"ايه يعني شوية اسي.. وايه يعني حبة ألم وايش تكون كل الآلام..لو قارناها بالنعم الدنيا فيها ألم وأنين.. لكن كمان فيها النغم والعيشة من غير ده وده.. تبقي بعيد عنك عدم تلك كلمات الفنان الشامل الرقيق حسين بيكار.. وهو ناقد وخمسة فنانين :مصور ورسام صحفي ورسام اطفال وشاعر كان ينظم الطقاطيق من الرباعيات والخماسيات وموسيقار يجيد العزف علي البزق والطنبور وفوق كل هذا ناقد تشكيلي أضاء علي دنيا الابداع. حي الأنفوشي في 2 من يناير من عام 1913 ولد حسين امين بيكار بحي الأنفوشي بالإسكندرية وهو حي شعبي يضم الطبقة الكادحة من : السماكين والعمال الحرفيين والمراكبية وصناع السفن وشباك الصيد وصغار التجار.. وكان وقتها عبارة عن دولة نامية تجاور دولة غنية..فبمجرد ركوب الترام إلي محطة الرمل ننتقل مباشرة إلي قطعة من اوروبا مرة واحدة . وأول مدرسة التحق بها بيكار كانت بشارع ابو وردة المنسوب للشيخ ابو وردة وهو ولي من الأولياء ويقع ضريحه علي قمة الشارع. في احد الايام بالمدرسة وقف بيكار مع زملائه في طابور الصباح.. وكان يتوسطه في ذلك الوقت شيخ معمم .. اسمر مربع الجسم.. وبصوت رخيم اخذ ينشد وهم يرددون معه: بنو مصر مكانكم متهيا.. فهيا مهدوا للمجد هيا. كان هذا الشيخ خالد الذكر سيد درويش! وفي عام 1928ولحبه للفن وولعه به كان بيكار ضمن اول دفعة رسمية حكومية تلتحق بمدرسة الفنون الجميلة وقد تحولت في هذا العام من مدرسة اهلية كان ينفق عليها الامير يوسف كمال وأسسها من ماله الخاص عام " 1908" إلي مدرسة تابعة لوزارة المعارف العمومية . ويتلقي بيكار الفن علي يد اساتذة كبار في الابداع اينوشنتي المصور الايطالي وعميد المدرسة وكلوزيل المثال الفرنسي وحمزة كار استاذ المناظر الانجليزي الذي أشهر إسلامه.. مع الرائدين يوسف كامل واحمد صبري وبعد تخرجه سافر إلي المغرب للعمل هناك بتطوان بتدريس التربية الفنية والموسيقي.. ويعود ليعمل استاذا بالفنون الجميلة ويساهم بلمسته الفنية في فن كتاب الطفل بدار المعارف والصحافة باخبار اليوم من بداية صدورها عام 1944 و معه رخا وصاروخان ..وفي عام 1959 يقدم علي اخطر خطوة في حياته حين يقدم استقالته من رئاسة قسم التصوير بالفنون الجميلة ليتفرغ للفن الصحفي ورسوم الاطفال . هو وكتاب الطفل لم يجد ادب الاطفال في اول عهده مايحقق اكتمال مشاركة الصورة للرسم الا من خلال الصور المنقولة عن الرسوم الاجنبية المترجمة عنها مثل كتابي "روبنسون كروزو" و"رحلات جلفر" لكامل كيلاني.. وبالاضافة إلي هذا لايمكن اغفال دور الرسامين الاجانب والمقيمين في مصر في ذلك الوقت. إلا أن فترة الاربعينات من القرن الماضي شهدت بداية دخول الفنان حسين بيكار ميدان الرسم للاطفال.. وكان هذا عهدا جديدا لفن كتاب الطفل العربي.. حدث ذلك تحديدا عام 1944 حين قدمه زميله المثال عبدالقادر رزق إلي الدكتور طه حسين الذي رشحه لرسم احدث طبعات كتابه الشهير الايام لدار المعارف.. ومن وقتها توثقت صلته بصاحبها في ذلك الوقت شفيق متري الذي عهد اليه بتصميم كتب الدار ورسوم اغلفتها وصفحاتها الداخلية.. كما توثقت علاقته بالرائد كامل كيلاني ومعه قدم أول كتبه الملونة :" علي بابا " و" ابو صير وابو قير " و" خسرو شاه " في عام 1946.. كما رسم في العام نفسه كتاب " ارنبو والكنز " في سلسلة روضة الطفل باشراف امينة السعيد وآخرين، وتوالت رسومه لكتب عديدة مثل "فرفر والجرس" و"عيد ميلاد فلة " و" كتكت المدهش " و" البطة السوداء " من السلسلة نفسها و«الة الزمن» من سلسلة " اولادنا ".. وفي سلسلة المكتبة الخضراء رسم بيكار كتاب " الملك عادل " الذي يعد من اجمل الكتب في تلك السلسلة التي يعرفها اطفال الوطن العربي والتي كانت تمثل اكبر الارقام في التوزيع. بيكار وسندباد وفي 2من يناير من عام 1952 ولدت مجلة "سندباد " وهو نفس اليوم الذي ولد فيه بيكار، ولا ندري هل جاء هذا بالمصادفة ام عن قصد؟! إلا أن هذا في حد ذاته يؤكد قيمة الفنان والمجلة معا.. فقد كانت "سندباد" اول محاولة جادة لإحياء التراث العربي.. لم تعتمد علي النقل أو الترجمة المباشرة من المجلات الاجنبية كحال المجلات السابقة في تاريخ صحافة الطفل.. بل كان هناك كتاب يكتبون خصيصا لها ..