اعتقلته السلطة مرتين وظهر في "الصور" بزي السجن! راتبه في اليابان كان أعلى من رئيس الوزرء! رأى أن القهر الجمالي أبشع أنواع الاستبداد قال: عبد الناصر كان جبارا والسادات أكثر مرونة "آخذ بالمنهج العقلانى، واعتد بالخبرة البشرية، والتزم بنتائج العلوم..أومن إيماناً عميقاً بالناموس الأعظم الذي يتبدى في الأديان والتطور الروحي للإنسان وتجارب المتصوفة والسلوك على الطريق إلى الخير والعدل والحرية والسعادة..ومصادري في ذلك؛ كلمة الله في الدين ، وتجربة الإنسان في التاريخ، وثمرة العقل في الحكمة، وحركة الوجدان في الفن، وسعى البشر إلى العدل، وخلاصهم بالحرية". غادر دنيانا أمس الاثنين صاحب هذه الكلمات شيخ النقاد عبدالمنعم تليمة، الذي آمن بالحرية وبصدق الكلمة فدفع الثمن من حريته حين اعتقل مرتين.."محيط" يتوقف عند آراء ومواقف الراحل. البداية والميلاد يحكي الراحل عن نشأته في أحد الحوارات فيقول: ولدت في أوسيم، وهي مدينة تابعة لإقليم الجيزة، تعلّمت القرآن الكريم ومبادئ اللغة والحساب في بدايات عمري، وقد كانت أسرتي فقيرة بالفعل، وكان هذا ماديًا فقط، لكني لم ألبث أن وجدت كنزًا ثمينًا في بيتنا أغناني عما سواه، وغيّر لي حياتي، ألا وهو مجموعة الكتب المهمة التي كونت وعيي وإدراكي للحياة، في مقدمتها القرآن الكريم، وصحيح البخاري، والفقه على المذاهب الأربعة. أما حبي للأدب فقد توهج من خلال قراءات متفرقة لكتاب "ألف ليلة وليلة"، فضلا على القصص والروايات الشعبية والملاحم والسير الشعبية، لكن يبقى الدور الأساسي لوالدتي رحمها الله. نشط خيالى مع مرويات أبى للملاحم والسير الشعبية وقراءاته لألف ليلة وليلة والقصص الشعبى, وتوهج وجدانى مع صوت أمى وهى تؤدى الأغنيات المتوارثة والمستحدثة خاصة بدائع الوجدانيين والعشاق . صبت هذه الآفاق فى نفسى وروحى فوضعت البذور التكوينية القوية المبكرة التى حددت حدود مهنتى وهوايتى وتقنيات إبداعى وآليات ذائقتى وأساليب عيشى العميق فى رحاب الروح والفكر والفن . لقد منحنى القرآن الكريم مدخلاً روحياً شفيفاً، ومنحتنى المرويات الشعبية مدخلاً ديمقراطياً ملتزماً، ومنحنى شدو أمى مدخلاً جمالياً رفيفاً. ويمضي قائلا: مضيت فى درس علوم العربية وتاريخ الأدب ودرست الآداب القديمة اليونانية واللاتينية ثم ملت ميلاً إلى الدراسات البلاغية والنقدية والجمالية الحديثة: أخذت علوم اللغة وفقهها عن الأب قنواتى والشيخ محمود شاكر ، والآداب العربية عن شوقى ضيف وعبد العزيز الأهواني وعبد الحميد يونس وسهير القلماوى، وأخذت البلاغة والنقد وعلم الجمال عن أمين الخولى وشكرى عياد ومحمد مندور ولويس عوض وزكى نجيب محمود، وأخذت الأنظار الفقهية والتاريخية والسياسية عن على عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق ومحمود شلتوت وعبد الرحمن بدوى. ويجتمع كل هؤلاء فى شيخى الأكبر طه حسين، تعلمت عليه قراءة النصوص والعوامل الفاعلة في تاريخ الأدب ودقائق اللغة وأسرارها ووجوه البلاغة وآفاقها، وأخذت عنه مهمة العالم فى التحصيل وواجبه فى العطاء. وشدني حزم عباس محمود العقاد وانضباطه الفكري والحياتي، يحيى حقي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ كانوا مداخلي إلى عوالم الأدب المسرحي والقصصي والروائي أما سلامة موسى فكان معلمي الأول في الفكر العصري