"بروليتاريا".. حين تقرأ هذا العنوان لمعرض فن تشكيلي سرعان ما تصاب بالدهشة، فهذه الكلمة اللاتينية لم تكن متداولة في مجتمعنا المصري، لكنها بالكاد تعني الطبقة الكادحة من الشعب.. هكذا تدرك تماما أنك ستطالع أعمال الفنان فتحي عفيفي التي تعرض حاليا في جاليري "مصر" بالزمالك. كانت ومازالت حياة الطبقة الكادحة هي همه وشاغله؛ حيث عبر عنها عفيفي في مراحل مختلفة من مشواره الفني بصدق شديد يكاد يشعرك بأنك ترى أعمال فنان يرسم من عصر مضى، فأشخاصه دوما ما تحمل سمات الماضي في ملابسهم، أماكنهم، تجمعاتهم في الشارع وفي المقهى، بالإضافة إلى استخدامه الأبيض والأسود في لوحات هذا المعرض التي أضفت عليها حالة من القدم، وعلى الرغم من أن اللوحات تناولت حياة الطبقة الكادحة إلا أننا نستشعر فيها بزمن الفن الجميل؛ حيث أن الأعمال تبدو وكأنها مشاهد من أفلام الأبيض والأسود القديمة، تلك التي تحمل رحيق عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم. حتى عندما تسرب اللون إلى البعض من لوحاته فقد انعكس على أرضية العمل بدرجه واحدة فاتحة اللون، مما عمق تأثير هذا الإحساس المفعم بالقدم. نجد الفنان في بعض لوحاته يرسم ساحة القطار مكتظة بالأشخاص الراحلين والعائدين من المحافظات، يرتدون زيا أنيقا؛ حيث يرتدي أغلبهم بدل سوداء اللون، أو البالطو الأسود، كما ترتدي السيدات اللاتي قل تواجدهن في الشارع، الحجاب والجلباب الأسود الطويل حتى ولو كانوا يمسكون بيدهم دفاتر العلم؛ لترصد الأعمال تلك الفترة التي عاشتها مصر منذ سنوات طويلة مضت. رسم الفنان الأصدقاء وهم يجلسون على المقهى يتجرعون القهوة والشاي، مهتما بإظهار التعبيرات المختلفة لكل منهم، فأحدهم مهموم، وآخر في حالة من الملل، وبجانبه من يجلس مستمتعا، وغيره يتأمل ما حوله من أشخاص، ومنهم من يمارس الكتابة وينعزل في عالمه الإبداعي الخاص على الرغم من جلسته على منضدة واحدة مع رفاقه.
كما يرسم الفنان أحد المصانع مهتما برئيس العمال. واحتفى في أكثر من لوحة برسم الدراجة التي كانت وسيلة المواصلات الشعبية في تلك الفترة؛ حيث تصور إحدى اللوحات مجموعة كبيرة من الموظفين أو العمال يركبون الدرجات وكأنهم في فترة خروجهم من العمل واتجاههم لمنازلهم. وفي إحدى اللوحات رسم الفنان مائدة شخصين يتناولا الطعام، وكل منهما يأكل من طبق واحد دلالة على الفقر، كما أن حركتهما وإيماءاتهما وهما يتناولا الطعام أوحت بغلبتهم وضيق مستوى معيشتهم؛ حيث تنحني رأس كل منهما وكأنهما مستسلمان تمام لحالتهما الفقيرة. العمال أيضا ظهروا في إحدى لوحات الفنان بعد انتهاءهم من يوم العمل، عائدين إلى منازلهم، ذكرتنا بلوحة "عودة العمال" الشهيرة للفنان حامد عويس، لكن في هذه اللوحة المرسومة بالأبيض والأسود نجد العمال يخرجون بكثافة كبيرة، منهم من يركبون دراجاتهم، وغيرهم من يمشون على أرجلهم، ويتصدر اللوحة أثنين منهمكين في الحوار. وفي ولوحة واحدة بالمعرض استخدم الفنان اللون، وكأنه أراد أن ينتقل بالمشاهد من عصر إلى عصر آخر عبر لوحاته، فنجد فاجأه الأشخاص تحرروا من الملابس التقليدية ليرتدوا ملابس حديثة بدلا من البدلة للرجل والجلباب للمرأة، يجرون تحت الأمطار في سعادة وكأنهم يطيرون على سطح الأرض. والفنان فتحي عفيفي ولد في حي السيدة زينب بالقاهرة. قال عنه الفنان والناقد الكبير الراحل حسين بيكار أن حياته مثل النهر الذي يخترق شاطئين متباعدين، أحدهم يمثل البيئة الشعبية التي نشأ فيها بحي السيدة، والثاني يمثل البيئة الصناعية التي يتعامل فيها مع الحديد والصلب، ومن هذين الرافدين راح يستوحي موضوعات لوحاته معبراً عن واقعه الذي يعيشه .. أكمل بيكار: وهكذا استطاع أن يحقق المعادلة الصعبة بين قطرات العرق وقطرات العطر، ومن هذا المنطلق كان عبق الصدق ينضج من أعماله دون أن يحاول اقتباس عناصره السابقة التجهيز من أعمال الآخرين، وإنما يغوص في أعماق بيئته الشعبية يلتقط منها العبق الرومانسي الذي يفوح من أحيائه وأزقاته ومشربياته وأسطح منازله وملاهيه. ثم يعود إلي مصنعه ليغرس فرشاته في ضجيج الآلات وقعقعه المطارق يولف منها لوحات دافئة عميقة الأثر قويه التعبير عن هذا الواقع البالغ القسوة و الصرامة.. ورغم ما يتضح من هذه الأعمال من فطره بريئة إلا أن خير ما فيها اتسامه بالصدق والإنتماء، وهي العصارة الحيوية التي تغذي كل فن أصيل.