لعلها لطائف الإشارات الرمضانية ومدهشات التوقيتات بكل ما تنطوي عليه من مغزى لقصة شعب عظيم وجند بواسل ان تتزامن اليوم "الاثنين" ذكرى مضي نصف قرن على حرب الخامس من يونيو 1967 مع الذكرى الرابعة والأربعين لحرب العاشر من رمضان المظفرة التي كشفت عن حقيقة وأصالة وبطولة خير أجناد الأرض وتجليات ثقافة الصمود والنصر. ورغم مضي 50 عاما على حرب الخامس من يونيو 1967 فإن أسئلة هذا الحدث الجلل مازال حاضرا بقوة في الثقافة العربية وطروحات المثقفين العرب والذاكرة العامة للأمة فيما يدور الزمان دورته فإذا بالذكرى تأتي لتتزامن مع حرب العاشر من رمضان المجيدة وشعب مصر العظيم يثبت مجددا تمسكه بثقافة النصر والصمود ورفض الهزيمة. وإن صحت مقولة "أن من يفقد السؤال يفقد الجواب" فإن الزيارات الجديدة للتاريخ و أسئلة 5 يونيو 1967 تنطوي على أهمية كبيرة لأنها تتعلق في المقام الأول بالمستقبل المنشود وهو أهم بكثير من "حائط المبكى العربي" الذي حرص البعض على إقامته منذ حرب 5 يونيو المشؤومة بما يكشف عن رغبة في صناعة الهزيمة في الوجدان العام. كما أن هذه الأسئلة يمكن أن تقدم إجابات هادية للتقدم للمستقبل بثقة بقدر ما تكشف عن أن "روح مصر الخالدة لم تهزم"..فرغم مرارة ما حدث في حرب الخامس من يونيو خرج شعب مصر العظيم عن بكرة أبيه رافضا الهزيمة وأجمع على ضرورة بدء الاستعداد لمعركة تحرير الأرض السليبة مؤكدا في الوقت ذاته على ثقته بجيشه الذي لم يمنح الفرصة الحقيقية ليحارب في الخامس من يونيو 1967 على الرغم من بطولات مطمورة لشهداء ومقاتلين مصريين في هذه الحرب . فشعب مصر يعرف جيشه وينظر له دوما باعتباره الملاذ والدرع في أوقات الشدائد والمحن والاحن ويعرف عن حق ان هذا الجيش لن يخذله أبدا ولم يرفع سلاحه يوما إلا ضد أعداء مصر وشعبها بقدر ما كان قاطرة وطنية للتقدم في تاريخ هذا الوطن. ولئن قال الكاتب الروائي الأمريكي أرنست هيمنجواي قي رائعة "العجوز والبحر" : "قد يخسر الرجل دون أن ينكسر فإن هذه المقولة قد تنطبق على المصريين بعد خسارة جولة الخامس من يونيو 1967 فقد يكونوا قد خسروا جولة حرب كحالة مؤقتة وعابرة بحسابات التاريخ لكنهم لم ينكسروا ابدا ثم انهم رفضوا الهزيمة وشرعوا فورا تحت شعار "يد تبني ويد تحمل السلاح" في الاستعداد لجولة جديدة وحرب قادمة لتحرير ترابهم الوطني من دنس الاحتلال. ولعل الوقت قد حان لإنصاف الثقافة المصرية التي برهنت على اصالتها في ساعات الظلام الحالك عقب معارك الخامس من يونيو 1967 واثبتت انها ثقافة مقاتلة عندما شكلت المدد والزاد لأرواح المقاتلين في حرب الاستنزاف حتى عبور الهزيمة في السادس من اكتوبر 1973. والحروب الكبرى تؤثر دوما على المشهد العام في أي أمة وأي دولة وهذا ما حدث في مصر والأمة العربية كما حدث في الغرب الذي تنتج ثقافته رؤى جديدة لحروب قديمة مثل الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في الثامن والعشرين من يوليو عام 1914 ووضعت أوزارها في الحادي عشر من نوفمبر عام 1918. وها هو الناقد الثقافي والأكاديمي الكاتب الصحفي جيمس فينتون يتناول في طرح ثقافي جديد وعميق تأثير الحرب العالمية الأولى على المشهد الفني التشكيلي في الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص والغرب عموما ويتجول في طرحه المنشور مؤخرا بدورية "نيويورك ريفيو" عبر عديد المعارض الفنية القديمة والجديدة التي مازالت تشهد لوحات تعبر على نحو أو آخر عن رؤى فنانين ومثقفين في الغرب لهذه الحرب ناهيك عن جديد الكتب مثل كتاب "الحرب العالمية الأولى والفن الأمريكي" الذي صدر بالإنجليزية هذا العام. وحتى الآن تصدر كتب جديدة عن المشهد الألماني غداة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية ومن بينها أعمال إبداعية مثل رواية:"العواقب" لريديان بروك, وفي هذه الرواية الصادرة بالإنجليزية صور تبعث على القشعريرة من حجم الدمار والبؤس الإنساني في ألمانيا بعد هزيمتها المريرة أمام الحلفاء. ولاجدال أن ما حدث في حرب الخامس من يونيو 1967 ترك آثاره على الثقافة العربية كما حرض مثقفين عرب على مناقشة مشاكل التخلف الثقافي ومعضلات الفكر وعيوب التفكير العربي حيث "المغالاة في مدح الذات مع إمكانية التحول فجأة لجلد الذات على وقع الهزيمة" فضلا عن غياب روح الفريق أو العمل الجماعي والإقامة في الماضي دون الالتفات للمستقبل. ومن هنا قال الشاعر السوري الراحل نزار قباني إن الإسرائيليين "ما دخلوا من حدودنا وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا" فيما توقفت الباحثة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة إليزابيث كساب في كتابها "الفكر العربي المعاصر..دراسة في النقد الثقافي المقارن" عند سؤال هام وهو :"إلى أي مدى ومن أي منطق قام المفكرون النقديون العرب بعد نكسة 1967 باعتبار الأزمات الثقافية أزمات سياسية"؟. وفي هذا الكتاب ستجد أيضا أسئلة من قبيل :"لماذا سبقتنا الشعوب الآخرى في العالم؟ وكيف يمكننا أن نتغير ونتطور من دون أن تطغى الهوية الغربية علينا فنفقد روحنا العربية؟..كيف نسترجع من الماضي مجدنا وكرامتنا وفخرنا وكيف نعود إلى قوتنا السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والثقافية؟. وتقول الدكتورة اليزابيث كساب إن هناك وجوها ظهرت في الثقافة العربية بعد حرب 5 يونيو تطالب بقوة بتعميق النقد مثل سعد الله ونوس في الدراما والثقافة وقسطنطين زريق في التاريخ والنظرية الحضارية وصادق جلال العظم في الفلسفة والتنوير وعبدالله العروي في التاريخ والايديولوجيا. وعلى الرغم من الاختلافات بينهم فإن اليزابيث كساب تلاحظ في كتابها انهم اتفقوا على ضرورة "استصلاح الامكانات النقدية للناس باعتبارهم مواطنين وبشرا ونقد الذات واعادة فحص بعض اساليب التفكير السائدة ". غير أن المصريين كان لهم أن يبدعوا في ثقافة الصمود ورفض الهزيمة في العديد من إبداعات وكتابات المثقفين المصريين في تلك الأيام العصيبة من عام 1967 وكان للرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن يبتسم لأول مرة بعد نكسة 5 يونيو والبطل عبد المنعم رياض يطلب منه بالحاح بعد أن اختير رئيسا للأركان يوم الحادي عشر من يونيو 1967 آلا يقبل أبدا أى عرض لإعادة سيناء لمصر حتى دون شروط مؤكدا أن الحرب واجب أخلاقى لاستعادة هذه الأرض المصرية الغالية والثأر لهزيمة يونيو ودماء الشهداء " فيما عبر هذا المقاتل الشهيد والجنرال المثقف عن حقيقة تتمثل في أن الحروب الكبرى تؤثر دوما على المشهد العام في أي أمة وأي دولة. وإذا كانت حرب العاشر من رمضان-السادس من اكتوبر 1973 قد نفت أن تكون الهزيمة قدر مصر والأمة العربية فإن فارس الشهداء عبد المنعم رياض كان قد اختار قبل تلك اللحظة أن يوجه باستشهاده في مطلع حرب الاستنزاف عند "العلامة رقم 6" وعلى مسافة لا تزيد عن 250 مترا من نيران العدو الرسالة لكل من يعنيه الأمر:"مصر لن تموت رغم غيوم الخديعة وجبروت الغدر والمكر المخاتل..