيمها وأهدافها فى كل مجتمع، تاريخيا ينتمى العديد من نخبة الثورة للحركة الطلابية غير الحزبية التى خرجت دعما لانتفاضة الأقصى الفلسطينية عام 2000. كان المفترض أن سقوط النظام على يد الثوار يعنى كذلك سقوط معارضته (المعارضة هى جزء من النظام فى معظم التعريفات السياسية)، كان المفترض أن تخرج نخبة ثورية تدير شئون البلاد، لكن المجلس العسكري اختار أحد جبهات المعارضة القديمة ليقطع الطريق على مطالب الثورة ونخبتها!!
أصبح الثوار بين شقي رحى المعارضة القديمة، بين مطرقة اليمين وسندان اليسار، والثوار لا ينتمون لهذا أو لذاك، وأصبحت التبريرات جاهزة لدى اليمين وفرق الدين السياسي، على شاكلة: "ليبرالي، علماني، شيوعي"! وأصبحت التبريرات جاهزة كذلك لدى بعض اليساريين (حيث شاءت الظروف أن يحاول معظمهم التوحد مع مطالب الثوار لعجزهم عن الحشد المنفرد)! مشكلة الثوار عويصة ومزدوجة، أولا: تتمثل مع فرق الدين السياسي فى تحالف "الأخوة الأعداء" القائم على المصالح المشتركة مع النظام القديم (ممثلا فى المؤسسة العسكرية)، وثانيا: مع الأحزاب السياسية التى تقف الآن فى جبهة معارضة النظام الجديد لأنها تمثل تبريرا ومعادلة للوجود السياسي للنظام الجديد! بما قد يعوق تطور بديل سياسي للثوار، وأذكر هنا كيف تآمر الجميع على "ائتلاف شباب الثورة" حتى أسقطوه وذابت نخبته فى نسيج ورحاية المعارضة القديمة!
هناك حل إصلاحي وحل جذري ونحن على أعتاب 25يناير 2013: الإصلاحي عن طريق التوافق ومحاولة جماعة الإخوان الموائمة قليلا لترضية الشعب، وكسب ود المعارضة الحالية، وإرضاء الثوار ببعض القرارات باستمرار، بما قد يمنع انفجار المشهد الثوري فى نهاية المطاف والوصول لحلول وسط ترضى الجميع، وتحقق مطالب الثوار فى النهاية، ولكن قيادة التنظيم فى الإخوان قد ترى الطرق على الحديد وهو ساخن! وتراهن على كسب كل شئ أو خسارة كل شئ. أما الحل الجذري: فقد يكون هو الطريق المسدود، عندما تستمر المعادلة السياسية الحالية بالوضع الحالي؛ أحزاب سياسية ضعيفة تحاول مسايرة الحراك الثوري، نظام جديد يستمر فى فرض أهدافه والتمكين لنفسه فى البلاد، إلى أن يقع خطا ما يجعل الثوار يعودون للمشهد بقوة ويقلبون المائدة السياسية بحثا عن ثورتهم الضائعة.
كل الأماني فى حلول وسط، لا تقوم على نصرة تيارات سياسية، تستهدف استكمال الثورة ومطالبها، كل الأماني أن ينجح الثوار فى تطوير بديل سياسي معبر عنهم، يستطيع تقديم نفسه للشعب المصرى، كل الأماني أن يجد الجميع مساحة من العمل المشترك وقبول الآخر فى مصر الوطن الأكبر، ونحن نقترب من يوم 25 يناير 2013.
** باحث في شؤون الصراع العربي الإسرائيلي
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه