رغم مضي 48 عاما علي ملحمة التاسع والعاشر من يونيو 1967 فان أسئلة هذا الحدث الجلل مازال حاضرا بقوة في الثقافة العربية فيما يدور الزمان دورته، فاذا بالذكري الجليلة تأتي وشعب مصر العظيم يثبت مجددا تمسكه بثقافة الصمود ورفض الهزيمة. وان صحت مقولة 'إن من يفقد السؤال يفقد الجواب' فان أسئلة 9 و10 يونيو 1967 تنطوي علي أهمية كبيرة لأنها تتعلق في المقام الأول بالمستقبل المنشود، وهو اهم بكثير من 'حائط المبكي العربي' الذي أقيم منذ حرب 5 يونيو المشؤومة كما أن هذه الاسئلة يمكن أن تقدم إجابات هادية للتقدم للمستقبل بثقة. ففي هذين اليومين الخالدين في تاريخ مصر خرج شعب مصر العظيم عن بكرة ابيه رافضا الهزيمة واجمع علي استدعاء جديد وتفويض أصيل للزعيم جمال عبد الناصر لبدء الاستعداد لمعركة تحرير الأرض السليبة، مؤكدا في الوقت ذاته علي ثقته بجيشه الذي لم يمنح الفرصة الحقيقية ليحارب في الخامس من يونيو 1967 علي الرغم من بطولات مطمورة لشهداء ومقاتلين مصريين في هذه الحرب. فشعب مصر يعرف جيشه وينظر له دوما باعتباره الملاذ والدرع في أوقات الشدائد والمحن، ويعرف عن حق أن هذا الجيش لن يخذله ابدا ولم يرفع سلاحه يوما الا ضد أعداء مصر وشعبها بقدر ما كان قاطرة وطنية للتقدم في تاريخ هذا الوطن. ولئن قال الكاتب الروائي الأمريكي ارنست هيمنجواي قي رائعة 'العجوز والبحر' : 'قد يهزم الرجل دون أن ينكسر ' وهذه المقولة قد تنطبق علي المصريين بعد خسارة جولة الخامس من يونيو 1967 فقد يكونوا قد هزموا في حرب كحالة مؤقتة وعابرة بحسابات التاريخ لكنهم لم ينكسروا أبدا ثم انهم رفضوا الهزيمة وشرعوا فورا في الاستعداد لجولة جديدة وحرب قادمة لتحرير ترابهم الوطني من دنس الاحتلال. وتأتي الذكري الثامنة والأربعين لملحمة رفض الهزيمة فيما يقدم المصريون ملحمة وطنية جديدة وينجزون مشروع قناة السويس الجديدة التي ستفتتح رسميا في السادس من شهر أغسطس المقبل، وليبرهن شعب مصر العظيم مجددا انه قادر دوما علي الصمود في مواجهة التحدي وان استجابته تكون علي مستوي التحديات التاريخية. وهؤلاء الذين يحفرون قناة السويس الجديدة يحملون جينات المقاتلين البواسل في هاتيك الأيام الخالدة في تاريخ مصر عندما سطعت ثقافة الصمود ورفض الهزيمة في العديد من إبداعات وكتابات المثقفين المصريين في تلك الأيام العصيبة من عام 1967 فيما انطلق صوت كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي ام كلثوم تردد ما كتبه الشاعر صالح جودت رفضا لتنحي جمال عبد الناصر واستدعاء جديدا للبطل الذي اختاره الشعب. وكشعاع ضوء في لحظات عصيبة كان المصريون يرددون كلمات الأنشودة التي غنتها ام كلثوم :'قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب.. ابق فأنت السد الواقي لمني الشعب.. ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب.. انت الخير وانت النور.. انت الصبر علي المقدور.. انت الناصر والمنصور.. ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب'. وكان لجمال عبد الناصر أن يبتسم لأول مرة بعد نكسة 5 يونيو وعبد المنعم رياض يطلب منه بالحاح بعد أن اختير رئيسا للأركان يوم الحادي عشر من يونيو 1967 آلا يقبل أبدا اي عرض لإعادة سيناء لمصر حتي دون شروط، مؤكدا علي أن الحرب واجب أخلاقي لاستعادة هذه الأرض المصرية الغالية والثأر لهزيمة يونيو ودماء الشهداء 'حتي لا تضيع الأخلاق ويتحول البلد الي كاباريه أو ملهي ليلي'. وقال فارس الشهداء عبد المنعم رياض:'لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة.. وعندما أقول شرف البلد فلا اعني التجريد وإنما اعني شرف كل فرد في هذا البلد' ليعبر هذا المقاتل والجنرال المثقف عن حقيقة تتمثل في أن الحروب الكبري تؤثر دوما علي المشهد العام في أي أمة وأي دولة. وهذا ما حدث في مصر والأمة العربية كما حدث في الغرب حيث تصدر الكتب تباعا حول جوانب متعددة لتلك الحروب فيما كان الخروج العظيم للمصريين يومي التاسع والعاشر من يونيو 1967 لرفض تنحي جمال عبد الناصر عن منصبه الرئاسي إعلانا لكل من يهمه الأمر بأن إرادة مصر لن تنكسر بقدر ما جاء بشارة بحرب التحرير التي عبر فيها جند مصر البواسل قناة السويس الي سيناء الغالية. وقبل أن ينتهي عام 1967 بدأ رئيس الأركان الفريق عبد المنعم رياض في إعداد الخطة العامة لتحرير الأرض المصرية المحتلة كما يوضح الفريق اول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة حينئذ في كتاب بعنوان :'حرب الثلاث سنوات' لتدور عجلة التنفيذ اعتبارا من فاتحة عام 1968 فيما بدأت بالفعل مرحلة المواجهة عبر قناة السويس. واذا كان الشهيد عبد المنعم رياض قد عرف بحماسه البالغ للتعاون الدفاعي بين الدول العربية باعتباره أعلي وأرقي صور التعاون السياسي وشغل في عام 1964 منصب رئيس أركان القيادة العربية الموحدة فهاهو الزمن يبرهن الآن علي صحة رؤيته الثاقبة وتظهر 'القوة العربية المشتركة' التي أوضح الرئيس عبد الفتاح السيسي أن هدفها تأمين مصالح الدول العربية. وعندما اعلن وزير الدفاع الإسرائيلي حينئذ موشي ديان عن مفاجأة مزمعة في مؤتمر صحفي عالمي ببلدة الحسنة في وسط سيناء تتمثل في الإعلان عن رغبة أهالي سيناء في الانفصال عن مصر وفوض الإسرائيليون الشيخ سالم الهرش من قبيلة 'البياضية' لإعلان الرغبة في الانفصال اذا به يفاجيء ديان أمام العالم ويؤكد في هذا المؤتمر الصحفي علي أن سيناء مصرية قلبا وقالبا ولا يمكن لأحد التفريط في مصريتها. كما بدأت اكبر عملية ثقافية لنقد الذات المصرية والعربية في ضوء دروس 5 يونيو واستلهاما لثقافة رفض الهزيمة التي تجلت يومي التاسع والعاشر من يونيو 1967، وفي سياق 'مساءلة الذات' و'الفعل المعرفي المتجاوز للماضي دون أن يغفل عن دروسه' قال الشاعر السوري الراحل نزار قباني إن الإسرائيليين 'ما دخلوا من حدودنا وانما تسربوا كالنمل من عيوبنا'. وتوقفت الباحثة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة اليزابيث كساب في كتابها 'الفكر العربي المعاصر.. دراسة في النقد الثقافي المقارن' عند سؤال هام وهو :'الي اي مدي ومن اي منطق قام المفكرون النقديون العرب بعد نكسة 1967 باعتبار الأزمات الثقافية أزمات سياسية'؟. وفي هذا الكتاب تتردد أيضا أسئلة من قبيل :'لماذا سبقتنا الشعوب الأخري في العالم؟ وكيف يمكننا أن نتغير ونتطور من دون أن تطغي الهوية الغربية علينا فنفقد روحنا العربية؟.. كيف نسترجع من الماضي مجدنا وكرامتنا وفخرنا وكيف نعود الي قوتنا السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والثقافية؟.. أجاءت ازمتنا الثقافية نتيجة للقمع السياسي ام أن ثقافتنا هي التي انتجت هذه الأنظمة الاستبدادية ولماذا فشلنا في بناء الأنظمة الديمقراطية'؟. وتقول الدكتورة اليزابيث كساب إن هناك وجوها ظهرت في الثقافة العربية بعد حرب 5 يونيو تطالب بقوة بتعميق النقد مثل سعد الله ونوس في الدراما والثقافة وقسطنطين