غدا "الخميس" تحل الذكرى الأربعون لرحيل عندليب الغناء العربي وأحد صناع ثورة الغناء العربي في القرن العشرين، فيما يبقى الحضور المتوهج لفن عبد الحليم حافظ في الذائقة المصرية والعربية برهانا على أن الإبداع لا يموت. نعم 40 عاما تمضي على رحيل العندليب، فمن يستطيع اخفاء الشجن والحنين حين يصغي للفتى الموعود بالمجد والعذاب كما يصغي لصوته الداخلي وذاته العميقة ومشاهد زمن توالت فيه أجيال؟! إنه الحنين يسكن بين الضلوع ويطل من فسحات العيون، بينما شكل صوت عبد الحليم حافظ "الحاضنة العاطفية الدافئة" لذكريات يستيقظ معها الوتر الهاجع في الروح فينسكب المزيد من الحنين في الخلايا والحنايا. إنها الأسئلة ما زالت تتوالى رغم مضي أربعة عقود على رحيله: ماذا في هذا الفتى اليتيم الموعود بالمجد والعذاب؟ لماذا يتربع في قلوب الملايين وبات بامتياز سرا من أسرار كيمياء الروح المصرية والعربية وهو الذي رحل عن الحياة الدنيا يوم الثلاثين من مارس عام 1977؟! أتكون ملامحه المصرية الخالصة والمفعمة بالرومانسية وجسده النحيل الذي فعل فيه المرض أفاعيله؟ أم صوته الصافي بمسحة حزن وحساسية فائقة؟ أم أنه هو ذاته كان "أيقونة الحنين"؟! ورغم مرور كل هذه السنوات على رحيل عبد الحليم حافظ، فإن العديد من الصحف المصرية والعربية تخصص هذه الأيام صفحات وصفحات "للعندليب"، ناهيك عن حالة الطواريء التي تعلن في العديد من القنوات التلفزيونية والفضائيات مع حلول الذكرى، فيما يذهب البعض إلى أن هناك مدا في مشاعر الحنين لزمن عبد الحليم. فالعندليب الذي قضي مع إطلالة الربيع، اقترن زمنه بنهضة غنائية وموسيقية بل وطفرة ابداعية شملت المسرح والسينما والكتاب، فيما تسكن أغانيه الوطنية والقومية الوجدان المصري والعربي، جنبا غلى جنب مع "أهواك" و"لحن الوفاء" و"صافيني مرة" و"على قد الشوق" و"حبيبتي من تكون" و"مغرور" و"تخونوه" و"ظلموه" و"حبك نار" و"الحلو حياتي" و"سواح" و"لست قلبي" و"أي دمعة حزن لا" و"رسالة من تحت الماء" و"حاول تفتكرني" و"قارئة الفنجان". وإذا كان بعض النقاد والكتاب وصفوا عبد الحليم حافظ بأنه "مطرب القرن العشرين في مصر والعالم العربي"، فإن الظاهرة قد تدعو لنوع من الإبحار في جديد ثقافة الحنين أو "النوستالجيا" بين الشرق والغرب، كما تثير تساؤلات حول ماهية النوستالجيا وتلاعب السوق بمشاعر الحنين. وليست "النوستالجيا" وحدها هي ما تشدنا بقوة لعبد الحليم حافظ، وانما الأمر ببساطة يتمثل في أن السنوات الأربعين التي مضت منذ رحيله لم تنجب مطربا يمكن ان ينافس العندليب الذي برهن على أنه "ظاهرة متفردة" في الغناء العربي بقدر ما كان استجابة ابداعية لمتطلبات عصر ومجتمع جديد في زمنه. واذا كان جيل الانترنت لم يعش في زمن عبد الحليم وانما سمع عنه من الأهل أو تعرف عليه عبر وسائل الاعلام ووسائط الميديا، فهل يتعامل الأكبر سنا مع ذلك الزمن كما يفعل البعض مع ذكريات السفر، أي الاحتفاظ فقط بالأوقات الساحرة ليكون الانطباع العام هو الشعور بمتعة الرحلة بغض النظر عن أي مشاق أو متاعب؟ ومن ثم هل كان "زمن عبد الحليم" خاليا من المشاكل ومنغصات الحياة، أم أن للحنين آلياته التي تغير بعض الحقائق في خضم لعبة إعادة صياغة الماضي والاحتفاظ باللحظات الطيبة وحدها؟! ولا جدال في أن هذا الشاب الريفي ابن بلدة الحلوات بمحافظة الشرقية، كان وما يزال من مبدعي "اللحظات الطيبة في الحياة المصرية والعربية"، وهو فنان عابر للطبقات الاجتماعية بتصنيفاتها التقليدية بعد أن اجتمع الجميع على صوته ليكون صوتهم الحميم والمعبر عن الذات المصرية. وقراءة المشهد الثقافي العربي والغربي معا تشير دون عناء الى ان القرن العشرين يحظى بأهمية خاصة باعتباره قرن المدهشات والمنجزات الكبيرة في العديد من وجه الحياة الانسانية كما يتجلى في كتاب صدر بالانجليزية بعنوان :"ازمنة متشظية: الثقافة والمجتمع في القرن العشرين" وحمل مؤلفه الذي يعد من اشهر واعظم المؤرخين في العالم حنينا جياشا لمصر ومسقط رأسه في اللإسكندرية حتى اللحظة الأخيرة. ويندد المؤلف ايريك هوبزباوم في كتابه الصادر بعد رحيله بتخلي الدولة في الغرب عن دعم الثقافة والفنون، فيما كانت انطلاقة عبد الحليم حافظ من فرقة اوركسترا الاذاعة المصرية التي تمولها الدولة، كما شارك قبل ذيوع شهرته في العديد من الصور الغنائية والأوبريتات الإذاعية. ويذهب ريتشارد ايفانز في جريدة "ذي جارديان" إلى أن ايريك هوبزباوم كان المؤرخ الأكثر شهرة وبريقا ليس في بريطانيا وحدها وانما في العالم ككل، منوها بأن أعماله من أمهات الكتب تغطي تاريخ أوروبا في سياق شامل من الثورة الفرنسية عام 1789 وحتى سقوط الشيوعية بعد ذلك بقرنين، فيما ترجم كتابه "عصر التطرفات" لأكثر من 50 لغة. وإذا كانت قدرة ايريك هوبزباوم على رؤية المشهد الكبير "من منظور الناس او رجل الشارع"، وابتكار الإطار المناسب لهذا المشهد بكل تفاصيله وشخوصه ورموزه تتجلى في كتابه عن الثقافة والمجتمع في القرن العشرين، فإن عبد الحليم حافظ بحاجة للمؤرخ الذي يضعه ثقافيا في إطار المشهد المصري- العربي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين وبصورة تعكس بصدق رؤية الناس أو رجل الشارع. وفي وقت يتحدث فيه بعض الكتاب عن غياب الإبداع أو على الأقل عدم ظهور مواهب بحجم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ في فن الغناء، فإن هناك اتفاقا على أهمية توفير البيئة الابداعية المواتية لظهور مواهب جديدة في عصر أضحت فيه الموارد البشرية أكثر أهمية من الموارد الطبيعية وغدا الاستثمار في الإنسان الأكثر فائدة وربحا. فالإبداع إذا لم يجد الظروف اللازمة لنموه يموت فلا تبقى في الأمم التي تفقده قدرة على الحياة وفي مصر الآن عدد كبير لا نعرفه من الشباب الذين يحتاجون من يفتح الأبواب المغلقة امامهم ويوفر لهم الامكانات اللازمة لتطوير قدراتهم الابداعية. ولن تكون الإجابة سهلة أو حاضرة بصورة فورية على سؤال مثل أين أصوات مرحلة ما بعد ثورة يناير- يونيو كما كان عبد الحليم حافظ صوت ثورة 23 يوليو بما أحدثته من تغيرات عميقة في الواقع المصري؟ غير أن هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وهي ان الفن الجديد يأتي جراء هزات عنيفة في اي مجتمع كما يقول مالكولم برادبري وجيمس ماكفارلن في كتابهما "الحداثة". ولا يمكن في هذا السياق تناسي أن الفنان المصري الخالد سيد درويش كان ابن ثورة 1919 وصوت هذه الثورة الشعبية التي كانت بمثابة بعث حقيقي لروح الوطنية المصرية وانعكست آثارها على شتى مناحي الحياة في أرض الكنانة. واذا كانت ثورة 1919 قد فجرت عبقرية سيد درويش الموسيقية ليضع الأساس للألحان القومية بكلمات معبرة