وكان الفضل في نجاحها يعود إلي رئيس تحريرها الأديب محمد سعيد العريان والفنان حسين بيكار . كان بيكار يؤمن بالدور الذي تقوم به الصورة في تثقيف الطفل فهو المدخل الرحب لايصال المعلومات إلي وعاء عقله المتفتح وعامل من عوامل كشف شخصيته وبلورة ملكاته . وهكذا اصدرت دار المعارف مجلة " سندباد.. للاولاد في جميع البلاد" في تجربة رائدة وغير مسبوقة في مجال صحافة الطفل في الوطن العربي وابتكر بيكار اغلب شخصياتها" سندباد والعمة مشيرة وقمر زاد والكلب نمرود وارنباد "بالاضافة إلي اخراجها الفني.. كما رشح للرسم فيها كامل مصطفي استاذ التصوير بالفنون الجميلة في ذلك الوقت وعميد الفنون الجميلة بالاسكندرية فيما بعد ..وكمال الملاخ والفنان الايطالي موريللي الذي كان يرسم شخصية "زوزو" احدي شخصيات المجلة المعروفة.. كما رسم فيها كل من يوسف فرنسيس واللباد وتاعب وابوزيد . وقد اشتهرت صورة سندباد بريشة بيكار التي جسدت فيه ملامح طفل عربي مسكونة بالنبل والبراءة والذكاء ..كان سندباد بوجهه الصبوح الممتلئ بالدهشة والتعبيرات التي تقتضيها المواقف المتباينة والمتتابعة في القصة مع ردائه العربي ومنظاره الذي يضعه علي احدي عينيه.. صورة يهفو اليها كل طفل عربي. واستمرت «سندباد» لمدة سبع سنوات ثم توقفت رغم عظمتها الفكرية واهميتها كوسيلة تثقيفية للطفل العربي.. توقفت لعوامل كثيرة منها : انها لم تهتم بالتعبير عن البيئة المصرية مثل تأليف قصص مصرية ابطالها مصريون يعبرون عن افكارهم وحياتهم.. كما ساهم في ضعفها عدم دراية القائمين علي شئون دار المعارف وهي دار طباعة ونشر بعملية التوزيع الصحفي والدعاية ثم جاء سحب اشتراك وزارة التربية والتعليم مكملا لهذه الجوانب السلبية ..هذا رغم ان توزيعها قد وصل إلي 27000 نسخة . الكتاب العجيب وتمثل بداية الستينات من القرن الماضي انتقالة جديدة من حيث التطور الفني لكتاب الطفل بفضل رائد رسوم الأطفال بيكار ..فقد جاءت سلسلة الكتاب العجيب من اصدارات دار المعارف ايضا بإشراف بيكار تجربة جديدة في هذا الاتجاه فقد كانت تعتمد علي نشر قصة يكتبها ويرسمها احد الفنانين من تلاميذه بالفنون الجميلة.. فقدم جورج البهجوري "أم الضفيرة "وايهاب شاكر" عقلة الصباع في مملكة النمل" أما محيي اللباد فقد الف ورسم "ذيل الفار"، كما شارك أيضا يوسف فرنسيس وفايزة نجيب بكتابين آخرين. وقد دفع بيكار بتلاميذه من الفنانين في مجال التاليف من خلال هذه السلسلة وذلك لإيمانه الشديد بأن الفنان من الممكن ان يقدم اضافة في ادب الاطفال وفي الوقت نفسه يكون الاقدر علي التعبير بالصورة من خلال احساسه بما يكتب وفهمه ومعايشته لروح النص الذي يكتبه . وقدم بيكار القدوة والمثل حين بدأ السلسلة بكتابه "الدجاجة السوداء" بقلمه وريشته. وقد كتب بيكار النص بمشاعره وعبر عنه بريشته بنفس الصدق وهنا تضافرت قدراته التعبيرية من اجل تعميق الاحساس بالجمال لدي اطفالنا وتثقيف اعينهم إلي جانب تثقيف عقولهم.. وكانت التجربة فتحا جديدا في مجال ثقافة الطفل ..حيث اضاف بيكار العديد من الكتب للاطفال رسما وكتابة بعد "الدجاجة السوداء" مثل "خروف العيد و"مرزوق والسمكة" و"مغامرات بسبوس" وهي من سلسلة " الكتاب السعيد" ..كما فتح الباب علي مصراعيه لرسامينا في الرسم والكتابة. ناقد تشكيلي وبيكار فنان البورتريه ورائد الرسم الصحفي ورسوم الاطفال لم يكن يتصور علي حد تعبيره ان يتحول يوما إلي النقد التشكيلي.. فقد حدث هذا في أواخر الستينات بناء علي نصيحة سعد كامل مدير تحرير الاخبار في ذلك الوقت الذي اقترح عليه ان يقدم نافذة يطل منها القارئ علي مائدة الفن التشكيلي.. فجاءت كتاباته مسكونة بالعمق والبساطة والشاعرية بمثابة انشودة طويلة ومتصلة تتغني بالخطوط والألوان وتنتقل من اللوحة إلي التمثال ومن المتحف إلي المعرض عبر الزمان والمكان.. الحاضر والتاريخ ونجحت في كسر الحاجز بين قارئ الصحيفة الشعبية والفن.. بالنزول إليه والصعود به إلي مرافئ جديدة ومتنوعة . هذا هو بيكار الفنان الشامل وتلك بعض من إبداعاته.. قليل من كثير مما أثري حياتنا بعمق فنه . تحية إلي روحه باتساع المساحة التي شدت بقلمه وريشته والتي امتدت لأكثر من سبعين عاما من الإبداع .