مصر باقية شامخة مابقى الزمان والمكان ". واذ تجلت كل هذه المعاني في حرب العاشر من رمضان فان الذكرى المجيدة اليوم تستدعي مقاربات للحظة العربية الراهنة التي تتطلب جهدا ثقافيا استراتيجيا برؤى مبدعة للاجابة على اسئلة تتعلق بوجود الأمة وطبيعة النظام العربي الجديد في وقت تتشكل فيه ملامح نظام عالمي جديد بينما يدفع الارهاب في اتجاه تحويل الأمة العربية "لأمة مستباحة لقوى الخارج". ولئن انطوت حرب العاشر من رمضان على دروس خالدة وعبر باقية ومعان راسخة فالقضية ليست استنطاق الماضى لمجرد الاستنطاق بقدر ماهى استلهام العبر والدروس والبحث عن اجابات للمستقبل. وفيما تتوالى الطروحات والتعليقات والتقارير في الصحف ووسائل الاعلام المختلفة حول المخططات الخارجية لتفكيك المنطقة العربية وصياغة شرق أوسط جديد فإن الإرادة العربية يمكن لو استلهمت ثقافة وروح العاشر من رمضان أن تحبط تلك المخططات المعادية للأمة العربية. ومشهد عربي مثل المشهد السوري الراهن ينذر بمدى خطورة التلاعب بالهويات والمخزون العرقي والطائفي وتعميق الكراهية بين مكونات الشعب الواحد وتنمية ثقافة التباغض والتنابذ المجتمعي فيما يتحول الأبرياء من أبناء سوريا لوقود لهذه اللعبة الخطرة ضمن "لعبة الأمم" وتعبيرات حقائق القوة في عالم اليوم والتحولات العصيبة والمخاض الصعب من نظام عالمي تتقوض اسسه لنظام عالمي جديد لم تستقر ملامحه الحقيقية بعد . ولن تنسى الذاكرة القومية والتاريخية العربية المقولة التي اطلقها رئيس الاركان السوري اللواء يوسف شكور اثناء نقاش حول ساعة الصفر لحرب العاشر من رمضان ومدى ملائمة التوقيت للجيشين المصري والسوري من انه "اذا سقطت دمشق لن تسقط الأمة العربية ولكن لو سقطت القاهرة ستسقط الأمة العربية كلها". ولعل من أسوأ مظاهر المسألة السورية التي باتت من أكثر أزمات العالم مآساوية أن تتحول شعارات جذابة ومباديء سامية مثل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان إلى سلاح يفتك بسيادة الدولة ووحدة أراضيها وتهجير شعبها وتحويله إلى كائنات تبحث عن ملاذات آمنة بين الأربعة أركان للمعمورة. وهنا يكون السؤال الذي يهمنا كعرب :"اين موقعنا وموقع النظام العربي الاقليمي المنشود مما يحدث على المستوى الكلي في العالم"؟!..فلئن كان هناك من يذهب الى ان المشهد الاقليمي العام في المنطقة العربية لم يكن ابدا اسوأ مما هو عليه الآن فان هناك اتفاقا عاما بين اغلب المثقفين المصريين والعرب عامة على ان الارهاب هو العامل الرئيس في تردي هذا المشهد العربي وانهاك مكونات القوة العربية الشاملة. وفي كتابه "النظام العالمي" الذي يتجاوز ال400 صفحة و يقع في تسعة فصول تعرض وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر لقضايا تتعلق بالتنظيمات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط بما يعكس ادراكا لأهمية الظاهرة وقابليتها للتطويع في سياقات مختلفة ومتعددة. إن الألامر هنا يتعلق بتحول شامل طال الساحة العربية فى مجملها ويتطلب صياغة جديدة للفكر الاستراتيجي العربى للإجابة على أسئلة خطيرة تمس الوجود العربى ومفهوم الأمة الواحدة ومضمون