بعد مائة عام من أحداث "إبادة الأرمن" لا تزال هذه المسألة تشكل أزمة خاصة في ظل مصادقة مجلس الشيوخ الفرنسي على مشروع قانون معاقبة (إنكار إبادة الأرمن) الأسبوع الماضي ، فقد أعدت الحكومة التركية خطتها الفعلية ضد فرنسا على خلفية تداعيات مشروع القانون، حيث يستعد 60 نائبا فرنسيا للطعن في مشروع القانون أمام المحكمة الدستورية بعد جمع توقيعاتهم لحسم الموضوع قبل توقيع القانون من قبل الرئيس الفرنسي ساركوزى بعد 15 يوما فهل سترجع تلك الخطوات فرنسا عن قانونها؟. وتتضمن الخطة الفعلية التركية مرحلتين، الأولى : شن حملة قانونية بالأوساط الدولية ضد فرنسا، والثانية : وضع العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية حيز التنفيذ بشكل تدريجي ضد فرنسا منها سحب السفير التركي من باريس وتخفيض التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى سكرتير ثالث مثل التعامل الدبلوماسي مع إسرائيل، فضلا عن عدم السماح لدخول الشركات الفرنسية مثل بيجو ورينو بالمناقصات الحكومية المطروحة إضافة إلى عدم شراء طائرات إيرباص .
ويرى المراقبون أن مشروع قانون إنكار (إبادة الأرمن) سيؤثر سلبا على العلاقات الاقتصادية ، حيث أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وفرنسا تبلغ 11 مليار يورو ، وأن فرنسا تحتل المرتبة ال11 بقائمة الدول المستوردة وأغلبية صادراتها لتركيا هي السيارات وقطع غيارها إضافة إلى البضائع التجارية والمواد الخام المختلفة على سبيل المثال منتجات طبية ومواد بلاستيكية والتي تصل قيمتها إلى 6 مليارا و 264 مليون يورو ، وأما قيمة الصادرات التركية لفرنسا فتصل إلى 5 مليارات و 402 مليون يورو .
كما تصل أعداد الشركات الفرنسية العاملة في تركيا إلى ألف شركة وتصل استثماراتها إلى 8 مليارات و 600 مليون يورو ، وأما أعداد الشركات التركية العاملة في فرنسا فتصل إلى 350 شركة ويعيش 550 ألف مواطن تركي في فرنسا.
وكان مجلس الشيوخ الفرنسي قد أقر يوم الاثنين الماضي مشروع قرار تبنته الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) مؤخرا يقضي بتجريم إنكار إبادة الأرمن على يد الأتراك في العهد العثماني قبل ما يقرب من 100 عام، بالسجن لمدة عام وغرامة قدرها 45 ألف يورو، إلا أن المشروع لن يصبح قانونا ساري المفعول من دون مصادقة الرئيس نيكولا ساركوزي عليه.
وبدأت تركيا حملة دبلوماسية مكثفة ضد فرنسا على خلفية تداعيات مشروع القانون ، جاء آخرها من خلال تصريحات وزير خارجيتها أحمد داود أوغلوا لشبكة (سي إن إن) التركية أذيع اليوم السبت قال فيها "إن فرنسا غير مؤهلة للاشتراك في رئاسة مجموعة (منسك)، وهي المبادرة المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المعنية بإيجاد حل سلمي تفاوضي للصراع بين جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا بآسيا الوسطى حول إقليم (ناجورنو كاراباخ) ، بعد تبني البرلمان الفرنسي لمشروع القرار الذي يجرم "مزاعم أرمينية حول الحوادث التي وقعت إبان الحقبة العثمانية .
وأضاف أوغلوا " إن فرنسا لا يمكنها من خلال هذا الاتجاه الضيق الأفق في برلمانها الخاص أن تصلح لتولي الرئيس المشارك لمجموعة منسك " ..معتبرا "أن الوثيقة ضد الطبيعة الإنسانية ، وطبيعة التاريخ وروح القانون " .. معربا عن اعتقاده بأن المواطنين الفرنسيين الحكماء سيناقشون التشريعات التي تتعارض مع هذه المبادئ الثلاثة".
وأكد الوزير التركي أن الدوائر اليمينية المتطرفة والمناهضة للإسلام تشكل تهديدا جديا لأوروبا .. مشددا على أن مثل هذه العقلية شقت طريقها إلى المستويات العليا من الحياة السياسية الفرنسية .. معربا عن خيبة أمله من موقف الاتحاد الأوروبي الذي لم يتحرك خطوة إزاء مشروع القرار الذي يتعارض مع الحريات الأساسية مثل حرية الفكر والتعبير في أوروبا .
