سؤال أصبح اليوم ملحا أكثر من أي وقت مضى ؛ متى نرى "اللهو الخفي" يعاقب على جرائمه بحقنا؟ . كثير منا لا يكاد يصدق بيانات جنرالات المجلس العسكري التي تنفي استخدام العنف مع المحتجين أمام مجلس الوزراء، بينما مشاهد الشهداء والجرحى على أيدي الجيش تملأ الدنيا !، أيضا يصعب تصديق خشية هذا المجلس الجدية من مؤامرات لإحراق مصر، في الوقت الذي وقف فيه متفرجا على عملية إحراق المجمع العلمي . هذا المجمع اعتبره العالم خسارة لا يمكن تعويضها، ووقفت سلطاتنا تشاهد تدميره على أيدي صبية يرقصون كلما اخترقت كرات النار التي يلقونها جسده ، احتفظت بالصمت الكريه أمام استغاثات أمين المجمع الدكتور الشرنوبي وثوار مصر لإطفائه. ظلت النيران تتصاعد من النوافذ وتأكل ذاكرتنا كمصريين منذ فجر السبت ولمدة يومين كاملين حتى أحرقت ثلاثة أرباع تراثه شديد القيمة لمصر من كتب وخرائط ترسم ملامح مصر والشرق الأوسط منذ ما قبل الحملة الفرنسية !
المؤسف أن شواهد كثيرة تدلل على وجود مؤامرة يباركها ليس "لهو خفي" ولكن السلطات المصرية نفسها، وإلا لأمر المجلس العسكري قوات الجيش باستخدام معداتها بالتعاون مع مرفق المطافيء وإطفاء الحريق حين اندلاعه ككل بلاد العالم في حالة الأزمات ، وبغض النظر عن الجاني ، بدلا من الإنشغال بمطاردة الناشطين في الشوارع واعتقالهم . لقد اكتفى الجيش هذه المرة بنقل الكتب والخرائط الناجية مع المتطوعين لمقر دار الكتب حيث يجري ترميمها، ثم بعد أن أعلن حاكم الشارقة، عضو المجمع العلمي، عن مبادرته الكريمة بالتكفل بترميمه كاملا وإعادة أهم كتبه وخرائطه من مكتبته الخاصة التي تضم الكثير منها ، جاء المجلس العسكري ليعلن عن تكفله بترميم المجمع ، وهي مسألة لا ترفع عنه المسئولية. القضية الآن أننا كمصريين نتوقع مشاهد مماثلة وربما أكثر فداحة ، فما الذي يمنع من حرق المتحف المصري أو دار الكتب أو مكتبة الإسكندرية ، أو حرق منشآت حيوية كما جرى بمقر هيئة الطرق والكباري التابعة لوزارة النقل ؟ ، وخاصة أن الشرطة عادة تحيل الأمر لحفنة البلطجية الصغار كالذين ضبطتهم اليوم وبالتأكيد ليسوا هم المدبرين لإحراق مصر . ويتضح كذلك أنها منشآت لا تغري البلطجية العاديين لحرقها في شيء ، فلا هي بنك يسطون عليه ولا متجر مجوهرات ، وإنما خرائط وكتب ، من يحرقها يريد إعدامنا من تاريخنا وتجريدنا من فرص تأمين وجودنا أمام أعداءنا ، ونعلم أن خرائط كالتي تضمها الجمعية الجغرافية ، الملاصقة للمجمع العلمي ، ساعدتنا في حسم قضية طابا الشهيرة . الحاجة الآن ماسة لإعادة بناء جهازي الشرطة والقضاء المصري ليمثلوا مصر الثورة القادرة على تطهير الفساد، وبذلك نرى الإنجاز في ضبط الجناة "الحقيقيين" و محاكمتهم بحزم وحسم وبلا تلكؤ لا يتناسب مع حجم الكارثة ، سواء كانت مادية أو بشرية .
وبخصوص تراث مصر وتاريخها ، وهو محور قلق يبدو أنه سيستمر لفترة غير قصيرة ، لابد من رقمنة جميع الوثائق الهامة تحسبا لمثل هذه الكوارث، وكذلك أن نطور من أجهزة الإعلام والتعليم، بحيث تلقي الضوء على معاقل الثقافة في مصر ، فكم كان محزنا أن قلة من المصريين هم من كانوا يعلمون بقيمة هذا المبنى المحترق ، الذي وضعوه بين منشآت سياسية كثيرة كمجلس الشعب ووزارة الري والنقل ، فأصبح مجهولا .
أظن كذلك أن الضابط الذي يتورط في قتل أو تعذيب مواطن مصري، لمجرد تعبيره عن رأي معارض للنظام، أظن أنه لن يكترث كثيرا باحتراق مصر أمامه .