مرت الإذاعة بتحولات كثيرة عبر مراحلها المختلفة فألتصقت بالجماهير حيناً وأبتعدت أحياناً ولكنها في كل الأحوال لم تكن منبتة الصلة بمستمعيها الذين يمتدون من المحيط إلي الخليج وعاشت أزمنة طويلة تقاوم سلطة التليفزيون الذي إقتطع جزءاً كبيراً من جمهورها وما إن أحرزت إنتصاراً عليه بفرض تواجدها علي الساحة بالقوة حتي جاءت الفضائيات لتواجه حزمة من المنافسين بدلاً من المنافس الوحيد ، وعليه عادت تغترب مرة أخري وتعاود المقاومة بحثاً عن مجال لها في زخم الوسائط الإعلامية المتعددة وثورة الإتصالات التي لا شك أصابتها ببعض السكون . الظاهرة دعت مجموعة من الإذاعيين لأن يهجروا الميكروفون إلي الشاشة الصغيرة آملين في تحقيق ذواتهم خارج المدار الضيق ، لكن قلة قليلة هم الذين ظلوا قابضين علي الجمر ، وهؤلاء من يعتبرون العمل الإذاعي رسالة تنتفي معها ميزة الإنتشار والشهرة كرهبان يتعبدون في محرابهم ، لا يستجدون الجماهير ولا يتملقونهم بلغو الكلام والخطاب الساقط فالغاية أسمي من الظهور وأجل من الحضور الرخيص في مشهد الدعاية المبتذلة . الدور الرائد للإذاعة وتأثيراتها الثقافية والفنية والإجتماعية والسياسية يحصيها واحد من فرسانها الواعدين النابهين في دراسة إختار لها " الراديو " عنواناً دالاً علي ماهيتها ومضمونها ، فهو يري أن الراديو "فن الممكن والمستحيل" وفي هذا تنويع علي التعريف الذي إصطٌلح عليه بين الساسة في تعريف السياسة بإعتبارها لها ذات الطبيعة ، فهي أيضاً فن الممكن والمستحيل ،إذ يستعرض الإعلامي والإذاعي محمد الناصر المذيع بإذاعة صوت العرب في دراستة الموسوعية شتي الجوانب المرتبطة بالإذاعة كرافد معرفي وتثقيفي رفيع المستوي فنجدة يقسم منهجة البحثي إلي مجموعة عناوين من بينها ما يلي : الثقافة اللغوية الإصطلاحية – التكنولوجيا الجديدة – الموسيقي – المؤرخ الصوتي – الكتابة فن الهواء ، وكلها عناوين يأخذنا عبرها الناصر إلي خطوط تتوازي فيها القيمة الفنية بالمعلومة التكنولوجية لتتولد مستويات من الحالة المزاجية فنكتشف مواطن الجمال في برامج الإذاعة ونتطرق إلي المهم والأهم بأجندة صوت العرب والبرنامج العام والشرق الأوسط والشباب والرياضة ونطالع وقع كل محطة من تلك المحطات التاريخية علي الأذن المرهفة التي تتخير ما يروق لها وتصيغ السمع لما تحب .. تحليلات سياسية وتعليقات – أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ أو خُطب الزعماء والرؤساء ، جمال عبد الناصر والسادات وهواري بومدين وياسر عرفات وبورقيبة وغيرهم علي إختلاف الميول والثقافات والإتجاهات ، وهنا يرصد صاحب البانوراما أو الدراسة الصادرة حديثاً دور الإذاعة كوسيط نشط في متابعة الأحداث والتحولات ، وتأثيرها علي الخطاب الإذاعي فنجدة يشير إلي تميز كل مرحلة من المراحل بعلامات وإشارات ودلالات . فالإذاعة هي الصحيفة المسموعة أو الجريدة الناطقة التي طالما إستدل بها المستمع في محاولاته التعرف علي ما يجري بالنهر المتجدد من أحداث ، ولم ينس الباحث محمد الناصر لفت النظر إلي الإعلام التعبوي الذي كانت الإذاعة جزءاً منه في فترات عصيبة من تاريخ مصر والأمة العربية ، لا سيما بعد قيام ثورة يوليو ونهوض المجتمعات بدول العالم الثالث علي شعارات مختلفة إرتبطت بالحرية والإستقلال ، فقد إنتهجت الدولة في تلك الفترة منهجاً إعلامياً يُبرز مساوئ العهد الملكي البائد ويبشر بإنجازات جديدة ومستقبل أكثر إستقراراً ينتظر الشعب . ففي هذا الإطار إحتلت الأغنية الوطنية الحماسية مساحة واسعة بالخريطة الإذاعية وصدحت أصوات مثل عبد الوهاب الذي غني مجموعة من الأغاني المتميزة من بينها " دقة ساعة العمل – وصوت الجماهير ووطني الأكبر " النشيد الذي لحنة لعدد من كبار المطربين المصريين والعرب ، عبد الحليم ونجاة وصباح وفايدة كامل وشادية ، وأيضاً إحتفت ثورة يوليو بصوت أم كلثوم فكانت أغنيات شهيرة مثل " ريسنا قال ما فيش محال ، مصر التي في خاطري " وأمتد هذا الوهج الغنائي الثوري لبقية أنحاء الأمة العربية فاستضافت مصر نوابغ الطرب والموسيقي ، فريد الأطرش – فهد بلان – فايزة أحمد وتولت الإذاعة مهمة توصيل أصواتهم إلي كافة الجماهير بكل العواصم الشقيقة . ومن بين محاسن الميكروفون وأفضاله نشر الوعي الديني عن طريق محطة القرآن الكريم التي جعلت اللغة العربية جارية علي كل لسان فمحت الأمية اللغوية ووسعت من مجالات عشاقها ومتذوقيها بعدما كان النطق بها مقصوراً علي مشايخ الأزهر وطلابة ، فالكتاتيب كما يذكر الناصر في دراسته كانت هي وسيلة التدريس الوحيدة إبان فترة الأربعينيات وما قبلها كمرحلة سابقة علي الدراسة النظامية بالأزهر الشريف ، وكذا كان مقرؤ القرآن الكريم قبل إنشاء الإذاعة عام 1934 يقرأون في سرادقات العزاء في حلقات محدودة لجمهور المستمعين ، فقد كان عددهم يعد علي الأصابع ، ومن أشهرهم حينئذ الشيخ محمد رفعت الملقب بقيثارة السماء ، صاحب الصوت الذهبي الذي أعادت الإذاعة المصرية إكتشافة فصار بفضلها نار علي علم ، حيث ذاع صيته في المشرق والمغرب وتسبب في هداية بعض المستشرقين إلي الإسلام لحلاوة صوته وعظيم تأثيرة فهو يأخذ بالنواصي ويُذهب الألباب من فرط عذوبته وطلاوته . في جانب آخر من البانوراما الذكية التي تقع في 166 صفحة من القطع المتوسط يشير المذيع اللامع بمحطة صوت العرب إلي الدور التثقيفي الذي كان للراديو بالريف المصري ، حيث أثرت برامج التوعية الصحية في وقاية نسبة كبيرة من المستمعين المصريين من الأمراض المتوطنة ، وعلي رأسها البلهارسيا ، كما ساهمت برامج محو الأمية في تخلص قطاع لا بأس به من الناس من الأمية والجهالة ممن مثلت لهم الإذاعة رافداً معرفياً ضخماً فباتوا أصدقاء للراديو يصطحبونه معهم في الحقل والمصنع ، ولعل أشهر الأغاني المرتبطة بهذه الحالة أغنية "يالي إتحرمتوا من التعليم الفرصة لسة قدامكم – من غير ما تدفعوا ولا مليم إذاعتنا ناوية تعلمكم "، غير أن للراديو دوراً ريادياً في مرحلة الطفولة وتكوين الشخصية ، فلا يمكن أن ننسي برنامج " غنوة وحدوتة " الذي كانت تقدمة الإذاعية الكبيرة فضيلة توفيق ، فقد تابعة ملايين الأطفال الصغار وأستمتعوا به أيما إستمتاع وما زالوا يذكرونة إلي الآن بعدما صاروا شباباً ورجالاً كباراً ، وأيضاً برنامج " ربات البيوت " الذي كانت تقدمة الإذاعية الكبيرة صفية المهندس كان له بالغ الأثر في ثقافة المرأة المصرية التربوية والأسرية فعن طريقة نوقشت ملايين المشكلات المتعلقة بالحياة العاطفية وأزمات الزواج والطلاق بين الجنسين عبر خطابات كانت تُرسل إلي البرنامج وتتولي الإذاعية الرائدة مسئولية صياغتها وتنقيحها وعرضها ، ولفؤاد المهندس شقيق الإعلامية المذكورة برنامج آخر مهم هو " كلمتين وبس " ، وهذا البرنامج كانت لة طبيعة نقدية تحارب البيروقراطية وتكشف تقاعس الموظفين عن أداء مهامهم الوظيفية بإتقان ، وقد ظل المهندس يقدمة بإنتظام لسنوات طويلة إلي أن رحل وترك رصيداً وفيراً من الحلقات المتميزة . الأنشطة الإذاعية متعددة والراديو لا يزال صامداً أمام غزو التليفزيون والفضائيات الخاصة والإنترنت . شيئاً فريداً تحرص عليه إذاعة صوت العرب يتبلور في ذلك التناغم العربي – العربي الحاضر دائماً في خطابها الإعلامي برغم المتغيرات السياسية والمياه الكثيرة التي جرت في النهر .