يبهر كل من ينظر إليه لجمال تصميمه.. أنها حقيقة مجمع المصالح الحكومية في مصر المعروف اختصاراً باسم «مجمع التحرير»، فإذا نظرت له وأنت تقف قبل جامع عمر مكرم، سيبدو لك، كمقدمة سفينة على قدر كبير من الرشاقة، خطوطها الجانبية تنساب بنعومة، وإذا نظرت له من شارع الشيخ ريحان، أي إلى ظهر المجمع، سترى ما يشبه جزءا من دائرة، قمتها زاحفة نحوك، تتسم بالحيوية، وإذا وقفت في منتصف الميدان، فإن المجمع سيتخذ هيئة القوس، مرنا وقوياً. هذا الصرح العملاق الذي أنشأه الرجل الموهوب محمد كمال إسماعيل عام 1951م، ويقترب من إخلائه بقرار من محافظة القاهرة، يحتوى على تسعة آلاف موظف حكومي، ويتكون من 14 دوراً، وتكلف إنشائه قرابة 2 مليون جنيه وقتها، وتم بنائه على مساحة 28 ألف متر وارتفاعه 55 متراً وبه 1356 حجرة للموظفين، ويتميز بالصالات الواسعة والمناور والنوافذ العديدة والممرات الكثيرة بكل دور. مؤسس المجمع ومحمد كمال إسماعيل، جاء من سلالة البنائين العظام، من نسل عباقرة المعمار، الذين صنعوا مجد الحضارة الفرعونية. ولد كمال إسماعيل في ميت غمر، حيث قضى صباه في مدينة الإسكندرية العامرة بالطرز الإسلامية والأوروبية، قديمها وحديثها. وبعد إتمام دراسته، بتفوق في هندسة جامعة فؤاد، ذهب لاستكمال مشواره التعليمي إلى فرنسا حيث حصل على شهادة الدكتوراه. عاد إلى وطنه ليغدو، بعد سنوات، مديرا عاما للأبنية الأميرية، ويصمم بخيال خصب، وروح وثابة، العديد من البنايات التي أصبحت من المعالم المصرية الأثيرة، ذات الجمال الأخاذ من ناحية، والمتعددة المنافع من ناحية ثانية، ومنها.. على سبيل المثال، دار القضاء العالي، بمدخله الرحب، وسلالمه الرخامية العريضة، وأبوابه المتسعة التي تذكرك بأبواب المعابد، وعمدانها الشاهقة. تصميم المجمع ومن جانبه، يُعد مجمع التحرير الذي أسسه محمد كمال إسماعيل، مركز الثقل في الميدان، حيث تبدو كل البنايات حوله متواضعة. المهندس الكبير محمد كمال إسماعيل، المفتون بالأفنية والقباب، أفرد مساحات داخل المبنى، كصالات ومناور، إما مفتوحة الأسقف أو يعلوها أقبية ذات نوافذ زجاجية، هي امتداد وتطوير للشخاشيخ المتوافرة في العمارة الإسلامية. وأبواب المجمع الرئيسية تؤدي إلى صالة متسعة الأرجاء، على اليسار ومجموعة مصاعد أنيقة، للصعود بالموظفين، وعلى اليمين سلالم مريحة، للدور الأول والثاني، وثمة ممرات جانبية، تؤدي إلى صالات أقل مساحة، بها مصاعد كبيرة، لنقل الأثقال إلى الأدوار العليا، وبسبب موقع المجمع، وشكله، وكثر نوافذه، وأفنيته، تجد أن ضوء الشمس، والهواء المتجدد، لا ينقطعان عن المكان. عشرات الهيئات الحكومية تشغل أكثر من ألف حجرة، يعمل بها آلاف الموظفين. الحياة داخل المجمع في الخمسينيات، كان العدد أقل، واعتبر العمل في المجمع نوعا من الوجاهة الاجتماعية، المنخرط فيه لابد أن يكون متأنقا، ذلك أنه ذاهب إلى مكان شديد الاحترام، وسيجلس إلى مكتب في غرفة مستقلة، معه زميل أو زميلان على الأكثر، وإذا طلب شايا أو قهوة فإن النادل سيقدم له المطلوب وهو يرتدى جاكته بيضاء وبنطالا أسود. عمال النظافة لا يتوقفون عن العمل، والسعاة يرتدون بزّات صفراء، ودورات المياه، شأنها شأن الممرات، بالغة النظافة، مما يدفع المرء للتصرف بتحضُّر. لكن مع الستينيات، في نهاية عصر الرومانسية، شهد المجمع عدة أحداث فاجعة، فعلى فترات متقطعة أقدم ثلاثة أو أربعة شباب، ممن تهشمت قلوبهم بفعل الغرام الفاشل، على الانتحار