إن قوامة الرجل على الأسرة لها ضوابطها وحدودها وقيودها؛ إذ ليس من حق الزوج أن يتصرف فيها كما يشاء أو أن يكره زوجته على أمر خارج عن طاقتها أو أن يتصرف في ملكياتها الخاصة فالنطاق الذي تشمله قوامة الرجل، لا يمس حرمة كيان المرأة، ولا كرامتها، وهذا هو السر العظيم في أن القرآن لم يقل "الرجال سادة على النساء" وإنما اختار هذا اللفظ الدقيق "قوامون" ليفيد معنى عاليًا بَنَّاءً، يفيد أنهم يصلحون ويعدلون، لا أنهم يستبدون ويتسلطون فنطاق القوامة محصور، إذن في مصلحة البيت، والاستقامة على أمر الله، وحقوق الزوج، وأما ما وراء ذلك فليس للرجل حق التدخل فيه أبدا ومن ذلك: 1- أنه ليس للزوج حق التدخل في مصلحة الزوجة المالية، فقد قرر علماء الإسلام حق تصرف المرأة في مالها، وأنه ليس لزوجها حق التدخل فيه بغير رضاها. 2- ليس للزوج على زوجه طاعة إلا في حدود الشرع، فلا يجب عليها أن تطيعه فيما نهى عنه الشارع. 3- أن صلاحية القوامة للرجل مهمتها حفظ الحقوق لتنظيم الأسرة، فما لم تخل بحق الزوج أو بحق الله تعالى فليس له عليها سبيل، إلا سبيل الكرامة والاحترام[1]. إذاً فالقوامة في الإسلام أساسها التراضي والتشاور وحل المشاكل بالحكمة، لأن كل مشكلة من مشاكل الأسرة إلا ومعها طريقة لحلها، لكن بالتفاهم والتراحم ولين القلب وخشية الله جل وعلا، ومن ثم فالقوامة تضبط مؤسسة الأسرة وتدفع عنها كل المشاكل التي تنخر كيانها. فالقوامة إذن هي تلك المؤسسة التي يسودها التشاور والتفاهم والتعاون، فإذا كان البيت مؤسسة تربوية أو شركة اقتصادية فلا بد له من رئيس، والرياسة لا تلغي البتة الشورى والتفاهم وتبادل الرأي والبحث المخلص عن المصلحة. إن هذا قانون مطرد في شؤون الحياة كلها، فلماذا يستثنى منه البيت؟ إن هذا التشاور يرفع من قدر المرأة وتشعر بأنها ذات وظيفة مشتركة مما يجعلها تبذل قصارى جهدها لمساعدة زوجها في إصلاح هذه الأسرة والمضي بها قدما لتحقيق السعادة المنشودة في الدنيا والآخرة. فالأمر إذن شورى بين الزوج وزوجته، والإسلام لما أناط وظيفة "القوامة" بالرجل لم يلغ حقوق الشركاء من زوجة وأبناء.. لكن جعل هذه القوامة محاطة بمجموعة من الضوابط تجعلها مبنية على الرعاية والحماية والصيانة والاحترام المتبادل بين العاملين في هذه المؤسسة، أما ذلك الزوج الذي يمنح نفسه السلطان المستقل، والأمر النافذ القاهر، تاركا زوجه وراء ظهره، متاعا لا ينظر إليه إلا حيث يريده، فهو زوج دخيل على الحياة الزوجية التي رسمها الإسلام، لا يمثلها ولا يكون مرآة لها، هو زوج لا يعرف معنى قوله تعالى: }وأخذن منكم ميثاقا غليظا }. ولا معنى قوله تعالى:}هن لباس لكم وأنتم لباس لهن }[4] ولا معنى قوله تعالى:}ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة }[5]"[6].وعلى ذلك فإنه ليس من معاني القوامة إثبات أي حق للزوج في الاستبداد برأيه كيفما كان في خصوص تلك الشؤون، إذ الواقع أنه ينبغي عليه أن لا يقطع برأي في مسألة تخص الأسرة إلا بعد التشاور مع شريكة حياته، فإن اتفقت وجهة النظر بينهما فبها ونعمت وإن اختلفت تعين عليه أن لا يعمل برأيه إلا بعد الاقتناع بفساد وجهتها وبعد السعي حثيثا لاقتناعها بذلك... وهذا ما يقتضيه بعد واجب حسن العشرة المفروض عليهما جميعا[7]. وما تقتضيه كذلك الحياة الزوجية لتحقيق التكامل بين الزوجين. ولا ريب أن في مثل هذه الشورى، وهذا