معتز عبدالرحمن: الطاعنون بالبخاري هدفهم هدم السنة "كمصدر تشريع" طاعة الرسول أمر قرآني وسنته متممة للرسالة، مانعة للضلال بعده رسول الله خشى اختلاط السنة بالقرآن مبكرا .. وصحابته نقلوا عنه أحاديثه تدوين السنة بدأ منذ القرن الأول الهجري وتكلل بجهود عمر بن عبدالعزيز البخاري لم يذل العلم على أبواب السلاطين .. وكان أحد حفاظ عصره الأربعة التشكيك بعذاب القبر إنكار صريح للوحي .. والجهل والسطحية وراء أزمة هؤلاء تطبيق الحدود وقتال المعتدين ووضع المرأة .. أشياء ينكرها المهزومون أمام الغرب
عاش العالم العربي خلال السنوات الماضية موجة التشكيك فيما ترسخ بوجدان المسلمين، عقيدة وفقها، واستهداف الصحابة وكبار الأئمة ورجال علم الحديث بسهام التشويه، بلا سند شرعي أو منطقي راسخ ولا دراية كافية بعلوم الدين الإسلامي، وهو ما يجعل الأمر مختلفا عن تجديد الخطاب الديني ونقد التراث بموضوعية كما فعل أجدادنا الأولون. ولهذا جاء الإصدار الثاني للكاتب معتز عبدالرحمن عن دار "العصرية"، بعد عمله الأول "وقت مستقطع" الذي استهدف نهضة الأمة عبر مفاهيم قرآنية. وقد قدمه أيضا – كما يقول- من باب "المضطر" بعد أن عجزت المنابر المتخصصة عن الرد المؤثر على حملات التشويه ليل نهار، رغم وضوح الأدلة العقلية والنقلية على سطحية وزيف ما يروجونه من بضاعة. في كتابه هذه المرة يفتح المؤلف ملف "صحيح البخاري" الشائك، ردا على عشرات الأقلام التي استهدفته بالتكذيب والتجاهل وهي برأيه تستهدف هدر المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، أو السنة النبوية، ليس لعصمة في البخاري ذاته، وإنما لأن نسف أكثر الكتب التزاما بمعايير المنهج التاريخي الصادق، يعد نسفا ضمنيا لما هو أقل منها دقة حيال تصنيف الأحاديث الصحيحة واستقائها. والكاتب يعلم أن بعض المشككين في صدقية "صحيح البخاري" لا يعترف أصلا بالسنة النبوية من حيث كونها مصدرا تشريعيا مستقلا، ويقول بعضهم بتبجح : هل عجز القرآن عن الإحاطة بما يهم المسلمين في دينهم كي تجبر السنة هذا النقصان! وهنا يقع المسلم حائرا في الرد ، وهو لا يدري أن القرآن ذاته الذي هو كلام الله عز وجل أمر بطاعة الله وطاعة رسوله. ويمتاز الكتاب – فضلا عن لغته المنطقية السلسلة المحكمة- بالموضوعية العلمية ، فقد رجع الكاتب لعشرات المراجع وأمهات الكتب لاستنباط الرد على الشبهات، بمنطق بعيد عن "نظرية الإطفائي" التي تتبع جذور الداء ولا تشتبك مع ماكينة التشكيك. وبناء على أمراض المشككين بالسنة قسم المؤلف كتابه لخمسة فصول : أزمة الجهل بعلم الحديث وآلياته، الجهل بحجية السنة وتدوينها والحفظ الإلهي لها، الجهل بمفهوم الدين والإيمان والنبوة، السطحية في التناول والجهل باللغة وعلوم الدين، وأخيرا الاعتقاد المسبق قبل الاستدلال . صرامة علم الحديث يمتاز الكتاب بين أيدينا بالربط المستمر بين مناهج المؤرخين الكبار ومنهج المحدثين عبر العصور، ومن خلال صفحات قليلة نتعرف على الآليات الحاكمة لعلم الحديث . والذي ينقسم بدوره لحديث متواتر يجمع عليه عشرات الصحابة ومن بعدهم التابعين، بازدياد وباتصال مباشر مع النبي ، وحديث آحاد ينقله عدد أقل في كل طبقة ويمكن أن يعتمد على رواية من سمع من النبي، ولكن الشكلين يتفقان باستحالة تواطؤ هذا العدد على الكذب في الرواية، فضلا عما يقوم به المحدثون من تمحيص لكل ما جاء بالروايات عن رسول الله (ص) . ومن جهود التمحيص بحديث الآحاد بالأخص، أن يكون متصل السند فلا يحدث انقطاع بين رواته لأسباب الموت أو غيرها، وأن يكون رواته عدولا معروفين بالصدق والعلم والمروءة، يمتازون بالضبط فلا يعرف عنهم النسيان، مع انتفاء العلة والشذوذ كأن تأتي الرواية بتسلسل أو متن مختلف عن الروايات السائدة للحديث النبوي، أو أن يثبت أن صاحبها له غرض أو مصلحة ولا يتأتى ذلك إلا بمقارنة الأصول ببعضها، كما تعتمد مناهج النقد التاريخي الحديث. ولذلك فكثرة الأسانيد للحديث الواحد دليل قوة وليست مصدرا للضعف، لأنها تعطي موثوقية للرواية وتؤمن لعلماء الحديث استنباط صحته عبر معرفتهم الدقيقة بالرواة وعصرهم ولغتهم وغيرها من الدلائل. وقد كان علماء الحديث قديما يجمعون كل ما يصل لأيديهم من أحاديث، الصحيح والضعيف من الأسانيد، ثم يخضعونها للتمحيص، وكان الإمام البخاري مثلا يحفظ مائة ألف حديث صحيح، وضعفهم غير صحيح! وقد ظهرت علوم الجرح والتعديل لتعيين عدالة وضبط رواة الحديث بعد رسول الله "ص" وصنفت العديد من أمهات الكتب في هذه العلوم . تدوين السنة .. من الصحابة للبخاري يقول بعض المشككين : ظلت السنة غير مدونة لقرنين من الزمان حتى جاء البخاري، فما الذي يضمن سلامة ما كتب بعد هذا الضياع ؟ ويذهب بعضهم إلى أن الرسول رفض تدوين السنة بعصره وبالتالي فما فعله المدونون "ابتداع" ! والحقيقة أن هذه الحجج شديدة الهوان، فيذكر الكتاب الأدلة على أن الرسول ص بالفعل نهى عن تدوين السنة بالتزامن مع نزول الوحي بالقرآن الكريم، كحديثه لأبي سعيد الخدري : "من كتب غير القرآن فليمحه" ولكن ذلك كان خشية اختلاط القرآن بالسنة، أي كلام الله بكلام رسوله، فكان حفظ الصحابة للقرآن أولى، ثم أباح النبي كتابة ما يقوله لمن يثق بحفظهم وفهمهم وأمانتهم ، فحين سأله عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عما إذا كان يبيح الكتابة عنه "ص" وخاصة وأن بعض الصحابة كانوا قد زجروه على فعلته، فرد النبي الكريم : "والذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق" مشيرا لفمه . من الأحاديث التي نحفظها جميعا عنه (ص) : بلغوا عني ولو آية، وروى سيدنا أنس بن مالك عن النبي قوله : "قيدوا العلم بالكتاب"، وقد روت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الكثير من أحاديث النبي حتى وفاتها 57ه وروى الصحابة أنس بن مالك وأبوهريرة وابن عباس الكثير من الأحاديث النبوية التي دونت فيما بعد مباشرة عنهم وخاصة وأنهم بعضهم كان من المعمرين لنهايات القرن الأول الهجري. وقد سار الخلفاء الراشدون على النهج المحمدي، فكانوا يرفضون بداية تدوين السنة خاصة بأزمان الفتن، ولكنهم اتجهوا لتدوين بعض ما جاء بالسنة النبوية بعد زوال خشيتهم، وفعل الشيء نفسه كبار الصحابة الذين كرهوا الكتابة في صدر الإسلام. بل وقد ظهرت فيما بعد العديد من الصحاف التي عرفت تدوين السنة، ك"الصادقة" وهي صحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص، وتضم ألف حديث سمعها من النبي (ص) بنفسه، وصحيفة أنس بن مالك التي عرضها على الرسول . من هنا ندرك أن تدوين السنة قد بدأ مبكرا منذ القرن الأول الهجري، خاصة وأن أمير مصر عبدالعزيز بن مروان المتوفى 85 ه قد أمر بجمع السنة وتدوينها رسميا . لكن تدوين السنة عرف نقلة كبيرة في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، مطلع القرن الثاني الهجري، وقد أمر بجمع حديث الرسول وطلب ذلك من العلماء الثقات ومنهم ابن حزم عامله على المدينة، وقال قولته : "أأمروا