والتقدمي والاشتراكي . ومررت بمرحلة ثانية تفتحت فيها على الأبنية الثقافية والحضارية والإبداعية للأمم الأخرى القديمة والوسيطة والحديثة فبدأت باليونانية واللاتينية القديمتين ثم رحلت إلى الشرق الأقصى حيث عشت عشر سنوات في اليابان اتصلت فيها بالأديان والفلسفات والابداعات الشرقية: هندية وصينية ويابانية وانتهيت إلى المرحلة الراهنة التي أخلص فيها جهودي في حقلين كبيرين، أولهما المشاركة في تأسيس علم الجمال، وثانيهما الاجتهاد في الفكر الاستراتيجي لصور المستقبل. أما عن قراءاته الرمضانية فيقول: أضع على مائدتى ثلاثة كتب هي: القرآن الكريم، حيث أعكف على قرائته طوال الشهر الكريم واختمه ثلاث مرات فى الشهر، الثانى تفسير الطبرى الذى يقع فى ثلاثين جزء، أما الكتاب الثالث فهو تفسير الكشاف للزمخشرى الذى يعتمد منهج التفسير العقلى للقرآن. موقفه السياسي يقول الراحل في أحد حواراته: عشت في العصر الملكي قطعة عزيزة من حياتي، فقد ولدت في يوليه سنة 1937 وقامت ثورة يوليه سنة 1952 كنت في تمام الخامسة عشرة. أهتم بالفكر السياسي بيقظة ومتابعة ودرس باعتباره فرعاً من الفكر التاريخي والحضاري والاستراتيجي في السياسة أنا مفكر مستقل، لهذا لم التحق يوماً بأي من تنظيمات ثورة يوليو. ولم أعمل يوماً بالسياسة العملية حزبياً وحكومياً وتنظيمياً وتنفيذياً.الشأن في إدارة البلاد للساسة وأهل الحكم وشأني التفكير والتعبير. وعن معارضته للسلطة يقول: بدأت المعارضة بالنسبة لي يوم 14 يوليو 1958وهو تاريخ الانقلاب العسكري في العراق، حيث كان عبد الناصر في بريونى مع تيتو وأعلن تأييده للنظام العراقي وأنا كنت في العشرين من عمري، كنت ضد العسكرية وضد ثورة عبد الكريم قاسم لأنها نقيض الحداثة والعقلانية والتعددية ولأنها حكم بالمخبرين والمباحث وأمن الدولة. أنا مع المجتمع الحديث الذي يخرج من العلاقات الكلاسيكية شبة الإقطاعية والإقطاعية ويدخل في العلاقات العقلانية والبرلمانية. وكان يقول رأيه في عبدالناصر بكل وضوح، فيقول: جمال عبد الناصر كان بطلا وطنيا لكنه فاشل سياسيا لم ينجح في معركة قط لقد طلب شعبنا بطلا قويا "المستبد العادل"، فكان مستبدا يلبي طلب الشعب الذي طلب المجدع الكبير مثلما قال الشيخ إمام!. مصر في قلب العالم وناصر استطاع أن يعزل مصر عن العالم، لم يكن حديثي ولا عقلاني بل مارس الحكم باستبدادية لم ترها البشرية قط. يتابع: هذا بالإضافة إلى موقف حدث معي أنا شخصيا حيث انه جاء إلى جامعة القاهرة ولما طلب منه أساتذة الجامعة جلب دورية علمية تفيد كل كليات الجامعة قال "يعني أجيب الدورية ولا أجيب حباية القمح ولا الرصاصة للجندي "، واختلفت مع ناصر لهذه الأسباب لأنه أمم العقل وحل الأحزاب ودفع بالتنظيمات السرية سواء إخوان مسلمين أو شيوعيين إلى حل أنفسهم ذاتيا . ويقول: عبد الناصر كان جبارا لكن السادات كان أكثر مرونة، اعتقلت في عهد السادات لمدة 135 يوم من يناير 1977 إلى يونيو 1977 في زنزانة منفردة وثاني يوم صباحا أرسل لي السادات مسئولا كبيرا لأكتب كلمة "شفاعة" إلى الرئيس فيفرج عني، ورفضت أن اكتب هذه الكلمة، ثم حبست في زنزانة انفرادية!. سجنت مرة أخرى في عصر مبارك، والحكاية أنه حتى 1985 كان كل العالم العربي والإسلامي مقاطعا لمصر بسبب اتفاقية كامب ديفيد وفوجئنا بدعوة الرئيس لحضور المؤتمر الإسلامي في الكويت، فاستضافني وآخرين منهم عمرو موسى وإسماعيل صبري عبد الله وقلت أنا "وحدوي عربي ولست قوميا عربيا" لأني إذا قلت قومي سأصبح ناصري أو بعثي فقرر زكي بدر اعتقالي!