التعاون ما يوثق روابط المحبة ويؤكد عرى الحياة الزوجية، ويسدد الخطى، ويحفظ عقد الأسرة من الانفراط. فليست القوامة بميزان الشرع استبدادا وتسلطا وتعسفا وقهرا، بل تكليفا للرجل ليقوم برعاية الأسرة والإنفاق عليها، قوامة لها حدودها، ولا شأن له بآرائها وأفكارها، ولا بتصرفاتها المالية[9]ولا حق له في ظلمها وإذلالها وإهانتها، ويجب أن يتاح للمرأة كل الفرص التي تستطيع بها أن تنمي كفاءاتها ومواهبها الفطرية، في حدود النظام الاجتماعي، بأكثر ما أمكنها، وتقوم بنصيبها من العمل لتعمير التمدن على أحسن وجه ممكن. يقول الشيخ محمد حسين فضل الله: " إن قوامة الرجل على المرأة، في دائرة العلاقة الزوجية تتصل بالحقوق الزوجية الخاصة في الجانب الشرعي الإلزامي، وتتصل بالجوانب العامة وفي الموارد التي تكون المسؤولية العامة فيها من نصيب الرجل وليس من نصيب المرأة، وهذا يتعلق في الأمور التي جعلها الشارع للرجال لا للنساء، وفي ما عدا ذلك فإن للمرأة حرية في حياتها الزوجية كما للرجل الحرية في ذلك. وهذا ما نفهمه من الآية الكريمة:}ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة{ والدرجة هي ما يمثل حق الرجل الذي لا تستطيع المرأة أن تمتنع عنه ويتمثل هذا الحق أيضا في الطلاق الذي هو بيد الرجل. أما في الأمور الأخرى، في ما يتعلق بالجانب المزاجي للمرأة، في عاداتها الشخصية، فإننا في الوقت الذي نكره فيه التدخين للرجل وللمرأة لا نرى من حق الرجل أن يمنع زوجته من التدخين من خلال سلطته الزوجية، نعم قد يكون ذلك من جهة النصيحة، ومن جهات أخرى. ولكن ليس له من خلال السلطة الزوجية، إلا إذا أوجبت مسألة التدخين حالة تنفير تصيب العلاقة الخاصة المتعلقة بالاستمتاع، بحيث يكون نفورا، واشمئزازا بشكل أو بآخر". نفهم من كلام العلامة أن الرجل له حق الاستمتاع بزوجته فقط حيث إذا منعته أو فعلت شيئا يمنعه من هذا الحق ويفر منه فله حق التأديب، أما عدا ذلك فلا حق له، إلا عن طريق النصيحة. وهذا يتنافى مع مقاصد الزواج في الإسلام، فالمقصد الأول كما يتبين لنا أنه التعاون على البر والتقوى وحمل رسالة الإسلام إلى العالم أجمع، إضافة إلى أن الإسلام أمر الزوج بأن يأمر أهله بالخير والبر وينهاهم عن الشر والإثم والعدوان، قال تعالى في كتابه العزيز:}يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }[12]. يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله -: " من فوائد النكاح: مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية، والقيام بحقوق الأهل، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن، والقيام بتربيته لأولاده، فكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم، إنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها"[13]. وعلى ذلك فإن إرشاد المرأة إلى جادة الصواب وتعليمها دينها ونهيها عن المنكر وأمرها بالمعروف واجب على الزوج، لأنه مسؤول يوم القيامة عن رعيته، هل أقام شرع الله فيهم؟... وخلاصة القول: إن الزوجين متى كانت الشورى مبدأ يسيران عليه كان الوفاق والاتفاق والنجاح الدائم فيما يقدمان عليه من الأعمال المشتركة بينهما[14]. يقول ربنا تبارك وتعالى:}وأمرهم شورى بينهم }[15]، ويقول جل وعلا:}وشاورهم في الأمر }[16]، ومن السنة أن نقتدي بالحبيب صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتشاور مع أهله،عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا، وقال:إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئتِ سبَّعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي[17] وفي رواية كذلك المسلم: ليس بك على أهلك هوان، إن شئتِ سبَّعتُ عندك، وإن شئت ثلثت ثم درت.. قالت: ثلث[18]. وهذا الحديث يبين لنا مشاورته صلى الله عليه وسلم لأهله. يقول ربنا تبارك وتعالى: }فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }[19]. فهذه الآية تقرر مبدأ الشورى في إرضاع الولد وفصاله، نعم الآية نص يتناول حكم المرأة المطلقة، فإن أرضعت ولدا لها من مطلقها فإن أرادا أن يفطماه قبل مضي الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة، وتشاورا فيه وأجمعا عليه فلا جناح عليهما، فإذا انفرد أحدهما بذلك دون الآخر فلا عبرة بانفراده، وكان تصرفه باطلا، إلا أنه إذا كان هذا في حق المطلقة في الشورى والتراضي والتفاهم على ما فيه مصلحة الطفل، فأولى أن يكون هو حق الزوجة القائمة في البيت على رعاية جميع الشؤون[20]. فالقوامة إذن شورية، هكذا يتبين لنا أن الإسلام بتوجيهاته للأسرة المسلمة، يفتح عين الزوجين معا على حقيقة الأسرة السعيدة. فليست السعادة في المادة والاستمتاع، بل السعادة الحقيقية هي سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، في الدنيا سعادة البيت والأسرة وفي الآخرة سعادة الاجتماع في أعلى الجنان والنظر إلى الحنان المنان. "فبالأنثى تكتمل سعادة الرجل وتتم راحته وهي تجد عنده ما تحتاج إليه من الرعاية والعطف"[21]، فيتعاونان على الخيرات ويساهمان في بناء جدار الأمة الذي انقض ويستخرجا من تحته كنز السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة. وهكذا ندرك أن كل ضوابط الإسلام، التي ينظم بها حياة الناس الاجتماعية، لها معيار لا يتخلف إذا اختبرتها به، وجدت أنها الحق الذي لا يغني عنه غيره، والصواب الذي لا يقوم مقامه بديل، ذلك هو محك الواقعوالتجربة الذي يسوق البرهان العملي الملموس على النحو الذي تختبر به نجاعة الدواء، المعمول لجلب الشفاء وعلاج الأبدان[22]. لكننا لا ننكر أن هناك من يستعمل هذا الحق "القوامة" لتذليل المرأة وإهانتها واحتقارها، ويرجع ذلك إلى هبوط إيمان هؤلاء بالآخرة الذي تسبب لهم في الانزلاق في هذه المزالق، فلا نلوم الإسلام إذا أساء بعض أشباه الرجال الفهم تجاهه أو أعرضوا عنه، فالعيب فيهم لا في الإسلام. فبالمودة والرحمة والتشاور والتفاهم والتعاون يتحقق الاستقرار الأسري والسكن الوجداني، لكننا نرى عكس ذلك انطمست الفطر وتنكد العيش وتنغصت الحياة لما زاغ الناس عن هدي الكتاب وتوجيهات النبوة، والحصاد الذي نعيشه هو نتاج ذلك، انهارت البيوت وتآكلت وكثرت الشكاوى واختلت الأسس وانهار البناء... لماذا؟ لأننا لم نقم شرع الله في بيوتنا وفي أسرنا فكان العقاب ما نراه صباح مساء، وقليلا من الأسر نجت من هذا التخريب في الأساس. إن هذا درس لنا لننهض من كبوتنا ونستيقظ من سباتنا العميق لنصلح أسرنا ليصلح مجتمعنا، نستضيء في طريق إصلاحها بالتوجيهات النبوية الشريفة، فبهديه عليه الصلاة والسلام واقتفاء أثره والسير على نهجه يرفع عنا هذا الضنك ويجتمع الشمل وتلتحم لحمة الأسر ودون ذلك نسأل الله السلامة والعافية. المصدر: موقع الفقه الإسلامي..د.رشيد كهوس