عن هموم المصريين وأمانيهم وتطلعاتهم وبنغمات مصرية أصيلة، فإن هذه الثورة دفعت محمود مختار ليضع بدوره الأساس الحقيقي لفن النحت المصري الحديث. والغناء جزء أصيل في تركيبة الشخصية المصرية، كما قال الكاتب والروائي الراحل خيري شلبي معتبرا أن رحلة الموسيقى الغنائية في مصر طوال القرن العشرين كانت في حقيقة الأمر جهودا مضنية وناجحة للتخلص من الطابع التركي إلى ان تحررت منه تماما على يد سيد درويش ومن بعده كل من محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي. وفي طرح بعنوان "الغناء المصري في مائة عام"، يضيف خيري شلبي ان وسائل الاتصال الجماهيري التي حظي بها القرن العشرون حينما وفدت الى مصر وجدت في المجتمع المصري بيئة موسيقية كاملة وحافلة بالعناصر الخلاقة. ولئن ذهب خيري شلبي الى أن سيد درويش انتج موسيقى مصرية عربية صرفة تنبع من مزاج مصري خالص وتنحو منحى ثوريا سياسيا، فلعل عبد الحليم حافظ يشكل النموذج الأكثر وضوحا لعلاقة الفن بالسياسة كعلاقة وثيقة لا يمكن فصم عراها، كما انه من الضروري ملاحظة ان الأغنية تكاد تنفرد كفن بإمكانية تقديم رسالة كاملة الشكل والمضمون في دقائق معدودة بسلاسة ويسر. وعبد الحليم حافظ أو "صوت ثورة 23 يوليو 1952"، قدم عشرات الأغنيات الوطنية التي عبرت عن كل الأحداث الكبرى في تلك المرحلة مثل "السد العالي" و"بالأحضان" و"المسئولية" و"بستان الاشتراكية" و"الوحدة العربية" و"صورة" و"احنا الشعب" و"عاش اللي قال". وفي تلك المرحلة أيضا شدت أم كلثوم بأغاني مثل "صوت الوطن" و"ثوار" و"والله زمان ياسلاحي" و"صوت السلام"، وقدم محمد عبد الوهاب نشيد الحرية و"كل اخ عربي"، وهو رائد الأغنية الجماعية "الوطن الأكبر"، وكان لفريد الأطرش ان يغني "المارد العربي"، وتغنى محمد قنديل بنشيد الوحدة من كلمات بيرم التونسي وألحان عبد العظيم عبد الحق. وبقدر دعم عبد الحليم حافظ وغيره من الفنانين لأهداف ثورة 23 يوليو، كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يقدر الفن والفنانين وهو الذي قال: "ان الفن أصبح من اقوى الأسلحة في معركة الحرية ضد الاستعمار والاستغلال". ولعلنا اليوم بحاجة لأغاني تعبر عن انجازات المصريين بعد ثورة يناير- يونيو كما غنى عبد الحليم حافظ وغيره وتغنى بانجازات المصريين في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في تأكيد حقيقة التلازم بين الثورة والفن، بقدر ما عبرت أغاني عبد الحليم عن روح مصر وأمتها العربية في تلك السنوات. وإذا كانت كلمة "مونولوج" قد استخدمها المؤرخ الكبير ايريك هوبزباوم وهو يتحدث عن الكاتب المسرحي النمساوي كارل كراوس معتبرا أن هذا الكاتب الفنان كان في حياته بمثابة مونولوج لعالمه الثقافي الأوروبي، فلعل إبداع عبد الحليم حافظ كان بمثابة "مونولوج" يخاطب مصر والعالم العربي. وفيما يندد ايريك هوبزباوم في كتابه الصادر بعد رحيله يوم الأول من أكتوبر عام 2012 بتخلي الدولة في الغرب عن دعم الثقافة والفنون، انطلق عبد الحليم حافظ مع أوركسترا الاذاعة الحكومية ومع رفاق الدرب من ملحنين مثل كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي، فتشكل زمن جميل لا يزال يجتذب الشباب إلى اليوم، في ظاهرة تستغلها المسلسلات التلفزيونية لتقديم أعمال ناجحة، كما تتجلى في إعادة طرح افلام ومسلسلات