زريق في التاريخ والنظرية الحضارية وصادق جلال العظم في الفلسفة والتنوير وعبد الله العروي في التاريخ والايديولوجيا ونوال السعداوي في الدراسات النوعية. وعلي الرغم من الاختلافات بينهم فان اليزابيث كساب تلاحظ في كتابها انهم اتفقوا علي ضرورة 'استصلاح الإمكانات النقدية للناس باعتبارهم مواطنين وبشرا ونقد الذات وإعادة فحص بعض أساليب التفكير السائدة ' فيما تري أن 'الرغبة في الحياة وإعادة التفكير السياسي الجذري من اهم القضايا بالنسبة للفكر النقدي العربي'. واذا كانت حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر 1973 قد نفت أن تكون الهزيمة قدر مصر والأمة العربية فان فارس الشهداء عبد المنعم رياض كان قد اختار قبل تلك اللحظة أن يوجه بشهادته في مطلع حرب الاستنزاف عند 'العلامة رقم 6' وعلي مسافة لا تزيد عن 250 مترا من نيران العدو، الرسالة لكل من يعنيه الأمر:'مصر لن تموت رغم غيوم الخديعة وجبروت الغدر والمكر المخاتل.. مصر باقية شامخة ما بقي الزمان والمكان '. وعندما دارت الأيام دورتها وانقضت جماعة باغية علي حكم مصر بعد أن ركبت بانتهازيتها موجة الثورة في يناير 2011 وسرقت دماء الشهداء وراحت تتآمر لتمزيق الوطن والتفريط في سيناء وتدفع في اتجاه حرب أهلية لم يكن للشعب الا أن يثور علي حكم تلك الجماعة الباغية واثقا كل الثقة أن الجيش لن يخذله في ثورته يوم الثلاثين من يونيو2013 وهي في الحقيقة ثورة تعبر مجددا عن رفض الهزيمة. ولم ينس المصريون لعبد الفتاح السيسي قائد هذا الجيش في تلك اللحظات الدقيقة وقفته الأبية الشامخة واستعداده للشهادة دفاعا عن ثورة شعب وكرامة وطن وكان لهذا الشعب الوفي أن يصنع علي عينه بطلا جديدا كما صنع أبطاله التاريخيين من احمس وتحتمس الي جمال عبد الناصر وأنور السادات. بطل استدعوه بارادتهم الحرة وصناديق الانتخابات النزيهة منذ نحو عام ليكون رئيسا لمصر التي أثبتت وتثبت دوما أنها اكبر من الهزيمة وقوي الظلم والظلام والتآمر والإرهاب تماما كما أنها لا تقبل حكم الفساد والاستبداد فيما يبرهن شعبها العظيم علي جدارته بدولة حديثة ديمقراطية قوامها العدل والحرية والحق والخير والجمال. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي دخل عامه الرئاسي الثاني قد اعلن في ختام زيارته للمجر وهي المحطة الثانية بعد المانيا في جولته الأوروبية الأخيرة أن مصر عازمة علي إكمال خارطة المستقبل وإجراء الانتخابات البرلمانية والعمل علي تحقيق العدالة الاجتماعية وتلبية احتياجات الشعب المصري وتحسين أحواله المعيشية. يدور الزمان دورته ويأتي التاسع والعاشر من يونيو 2015 فاذا بمصر تعيش لحظات تاريخية بحق وتشكل جزءا عزيزا من تاريخ الكفاح الإنساني ونضال البشر في كل مكان بهذا العالم من اجل العدل والحرية والكرامة.. لحظات تضييء النص العام للحياة في وطن الأحرار الذي لا يقبل الهزيمة والاستسلام للإرهاب او الفساد أو الانحدار لدولة فاشلة او رخوة سياسيا واقتصاديا. أيها الربان الذي اختاره الشعب لقيادة سفينة الوطن وموقع المسؤولية الأولي في أدق اللحظات ووسط بحار من الأهوال والتحديات الجسام :صوتك بالحق والشعب واثق، أيها الربان الذي اختاره المصريون ليصعد لسطح السفينة ويقودها لبر الآمان وسط العواصف العاتية ومؤامرات تقسيم الدول وتفتيت الأوطان :'صوتك من صوت شعب صامد أبدا ويرفض الهزيمة.. شعب من الأحرار يمضي علي خاصرة المستقبل بذاكرة النصر ويمنح الغد أملا طليقا !.