أهل العلم أن ينشروه في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت". في هذا الوقت ظهر جامع الأحاديث لسفيان الثوري 161 ه وموطأ الإمام مالك وهو أصح التآليف آنذاك ، وبدأت تظهر التآليف التي تميز الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع . وقام مالك بن أنس وابن اسحق والأوزاعي وابن المبارك وابن وهب خلال القرن الثاني الهجري بجهود كبيرة لتبويب وتصنيف الأحاديث، ثم ظهرت من بعدهم المسانيد وكان أشهرها ما قدمه الإمام أحمد بن حنبل 241ه وهو من أشهر أتباع أتباع التابعين . وبعد رحلة العلم الذي حمله الصحابة والتابعون لتدوين الحديث بصدورهم وصحائفهم، جاء الإمام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256ه بالقرن الثالث الهجري والإمام مسلم بن الحجاج القشيري المتوفى 261 ه لتناول الحديث الصحيح وتجنيب المرفوع والضعيف. لقد مات الإمام البخاري مظلوما بمحنة خلافه مع الأمير خالد بن أحمد وقد طالبه بالمجيء لقصره لشرح أحاديث الرسول، فرد الإمام "أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس" فشن الأمير حربا إعلامية ضده ونفاه خارج البلاد حيث مات منفيا بعد فترة وجيزة . ولم يكن الإمام البخاري يدعي أن كتابه أصح الكتب، ولا أنه معصوم من الخطأ رغم دقته وحفظه الشديدين، ولقد عُرف في عصره علماء أجلاء كأبوزرعة بالري، والدارمي بسمرقند، ومسلم بنيسابور، وكان هو رابع من يسمون ب"حفاظ الدنيا" ومع ذلك ظهرت كتب موضوعية بنقد بعض ما جاء بصحيح البخاري ومحاولة تقصي أثره ومنها كتاب للدارقطني ، ولهذا فنقد بعض الأحاديث بصحيح البخاري لا يعني تشويهه أو التقليل من ريادته بين كتب علم الحديث . ما ينطق عن الهوى إنه النبي الأكرم محمد (ص) والذي جعل الله شهادتنا بنبوته الخاتمة مكملة للشهادة بوحدانية الله وقدرته، ومفتاحا لدخول الجنة. وأعطى الله نبيه سلطة تشريعية وقال بمحكم التنزيل "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" وفي سورة الحشر : "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" ، كما نهى الله أن يكون للمؤمنين خيرة من أمرهم إذا ما قضى الله ورسوله أمرا ، ونرى تكرار المعنى "ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا" بالآية 36 من سورة الأحزاب. وهكذا فإن طاعة الرسول معطوفة على طاعة الله وعصيانه أيضا معطوف على معصية الله، وكأن الله يعلمنا أن أوامر نبيه إنما هي أوامر منه جرت على لسان من اختاره خاتما للرسالة ومبلغا وشاهدا. ومن هنا فليس لأحد أن يحتكم بأقوال ضعيفة حذر منها النبي (ص) في حياته عندما ذكر حال رجال متكئون على أريكتهم، يريدون الاحتكام لكتاب الله وحده وتجاهل سنة نبيه. ومن التطبيقات الفعالة التي أجراها مؤلف الكتاب لتنشيط ذهن القراء حول فرضية عدم اعتماد السنة مصدرا للتشريع، وسم "هاشتاج" أسماه "لولا السنة" ، لتنهال الإجابات، فلولاها لما عرفنا كيف نصلي ولا نذكر الله، وكيف ندعوه، ولجهلنا الكثير من أمور ديننا كتغسيل الميت وصلاة القصر والسعي بن الصفا والمروة كركن من أركان الحج وكيفية تطبيق الحدود والعقوبات ، بل وكثير من آداب الحياة أو القتال وغيبيات مستقبل هذه الأمة. الجهل بالدين .. والنبوة شرع الله الأوامر والنواهي لعباده المؤمنين، وهم مطالبون بالتسليم وإن جهلوا حكمة الأمر، فنجد الفقير يصوم رمضان كالغني، وجاءت محرمات الخمور والزنا ولحم الخنزير من قبل معرفة مضارهم، بل وقد اختص الحق أقواما