النظام الإقليمي الجديد في ظل تحولات نحو نظام عالمي جديد. وحرب العاشر من رمضان المجيدة ارتبطت لدى المصريين بقيمة غالية في منظومتهم القيمية وهي "قيمة الدولة الوطنية المستقلة " بينما أظهرت جماعة سعت لركوب الأحداث والقفز على مقاعد السلطة في مصر استهانة واضحة لكل ذي عينين بهذه القيمة الغالية ناهيك عن دماء الشهداء الذين قدموا أرواحهم دفاعا عنها. وقد شكل هذا الوضع "حالة انكشاف لأي غطاء كانت تتدثر به هذه الجماعة أمام الغالبية الساحقة من المصريين الذين يعرفون أن دولتهم الوطنية هي أقدم دولة في التاريخ ويرفضون أن تكون بلادهم جزءا من مشاريع مشبوهة وخرائط جديدة أعدت في الخارج للمنطقة العربية من أجل مزيد من التقسيم والتشطير والكانتونات الطائفية ومن بينها ما يسمى "بمشروع الشرق الأوسط الكبير". لقد دفع المصريون الكثير والكثير من أجل تحرير سيناء واستعادة كامل ترابهم الوطني وبمشاعر قد لا يصل لعمقها وحساسيتها أصحاب بعض الطروحات الغربية في راهن اللحظة المشحونة بالمتغيرات والتحديات. وإذا كانت الأفكار هي الفضاء الرئيس الذي يعطي للظواهر المادية معناها الحقيقي كمحدد للسلوك البشري الفردي أو الجمعي وإذا كان هناك من يريد توظيف البعد المذهبي أو الإثني أو التفسير العقائدي المنحرف عن صحيح الدين في حرب شريرة حقا ضد الأمة العربية فإن الوقت قد حان لصياغة استجابة عربية شاملة ردا على هذا التحدي الخطير وهي استجابة لابد وأن يسهم فيها كل المثقفين العرب المنتمين حقا وصدقا لأمتهم كما أنها استجابة لابد وأن تستلهم ثقافة وروح العاشر من رمضان العظيم. إنها الحرب التي باتت تؤشر "لجغرافيا الشهداء في الثقافة المصرية" ومن بين أروع ما في هذه الملحمة أن المقاتلين المصريين كانوا يقاتلون مدافعين عن شرف علم مصر "وعيونهم ليست في ظهورهم وإنما ترنو للأمام في سيناء طالبين النصر أو الشهادة ليشكلوا ثقافة جديدة هي في جوهرها ثقافة التقدم للمستقبل". وهذه الثقافة بمكوناتها الجوهرية من مبادأة ومبادرة وابتكار وابداع وتضحية وفداء وإيمان وفهم عميق لمعنى التراب الوطني وقيمة الدولة المستقلة وشرعية الحرب ونبل القتال لتحريرها لا يجوز أن تكون مجرد تاريخ وإنما لابد وأن تكون "حياة" وثقافة حاضرة وفاعلة في الواقع . ثقافة تقدم حلولا للمشاكل المصرية مهما بدت صعبة وعصية أو مستعصية..ثقافة الأفكار غير التقليدية وثقافة وفية للحلم المصرى..حلم الشهيد وحلم الشاعر وحلم المثقف الذى عبر عنه جمال حمدان بقوله:"مشروعنا القومى ليس إلا بناء مصر القوية العزيزة الكريمة فى الداخل والخارج..مصر القوة والجمال". ها هي ذكرى مضي 50 عاما على حرب الخامس من يونيو تتزامن مع الذكرى ال44 لحرب العاشر من رمضان في مغزى حافل بلطائف الإشارات ومدهشات التوقيتات وها هو شعب مصر يصنع التاريخ من جديد ويتمسك بثوابت هويته ويحمي بطلائع جيشه الباسل دولته الوطنية من الانهيار والسقوط ويسحق فلول الارهاب الظلامي العميل ويسعى لبناء اقتصاد قادر على التفاعل الايجابي مع متغيرات العصر. إنها قصة شعب عظيم ينجب خير أجناد الأرض ويبدد العواصف العاتية ومؤامرات تقسيم الدول وتفتيت الأوطان..بالحق يعلو صوت شعب صامد أبدا ويرفض الهزيمة..شعب من الأحرار يمضي على خاصرة المستقبل بذاكرة النصر ويمنح الغد أملا طليقا وجنود بواسل يصدق فيهم قول الحق عز وجل :"وإن جندنا لهم الغالبون".