إذا تشابهت علينا الأقوال والأفعال وبتنا في حيرة من أمرنا ، عاجزين عن التفرقة بين الحق والباطل وما هو بين - بين ، فمن المفترض أن يكون مفتي الديار هو ملاذنا ودليلنا نسترشد برأيه ونأخذ بفتواه فقوله الفصل وحجته هي الأقوى ، ذلك أن منصبه يحتم عليه الأمانة والانحياز لما يرضي الله ورسوله وليس لما يناسب الموائمة السياسية ويتماشي مع المقتضيات الدبلوماسية . لقد استنكرنا في الشهور الماضية ما أشيع عن تعدد زيجات الدكتور علي جمعه وصدقناه حين دفع التهمة عن نفسه واعتبرنا ما تردد وشاية أراد بها أصحابها تشويه صورته كرمز إسلامي له كل التقدير والتبجيل والاحترام وعدنا نجدد فيه الثقة ونضعه في مصاف المنزهين عن الدنايا والمرتقين فوق الشبهات .. هذا فيما كان يتعلق بالمذمة الشخصية والحرب النفسية . أما إذا اتصل الأمر بالثوابت الوطنية فليس له علينا حق الدفاع والمؤازرة ، وإنما النقد والمسائلة حكم شعبي ورسمي واجب النفاذ وعلي المفتى الانصياع له وتوضيح كل الملابسات والتفاصيل الخاصة بزيارته الغامضة للقدس في وقت ترزح فيه فلسطين الشقيقة تحت وطأة الاحتلال الصهيوني وتطوق المدن المقدسة بأسلاك الحصار الشائكة وينكل بالشعب المضطهد أناء الليل وأطراف النهار تحت كل الأسماع والأبصار وتعلو مستويات الجدار العازل ويسقط العشرات من الشهداء في غزة وجنين وبيت لحم والخليل ويزيد عدد المستوطنات ويضيق الخناق تباعاً علي أصحاب الأرض والوطن فيشردوا ويطردوا من ديارهم !! كل هذا لم يسترع انتباه فضيلة المفتي ومضي يقطع أشواطاً نحو هدفه غير المعلوم ويتكبد مشاق الرحلة عبر الحدود الأردنية متصوراً أن التحايل علي طريقة السفر والهروب من الختم الصهيوني علي " الباسبور " والأوراق الرسمية يمنحه شرعية الدخول إلي الأراضي المحتلة وأن التلويح بشعار الدعم والمساندة للمواطنين الفلسطنيين فيه ما يكفي من التبرير ، بينما هو يعلم تمام العلم أن ما يقوله محض سفسطة ومحاولة فاشلة للخروج من المأزق ، وأن الحقيقة تنطوي علي أشياء أخري بعيدة كل البعد عن المعلن من كون الزيارة جاءت لحضور حفل أو مناسبة لها جلالها ووقارها ودلالتها الدينية ، حيث إفتتاح كرسي الإمام الغزالي كان هو السبب الرئيسي . إنه نفس منطق الرئيس الراحل أنور السادات صاحب السبق في أول زيارة للقدس ، تلك التي جلبت لنا عار كامب ديفيد وغلت أيدينا عن المقاومة وكبلتنا بأطواق من الفولاذ بإتفاقية منحت للعدو كل مسوغات الاختراق والتآمر والترتيب والتنفيذ لجميع خطط الإبادة والتخريب تحت غطاء قانوني تضمن به إسرائيل استحقاقات اللعب علي المكشوف وهي مطمئنة لرعاية الدولة الحاضنة " الولاياتالمتحدةالأمريكية " الضالعة في كل ما ظهر وما بطن من جرائم وممارسات ، لا شك في أن زيارة المفتي ضمن سياقاتها ، وإلا بماذا يُفسر اختيار هذا التوقيت بالذات ليحل الدكتور علي جمعة ضيفاً علي فلسطينالمحتلة وسط حراسة أمنية مشددة خاضعة لكنترول اللوبي اليهودي حسبما ذكرت جريدة يديعوت أحرانوت الإسرائيلية . أليس هذا أدعي للريبة والشبهة في أن ما حدث خطوة للتطبيع وإثبات أن الثورة لا تشكل خطراً علي المشروع الإسرائيلي الطموح ، بل ربما تسهل تحقيقه لو تم الاتفاق علي صيغة تفاهمية بين أمريكا وأصدقائها في مصر من الخارجين عن السرب الوطني تفعيلاً للمساعي التي لم تهدأ منذ إعلان القوي السياسية إجماعها علي رفض التطبيع بكل أشكاله وأنواعه بما فيها الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية اللذان استنكرا الزيارة ورفضاها شكلاً ومضموناً . إن ثمة أشياء تحدث خلف الكواليس ومن وراء ظهر الشعب تشي بوجود أصابع خفية تحرك الخيوط في اتجاهات معاكسة للإتجاه الثوري تستخدم فيها الدمى والعرائس وأخيلة الظل للتمويه والخداع البصري ، فمن بين اللاعبين المهرة ومحترفي التحريك علي مسرح السياسة حواه من الفلول وأتباع النظام السابق فهم وحدهم المستفيدين من خلخلة الدولة وزعزعة المبادئ الوطنية والباقون علي ولائهم وصداقتهم للكيان الصهيوني . أتصور أن زيارة المفتي للقدس كانت بالون اختبار ولو أقسم فضيلته أنها لم تكن رسمية فهذا لا ينفي المعني ولا يرفع الحرج لأنه في النهاية لا يمثل نفسه فقط ، وكما قال الدكتور عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس الشريف وخطيب المسجد الأقصي إن زيارة أي عربي للقدس وهي تحت الاحتلال تطبيع لا ريب فيه .. فإذا كان هذا بالنسبة لآي عربي فما بالنا لو كان العربي مفتياً وإماماً !!