بمحرمات بعينها كصيد السبت وشحوم البقر لبني إسرائيل والذين أمرهم ربهم بقتل أنفسهم بعد عبادتهم العجل! لكن سيظل هناك من يقيس الحكم بمنطق النفع القريب، كما قال المشركون أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، أو حينما قال السفهاء "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" بعد أن تحولت من المسجد الأقصى للمسجد الحرام، ولا يعلمون أن الحكمة في القبلة بظهور أثر الإيمان لا بذاتها كمكان . ويعاني المشككون بالسنة أيضا من جهل بطبيعة أنبياء الله ورسله، من حيث كونهم قضاة مشرعين بوحي من الله، ومؤيدين بالمعجزات، ولهم طبيعة بشرية كسائر البشر. وكمثال نجد أن سيدنا محمد (ص) تزوج من أم المؤمنين زينب بنت جحش بأمر من الله، وكانت متزوجة من الصحابي زيد بن حارثة الذي تبناه الرسول، وحين وقع طلاقهما كانت محنته (ص) كبيرة من جهة لأنها ستكون بداية خصوصية للنبي بالتعدد لما يفوق أربعة زوجات. كما أجاز الله استثناءات للمسلمين ورسولهم رغم التشريع بالنهي، كقطع النخيل والأشجار على اليهود بغزوة بني النضير الأشد نفاقا وحربا للمسلمين. كما اضطر النبي للتصريح بألفاظ شديدة لتنفير الناس من أمور بعينها كالتفاخر بالأنساب والقبائل على عادة الجاهلية. ويثير المشككون شبهات حول قتل الأسرى بالحروب الإسلامية، كما فعل خالد بن الوليد ومن قبله رسول الله مع حبر اليهود كعب بن الأشرف أو بعض المنافقين يوم فتح مكة وأسرى المعارك، ونسوا أن القتل خيار إلى جانب العفو أو مبادلة الأسرى، وهو متروك لولي الأمر بحسب ما يقتضيه الظرف، وآيات القرآن كثيرة في هذا الشأن كقوله سبحانه : "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها" أو أمر الله لنبيه بجهاد المنافقين وأن يغلظ عليهم . وأنبياء الله تجري لهم خوارق ببعض الأمور، فليس لنا رفض قصة لخرقها عادات البشر، وسيدنا محمد نطقت له الشاه المسمومة وجرى نبع الماء بين أصابعه وحن جذع الشجرة إليه، ومن قبله شق الله البحر لموسى وحول العصا ثعبانا وسخر الجن والطير لسليمان عليهم جميعا السلام ، لكن الرسول أيضا بشر له احتياجاته الطبيعية فليس لنا أن نقول كما قال المشركون "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق".وكان سيدنا موسى عليه السلام قد ألقى ألواح التوراة حين رأى قومه يعبدون العجل من دون الله! فهو بشر يغضب. وهناك من ينتقد أحاديث واردة بالبخاري لعدم فهمه للغة أو الشريعة، كمن يتحدث عن مباشرة النبي لزوجته وقت حيضتها بأن افتراء، ولا يدري أن المباشرة لا تعني الجماع، أو من ينفي عنه (ص) زواجه بالسيدة صفية وهي سبية حرب بعد مقتل زوجها المشرك، ويدعي أن ذلك قد تم بغير انتهاء عدتها، وينسى أن العدة تكون بوفاة الزوج المسلم وأن أحكام السبي أصلا مختلفة . وحول المرأة ، يثير البعض شبهات من باب الجهل بالواقع أيضا حول أحاديث ك"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" بعد تولي ابنة كسرى لملك فارس، وهم يجهلون أن الولاية هنا كانت بمعناها الشامل وليس كمثل الرئاسة أو الوزارة اليوم التي هي أقرب لوظيفة تحكمها مؤسسات ومستشارين. كما يبدي البعض امتعاضه الصريح من جعل شهادة امرأتين برجل، أو ما يتعلق بالميراث أو قوامة الرجل بالمنزل، وهذا جهل بطبيعتها الأضعف، وستجد برغم ذلك أحكاما شرعية لحالات الاستثناء التي تكون فيها المرأة أكثر كفاءة بتحمل مشاق الحياة . وأحيانا تراهم يطعنون في زواج السيدة عائشة وهي ابنة تسع