، ونشرت صورتي في "المصور" وأنا بزي السجن، وأمضيت لمدة شهر رهن الاعتقال . ويصف فترة مبارك بأنها كانت فترة جمود كامل, وقد التقيته ثلاث مرات أهمها عندما زار اليابان في مارس عام1983 ورغم أن الزيارة كان محددا لها ثلاثة أيام, إلا أن الجانب الياباني طلب يوما رابعا فوافق مبارك, وقد رافقته خلال هذا اليوم, وخرجت بانطباع عنه أنه رجل طيب, لكنه بالغ العناد وبالغ البطء والجمود, وهو ما انعكس علي حركته في السياسة وتقدير الأمور التي تركها في النهاية للجهاز الأمني والبيروقراطية, ما انعكس علي جميع نواحي الحياة وفي مقدمتها التعليم. وهاجم الراحل جيفارا قائلا: هو شاعر رومانتيكي، وأنا الوحيد في العالم الذي كان ضد جيفارا حتى أثناء حياته، هو بطل عظيم لكن كيف أواجه هذه الآلة الجهنمية الأمريكية وأنا امتطي حصان!. عن النقد والأدب الشعر هو القطعة العظمة الغالية في حقول الابداعية العربية من قبل الإسلام بقرنين إلى اليوم، لذلك كان الشعر ولا يزال قاعدة الابداعية في سعيها إلى التجدد في النهضة العربية الحديثة، وسيظل كذلك مادامت هذه الإبداعية متفتحة متوهجة. وقصيدة النثر هي التجلي الراهن لتجديد الشعر العربي . لقد رسخت هذه القصيدة بمواهب عالية لعشرات الشعراء المبدعين الذين احتلت دواوينهم مكاناً مرموقاً في الانتاج الابداعي العربي. ويتابع: تتعدد صور القهر، سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، إنما اخطر صور القهر هو القهر الجمالي الذي يسلب الإنسان جوهره البشري الحق ويعود به إلى الهمجية والبدائية. وعن آفة النقاد العرب المعاصرين يقول: إنهما آفتان، الأولى لحقتهم جرّاء القهر والاستبداد المحلى حيث المحاصرة والمصادرة من أنظمة الحكم الديكتاتورية التى هيمنت على حياتنا فى السنوات الأخيرة. وأما الآفة الثانية فقد جاءت من الجمود الفكرى، فلم نر فى حياتنا الثقافية الحديثة فلاسفة ومنظّرين ومفكرين مرموقين يمضون مع حركات التطور العربى وانتقالات العصر عموما. وحين سئل عن كتابة سيرته الذاتية قال: قد نشرت أجزاء منها في مجلة "الهلال" وفي كتابي التذكاري عن الراحل زكي نجيب محمود. الأولي في رواية اكتبها بعنوان "القمر علي جدارها" تتضمن السيرة الذاتية في أفقها الجمالي والفني وصورة أخري عن سيرتي في سير الآخرين بعنوان "عرفتهم نساء ورجالا.. فهل عرفت نفسي؟" أضع فيه سيرتي في مجموعة من الشخصيات التي كونت شخصيتي ومنها أمي. طه حسين. محمد مندور. محمد عبدالوهاب. وآخرون. أسس الراحل منذ التحاقه بالجامعة "لقاء الخميس"، وهو لقاء يقول عنه: يجمعني بالأدباء وشهدت إبداع مبدعين كثيرين واجتهاد مفكرين، وعلى مدى عشرات السنين أصبح لهذا اللقاء مدارس واتجاهات وتيارات علمية وعقلانية، وهو لقاء مفتوح على المحاورة الوطنية والعالمية، وكانت لي مشاركات في تأسيس الدوائر الإبداعية والفكرية في اتحاد الكتاب وفي الجمعية المصرية للنقد الأدبي، والجمعية المصرية للأدب المقارن. في اليابان كانت له أيام عشر سنوات في اليابان محطة أساسية طويلة في حياتي، هكذا يصف الراحل رحلته إلى هناك فيقول: لم أذهب لزيارة سريعة