قديمة بصيغة جديدة سواء على الشاشة الكبيرة او الصغيرة فيما ازداد الولع بالقديم بصورة ملحوظة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين وظهور ما يعرف بجيل الانترنت والاقتصاد الرقمي. لكن حتى مشاعر الحنين قد تجد من يستغلها تجاريا، وبالفعل هناك نوع جديد من التسويق يعتمد على "النوستالجيا" في وقت الأزمات، وهو "سحر" انتشر خلال السنوات الأخيرة في العالم كله وليس فقط في مصر. فتجد مثلا "صورة لعبد الحليم حافظ أو للفنانة سعاد حسني بشعرها القصير وعيون تحددها رموش كثيفة سوداء وقد تحولت إلى وحدة إضاءة منزلية، وأبياتا لصلاح جاهين تحمل فلسفة طفل لكن عمره ألف عام وقد كتبت بخط بني على شمع طبيعي برائحة عطرة، ونسخا من جرائد قديمة تحمل وقائع وزعماء من التاريخ الحديث او افيشات لأفلام.. هكذا يجتاح الحنين الى الماضي حياتنا اليومية. وفيما ناهض مثقف غربي مرموق مثل ايريك هوبزباوم مسألة تحويل الثقافة الى سوبر ماركت للمعروضات التي تناسب الأذواق الشخصية للزبائن القادرين على الدفع الفوري، فان خبراء التسويق الذين يلعبون على وتر الحنين يعلمون جيدا انه لا يجب محاكاة الماضي حرفيا بل استلهامه لإيجاد ترجمة عصرية من خلال سلع استهلاكية جذابة وعبر تجليات متعددة في مجالات الأزياء والموسيقى والسينما والمطاعم. وفي ظل الظروف الصعبة، قد يلجأ الناس الى عصور ولت سواء عايشوها أو سمعوا عنها فقط ويصنعون منها ملاذا آمنا ومن هنا ينفذ الينا خبراء البيع والشراء لانتشالنا من واقع مرير إلى عالم من التفاؤل المصطنع. واذا كان ايريك هوبزباوم قد خلص الى ان مستقبل الثقافة بما فيه الفن في ظل هيمنة آليات السوق مظلم ويبعث على التشاؤم، فهل تفسر هذه الرؤية عدم ظهور فنانين كبار وعدم تكرار مطرب في موهبة وقبول عبد الحليم حافظ لدى الجماهير ناهيك عن أم كلثوم؛ في زمن العولمة؟ والقاص والكاتب الروائي الايطالي الراحل انطونيو تابوكي عالج الحنين للماضي على طريقته في مجموعته القصصية: "يشيخ الزمن سريعا" حيث دارت اغلب القصص في شرق اوروبا في بلدان باتت "مجمدة" وعادت بتقويم اخر لتعيش فى النوستالجيا وليس بالضرورة في زمن افضل او "ايامنا الحلوة" التي يشدو فيها وبها عندليب الغناء العربي. وبقدر ما يعبر الحنين عن لوعة الأشواق وفرقة الأحباب على ركب الرحيل فانه يقوم بدور فاعل حقا في أنسنة الزمان والمكان او "الصورة المرغوب فيها للزمان والمكان في الماضي".. إنه التلاعب الايجابي بالحقائق احيانا من اجل حفظ التوازن الانساني. فالحنين بآلياته يعني حماية صورة مرغوبة..حماية صورة حدائق العمر الجميل وعفة الذاكرة وتعزيز مناعتها ضد معاني المرارة والغربة.. انها الغريزة الانسانية الملهمة التي تتجاوز حدود الحواس العادية وتطور بالحنين حاسة استثنائية قادرة على الوصول للأحباب مهما ابتعدوا في المكان والزمان. ثم انه "القبول الجواني العميق" لرحلة القدر بكل ما تحمله للانسان من انتصارات وانكسارات تماما مثلما كان زمن عبد الحليم حافظ بانتصاراته وانكساراته.. ويبقى عبد الحليم أو "العندليب الموعود بالمجد والعذاب" بكل هذا الحنين في مكانة عزيزة بالذاكرة المصرية والعربية.. أليس هو القائل :"ويدور الزمن بينا يغير لون ليالينا.. بنتوه بين الزحام والناس ويمكن ننسى كل الناس.. ولا ننسى حبايبنا.. أعز الناس حبايبنا"؟!