سنوات من النبي، برغم أن مروياتها تثبت نضجها في هذا الوقت ، وأن طبيعة هذا الوقت كانت تسمح بقائد لجيش المسلمين في الثامنة عشرة من عمره وهو أسامة بن زيد . عبودية الأهواء والهزيمة النفسية يقول الله تعالى : " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" . ويؤكد المؤلف أن أصل أي داء أن تعتقد أولا ثم تستدل، وأن تتبع هواك فيما تعتقده، وتقدره بعقلك المحدود، وهذا جرى مع آيات تطبيق الحدود وبخاصة حد الرجم ، أو من قالوا بعفو النبي عن المسيئين للإسلام والمعتدين بشكل مطلق! وهو النبي الذي قال : "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" ودعا بحديث آخر لتغيير المنكر ، وثبت عنه معاقبة بعض المحاربين للدين كاليهود أو سيدة دست له السم بالشاه ، وبنفس الوقت عفا عن بعض المنافقين في وقت خشيته بقول العرب إن محمدا يقتل أصحابه، فالمسألة كانت مرجحة بالظرف والوحي الإلهي . بل وقد وصل الحال بترويج فتاوى علماء تنكر عذاب القبر !، والحقيقة أن القرآن عامر بآيات الذكر التي لا تدع مجالا للشك في هذا الأمر الغيبي، والذي قالوا أنه وارد بالأحاديث الضعيفة فقط ! رغم أننا نقرأ قوله سبحانه : " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون" . والبعض تقوده هزيمته النفسية أمام تقدم الغرب لنفي العقيدة الإسلامية من أساسها، وهم ينسون أن الغرب المتقدم سر بلاء مجتمعاتنا بمؤامراته وحروبه واستعماره بل وانحلاله عن القيم الخلقية . والكاتب هنا يؤكد أن إسلامنا لا يقر العدوان إلا في نطاق الضرورة وما حدده الشرع، فقتل الرسامين المسيئين للنبي بباريس خطيئة وما يقوم به المتطرفون باسم "قتال الكفار" هي أمور يندى لها الجبين الإنساني ويجمع العلماء على تجريمها. لكن الكاتب يناقش الانصياع لأفكار الغرب وتحويلها لدين، فتجد من يدعي أن تفسير الآية "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" أن نتحول لمجرد سلبيين، وتجد من يرفض فكرة عذاب الله للكافرين أو الملحدين لو قدموا خدمات جليلة للإنسانية، في تجاهل للعقيدة الحاكمة "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" ، والحق أن أصحاب الفطر النقية يهتدون تلقائيا للإسلام بل وليس كل مسلم يجازى خيرا بعمله لو لم تحسن النية، فأول من تسعر بهم النار مجاهد وعالم وعابد مرائين. ولكل ما سبق ، يأسف الكاتب لأن بعض الدعاة والمفكرين الإسلاميين يضعفون أي حديث صحيح تثار حوله الشبهات، من باب قلة الحيلة، بدلا من تفنيد الجدل وكشف مصادر الخلل، وهي فئة مهزومة تلقى قبولا من أصحاب الغرض فيصفونهم بالتنويريين والوسطيين. .. الكتاب يعده مؤلفه مجرد "فسيلة" يزرعها ويلقى بها ربه يوم الدين، وهو محاولة للتغلغل بالنيران التي بعثت الدخان من حولنا، وللتوسط بين تطرفين؛ الاتساع بمفهوم الثوابت لتشمل غيرها من قبل المتشددين، وتطرف مقابل يتجاهل الثوابت لما يوافق الهوى والعصر، وفي الحالتين يكون الداء في مقدمات خاطئة قادتنا لنتائج فادحة .. وبعد استيعاب معنى الآية الكريمة "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" فلا عجب أن يقول صحابة النبي الكرام بأنهم آمنوا أولا .. ثم ازداد إيمانهم بالقرآن.. إن الله قد عهد على نفسه حفظ الذكر، وهو ليس القرآن الكريم فحسب وإنما السنة المطهرة المكملة للرسالة الربانية، والمبينة لأحكامها، وليس أدل على ذلك من قول الحق بسورة المائدة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" .