ولم أذهب طالب بعثة لسنتين أو ثلاث وإنما ذهبت وأنا في الأربعين وقد رقيت إلى درجة استاذ كنت أعرف ما أريد، التعرف المباشر على حضارات الشرق البعيد وعقد الأوامر والصلات مع الدوائر العلمية ودرس طرائق إدارة الحياة الثقافية والمنظمات الديمقراطية، والحياة الحزبية والاجتماعية . كان عملي الأكاديمي منتجاً: أشرفت على رسائل وبحوث وأنجزت أعمالاً مشتركة مع العلماء اليابانيين، وأقمنا حوار إسلاميا بوذياً لمدة سنتين، وحواراً عربياً يابانياً لمدة سنتين، وترجمنا أمهات من التراث، مروج الذهب للمسعودي ومقدمة ابن خلدون وألف ليلة ورحلة ابن جبير، ومن الأدب العربي الحديث أعمالاً لتوفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف أدريس ومنتخبات من أشعار جبران وأدونيس ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور. وخلال تواجدي باليابان لمدة عشر سنوات أستطيع أن أقول إن التعليم وفقط هو السبب الرئيسي وراء نهضة اليابان, فهي دولة لا تملك المواد الخام أو البترول, ولا تملك سوي العنصر البشري, وقد أقامت نهضتها الحديثة علي التعليم, والعجيب أن بداية النهضة اليابانية كانت من مصر, فعندما بدأوا تأسيس الدولة الحديثة, أرادوا أن تهتدي بلادهم بمن سبقوها إلي النهضة, ووقع الاختيار علي مصر باعتبارنا شرقيين مثلهم, فأرسلت اليابان وفدا إلي القاهرة, عادوا إلى بلدهم منبهرين بما رأوه, من مصانع ومجلس تشريعي ودستور يحكم البلاد, وكتبوا ذلك في تقرير عن الزيارة لا يزال موجودا بالمكتبة الوطنية في طوكيو. وعندما هزم الإنجليز عرابي ودخلوا مصر عام1882 أرسل اليابانيون إلي أحمد عرابي في المنفي يسألونه, كيف كانت النهضة والانتصار, ثم كيف جاءت الهزيمة والانكسار, بل وشجعوه علي كتابة مذكراته التي نشرت في كتاب الهلال بعد ذلك. وبعد عودته كتب يقول: "كنت أعمل أستاذا للغة العربية وآدابها باليابان خلال الثمانينيات من القرن الماضى، وحصلت على راتب أعلى من راتب رئيس الوزراء اليابانى، فخفت أن يكون هناك خطأ وأن يطالبونى برد هذه المبالغ بعد ذلك، فعاودت مسئول الماليات بالجامعة لأطمئن". "كانت المفاجأة عندما أجاب المسئول وأخبرنى أن قانون الرواتب فى اليابان موحد على الجميع وأن درجتى العلمية أعلى من درجة رئيس الوزراء الذى معه دكتوراه فقط، وأن سنوات خبرتى أكثر من سنوات خبرته، إضافة إلى نسبة تميز مهن التعليم، لذا استحق راتبا أعلى من رئيس الوزراء بالقانون". ولأنه عاش في اليابان وعرف أن التعليم كان سر نهضتهم يقول: أزمة مصر الحقيقية تكمن في انهيار منظومة التعليم, وأزمة التعليم تمتد إلي المعلم أيضا, ولك أن تتخيل أن وجوه الأمة وأعلامها في فترة من الفترات, كانوا يقومون علي التدريس في مدارسنا وجامعاتنا, وقد تعلمت علي يد أستاذي علي أحمد باكثير, الذي درس لي اللغة العربية لمدة خمس سنوات, فيما تعلمت فنون التمثيل علي يد زكي طليمات مؤسس المسرح المصري الحديث, وحمدي غيث وغيرهم من الأعلام في مجال الموسيقي والرياضة والغناء, فقد كان الهدف من التعليم بناء الشخصية من جميع جوانبها, والحقيقة أن الانحدار الحقيقي للتعليم بدأ بعدما توغلت الحكومة في السيطرة علي المقررات الدراسية, والمدارس والجامعات ومعاهد تخريج المعلمين, وأنا أري أن الهيمنة البيروقراطية لعبت دورا كبيرا في تشويه التعليم في مصر.