بإلقاء أنفسهم من الأدوار العليا.. وهذا سر شبكة الحديد والسلك التي امتدت في الفراغ، عند الدور الثامن، فالهدف منها أن تجعل المنتحر يتهشم ولا يموت. توالت السنوات، ثم العقود، وبدأ التغير شيئا فشيئا، أعداد الموظفين تضاعفت، مرة ومرتين وعدة مرات، كذلك الحال بالنسبة للمتعاملين معهم. اكتظت الحجرات بالموظفين: أربعة أو خمسة مكاتب في الغرفة الواحدة، يجلس إليها ضعف عدد أصابع الكفين، وأخذت المكاتب تزحف إلى الطرقات، وألغيت حجرات البوفيهات، فاستقطع البعض عدة أمتار في هذا الممر أو ذاك، كي يعد فيه المشروبات، ولجأ البعض الآخر إلى دورات المياه، لذات الغرض، وتماشيا مع الأجواء الجديدة، اختفى النادل النظيف، وحل مكانه رجل مشعث الشعر، يرتدي قميصا متسخا، وبنطالا مكرمشا يقدم المشروبات على صينية من صفيح قذر.. توافق هذا مع ارتفاع ثمن المشروب، من قرشين إلى خمسة إلى عشرة قروش، ثم ربع ونصف جنيه. من ناحية ثانية، مع نوبة الورع التي انتشرت في السبعينيات والثمانينيات، درج العديد من الفراشين على ترك أعمالهم الدنيا والتفرغ للآخرة، أحضروا كمية كبيرة من القباقيب، وضعوها في مدخل دورات المياه، لزوم الوضوء، وفرشوا الممرات بالحصير، على نحو لا يترك إلا مساحة صغيرة لمرور شخص واحد، يلتصق بالجدران كي لا يدوس على الحصير، وأصبح من المعتاد أن ترى عامل نظافة قد أطلق لحيته، وجاء بمنضدة أو مكتب قديم، يضع فوقه سمسمية وحمصية ولادن وعطور زيتية في زجاجة صغيرة وبخور. ومن جانبها، أخذت بالوعات الحمامات تنسد بفعل تفل الشاي، وانطلقت المياه من الصنابير الفاسدة، وبدا العديد من دورات المياه أقرب للمستنقعات الآسنة، وبدلا من إصلاح الأمور، تم إغلاق محابس وأبواب الحمامات.. وأصبح على من يريد قضاء حاجته أن يصعد أو يهبط عدة أدوار، بحثا عن حمام مفتوح. وفي نفس السياق، تراكمت المكاتب والدواليب المنتهية الصلاحية في الأركان، تعلوها أكوام التراب، وأهمل الموظفون رجالا ونساء، مظهرهم الذى بدا تعيسا، مغموما، خاصة حين وقوفهم في طوابير طويلة، متعرجة، في انتظار المصاعد، بما في ذلك المصاعد المخصصة للبضائع. مأساة المجمع جاء الفرج، مؤقتا بسبب واقعة مأساوية، ففجأة، في أواخر السبعينيات، انفجرت قنبلة في دورة مياه مديرية الشباب والرياضة بالدور الخامس، واندفع الآلاف نحو الأبواب الجانبية لتخفيف الضغط على السلم الرئيسي. وحينها، اكتشف الجميع أن الأبواب الجانبية مغلقة، وراءها كراكيب، وانتابهم الذعر والحيرة، كما لو أنهم لم يشاهدوا الأثاث المهشم من قبل.. قيل يومها إن «مجنون ليبيا» هو من أوعز للبعض بوضع القنبلة. المهم، أصيب من اصيب، وانكسرت أرجل البعض، واتخذ قرارا بتخلص المجمع من أحماله الثقيلة، بشرا وركاما، واتخذت عدة خطوات في هذا الشأن، ولكن الإهمال، وانعدام الحس بالمسئولية، عاد بالأمور إلى مربع الدمامة. وفي الشهور الأخيرة، قبل ثورة 25 يناير، تسربت معلومات، فيما يشبه جس النبض، تتحدث عن بيع المجمع للوليد بن طلال، كي يحوله لفندق، وطبعا، توقف هذا الكلام مع إعادة النظر في ممتلكات المصريين المنهوبة، باسم البيع. جدير بالذكر، أن محافظ القاهرة جلال مصطفى سعيد، أكد أن هناك دراسات تتم الآن لإخلاء مجمع التحرير من الضغط اليومي للمترددين عليه، ليتم نقل المصالح الحكومية إلى المدن الجديدة أو عودة كل فرع إلى أصوله بالوزارة التابعة له كبديل لتقليل الضغط على منطقة وسط البلد، لإحداث نقلة كبيرة في السيولة المرورية.