ويرى عدد من المحللين أن مشروع القرار يأتي كأداة سياسية من حزب ساركوزى في الانتخابات الفرنسية العام الجاري، حيث من المخطط أن يجرى توقيعه ليتحول إلى قانون في موعد متزامن تماما مع الانتخابات العامة بفرنسا لكسب تأييد نحو نصف مليون ناخب أرميني يقيمون في فرنسا.
وقال المراقبون في أنقرة إن الحوادث التي شهدتها مناطق شرق الأناضول التي كان يقطنها الأرمن قبل الحرب العالمية الأولى مباشرة وخلالها، لا ترقى إلى تهمة الإبادة ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية ستكون هي الأخرى مرتكبة جرائم إبادة بسبب قصف هيروشيما وناجازاكي في اليابان أواخر الحرب العالمية الثانية.. مؤكدين أن الإبادة هي "محو معظم أو كل ما يتعلق بمجموعة عرقية أو دينية أو لغوية بعينها".
ويتفق المؤرخون على أنه خلال الترحيل الجماعي للأرمن من الأقاليم التي كانوا يعيشون فيها في شرق الأناضول عبر الطرق الجبلية إلى سوريا ومناطق أخرى خلال الحرب العالمية الأولى، قتل منهم مئات الآلاف كما تعرض الكثير منهم للنهب والاغتصاب في حوادث مروعة .
أما من وصل منهم فقد تم وضعهم في معسكرات في سوريا "ولكن لم يقتلوا أو يحرقوا في الأفران، مع الاتفاق على أنه كان أمرا قاسيا، ولكنه لا يرقى إلى قضية الإبادة لأنه لم يعرف العدد الفعلي للقتلى - كما يقول بعض المحللين ، ولا تزال تركيا تعول على الكثير من السياسيين والمفكرين الفرنسيين الذين اعترضوا على طرح مشروع القانون في البرلمان الفرنسي ومنهم وزير الخارجية ألان جوبيه ، وما تلاه في مسار تدهور العلاقات ولا سيما تداعياتها الاقتصادية والتجارية بالإضافة إلى العلاقات السياسية.
ويمثل الأرمن في الشتات عنصرا كبيرا للضغط على الحكومات في أنحاء العالم في اتجاه الاعتراف "بإبادة الأرمن" ، فقد قامت منظمات أرمينية متطرفة بعمليات إرهابية خلال عقدي السبعينات والثمانينات استهدفت الدبلوماسيين الأتراك في أوروبا وآسيا وأمريكا.
ولقد تفاعلت قضية الأرمن على مدى عقود ، ولا تزال تصر الحكومات التركية المتعاقبة على أن تلك الحوادث لم تكن "إبادة جماعية" وتقدر عدد القتلى بنحو 300 ألف أرميني، فيما تشير المصادر الغربية بأنها تتراوح بين مليون ونصف مليون أرميني ، وترد أنقرة على اتهامات إبادة الأرمن بأن مئات الآلاف من المسلمين تم تهجيرهم قسرا من منطقة البلقان عقب حرب البلقان عام 1912 وانهزام الإمبراطورية العثمانية وخسارة معظم أراضيها في أوروبا، كما أن أعدادا كبيرة من المسلمين الأتراك قتلوا أيضا خلال الحرب.
وحسب ما جاء في البند الثاني من معاهدة الأممالمتحدة حول الإبادة الصادر عام 1948 ، يصف الإبادة بأنها "تدمير كلي أو جزئي لجماعة قومي أو عرقية أو جنسية أو دينية ، ويقر المسئولون الأتراك بأنه تم ارتكاب " فظائع " ، ولكنهم يؤكدون أنها لم تكن محاولة منظمة لإبادة الشعب الأرميني المسيحي.
ووقعت مذابح الأرمن عقب عام من دخول الإمبراطورية التركية الحرب العالمية الأولى بجانب الألمان عام 1914 ، فيما يعرف (بالقوى الوسطى) التي كانت تضم أيضا الإمبراطورية النمساوية المجرية ومملكة بلغاريا، ولأنها كانت تقع في الوسط بين الإمبراطورية الروسية في الشرق وفرنسا وبريطانيا في الغرب .
ويعتبر الأرمن يوم 24 أبريل عام 1915 " بداية الإبادة" عندما اعتقلت الحكومة العثمانية نحو 50 مفكرا أرمينيا وقادة الأرمن، وتم إعدامهم في وقت لاحق ، وما تلاه من عملية التهجير من أراضي الدولة العثمانية بناء على قانون صادر بهذا الاسم،أما خلال عامي 1919 و 1920 تمت محاكمة عدد من كبار المسئولين في الحكومة العثمانية فيما يتعلق بتلك الفظائع ، بينما فر البعض منهم للخارج .