لا أخضع لإملاءات .. ووحدة مصر تشغلني الآن الإسلاميون ركيزة الجماعة الوطنية .. وفزاعة كراهيتهم مغرضة مواجهة الإرهاب لن تكتسب شرعيتها إلا بالقانون ناصر سعى لإخضاع القضاء .. رغم مشروعه الوطني العظيم والسادات منع الاعتقالات ولكنه بطل انهيار الطبقة الوسطى الأزهر ورموز الفكر الديني قادوا الكفاح ضد الاحتلال مصر مدنية أم دينية .. قضية مفتعلة لإلهاء الشعب مبارك مسئول عن تفكيك أجهزة الدولة واستشراء الفساد تاريخ طويل من المواقف الفكرية والقضائية يحمله سجل المستشار الجليل طارق البشري سليل العائلة العريقة التي كان أبرز رموزها جده سليم البشري شيخ الأزهر الأسبق . ويعد البشري أحد أساطين الفتوى والتشريع والتاريخ، ورمز بارز بمدرسة "الحضارة الإسلامية" ، نادى باستقلال القضاء ، وقدم أرصن الكتابات عن اللحمة الوطنية وتاريخ الحركات المقاومة ومسألة الديمقراطية . . هو الرجل الذي يمتلك شجاعة معارضة النظام الذي جار على قيم التعددية واحترام إرادة المعارضين ولكنه في الوقت ذاته يكافح جهل المغالين والمتنطعين باسم الدين.. التقيناه في منزله ، ننوي مراجعته بالخطاب الديني المصري عبر التاريخ وكيفية الانطلاق نحو التجديد في ظل ما يواجه المنطقة من هجمات إرهابية ، فإذا بالحديث يتطرق أيضا للحركة الوطنية وأزمة الطبقة المتوسطة وهجرة العقول وأسباب إخفاق ثورة يناير في تحقيق أهدافها .. السطور التالية تحمل التفاصيل. كيف تنظر للأزمة الراهنة بين النظام والإسلاميين منذ 30 يونيو ؟ الإسلاميون شأن كل الفصائل في نسيج الوطن، أغلبهم معتدلون وإن كانت هناك عناصر تميل للغلو ، لكن أن تتصور أي دولة أن خيرها في قمعهم ووأدهم من الحياة الاجتماعية والسياسية وتهميشهم، فهذا لن تكون عاقبته محمودة، وقد كتبت مرارا عن رفضي قمع الإسلاميين وأهمية فتح الباب للحوار وتمكين الكفاءات لتولي زمام القيادة بقطاعات الدولة، أما أن تسقط نظامهم وتضعهم بالسجون وتتعامل معهم كعدو في معركة تصفية ، فهذا يعطي ذريعة للآخر لمبادلتك الكراهية وربما التورط بالعنف . لا نحتاج الآن لتأكيد أن كل من خرج عن النظام بأفعال يجرمها القانون كسفك دماء أو قطع طرق أو أي أعمال إجرامية تهدد سلامة المواطنين واستقرارهم، يجب التعامل معه بحسم ووفق القانون. النظام الحالي رفض المخالفين له، مع أن سفيان الثوري قديما قال : لا تقل خلاف بل توسع . و لا أدري لماذا ينشرون الفزاعات ويوجهون الناس لكراهية الحركة الإسلامية، ولماذا تحدث ممارسات خارجة عن القانون في مكافحة الإرهاب! لابد أن نفهم أن أي نظام يجيء بانتخابات ديمقراطية نزيهة، قد صار ممثلا لكل فئات الشعب، حتى تلك التي لم تنتخبه، وعليه واجب رعاية مصالح جميع فئات الشعب بلا تمييز ، خاصة وأن تاريخنا يشهد بأن كل الحركات السياسية الوطنية كانت ذات مرجعية إسلامية . البشري ومحرر محيط الثورة والإسلاميين ماذا عن قصة الإسلاميين مع العمل الوطني؟ سنعود لتذكر الثورة العرابية ومنابعها الدينية وقبلها شيوخ الازهر الذين خرجوا بقيادة عمر مكرم لدرء الفرنسيين قبل تولية محمد علي حكم البلاد وفي القرن الماضي لو تذكرنا عبدالكريم الخطابي وعبدالقادر الجزائري الذين قادا الثوار لمحاربة الفرنسيين الغاصبين، أو محمد المهدي قائد الحركة الوطنية السودانية، والزعامات الوطنية المصرية قبل ثورة 1919 ونعني مصطفى كامل ومحمد فريد ، سنجدها جميعا حركات مرجعيتها إسلامية صريحة، حتى أن محمد فريد القائد العظيم ألف كتابا يقول فيه "حفظ الله تبعيتنا للدولة العلية" ويعني الدولة العثمانية التي كان الانتماء لها من معالم الولاء والوطنية حينها ، وإلى أن انتهت الخلافة العثمانية ظلت الجماعات الوطنية تنهل من منابع الدين أفكارها الثورية. ثورة 1919 أنتم لا تتصورون دور علماء الأزهر في صياغة الحركة الوطنية وكيف تأثرت بهم الدساتير في ظل العصر الملكي المعروف بميوله الليبرالية، نظريا على الأقل، فكانت لآراء الشيخ شاكر والشيخ المطيعي وعبدالمجيد سليم ومصطفى عبدالرازق والعديد من الكتاب ذوي الخلفية الإسلامية أثرا بالغا بالحياة السياسية ونذكر منهم مثلا مصطفى الرافعي ومحمد حسين هيكل ، حتى أن الشيخ علي عبدالرازق وبحسب كتاب صادر حديثا للدكتور محمد عمارة باسم "طه حسين .. من الانبهار للغرب إلى الانتصار للإسلام" ، تنكر الشيخ علي لأجزاء بالغة الأهمية بكتابه "الإسلام وأصول الحكم" ، أما طه حسين فلم يكن راضيا بسنواته الأخيرة عن كل آرائه الشاذة ب"الشعر الجاهلي" واستمر الأمر في مصر بالتحديد وعدد من البلدان الأخرى حتى جاءت ثورة يوليو 1952 وقاد زمام الأمور جمال عبدالناصر، فجرت مناوشات مع الإخوان المسلمين أسفرت عن إقصائهم من الحياة السياسية والتنكيل بمشروعهم السياسي واضطهاد كثيرين بالسجون الناصرية وتسيد الفكر العلماني ، لكن ما إن جرت نكسة يونيو و انتهت الحقبة الناصرية حتى عادت الصبغة الإسلامية للحركة الوطنية وليسترد الإسلاميون دورهم الوطني التاريخي، وكنت ألاحظ ذلك في سريان هاديء جميل للفكر الإسلامي بين المصريين حتى في قطاعات الدولة الرسمية ، فشاهدنا الحجاب والالتزام بالصلاة ومنظومة فكرية مختلفة تماما عما كان سائدا من قبل . وهل ينطبق ذلك على وقائع ثورة يناير القريبة ؟ الظرف تغير نعم ، لكن ظل الإسلاميون حاضنة هامة أعطت زخما للثورة في ميادينها ، ونتحدث عن كل ثورات الربيع العربي وليست ثورة يناير فحسب، ولو دققنا النظر لوجدنا الإسلاميين من أكثر الفصائل مطالبة بتطبيق الديمقراطية بمشتملاتها ، ذلك أنهم عانوا ويلات الإقصاء طيلة 30 عاما سبقت الثورة، وحين جئنا لكتابة دستور 2012 ركزنا على تطبيق المعايير الديمقراطية برغم صراخ البعض ومحاولتهم وضع العربة أمام الحصان ! هل يمكن أن تنتشر مذاهب الغلو الديني في مصر ؟ لا أظن، لأن مصر بالتحديد عرفت الرحابة المذهبية الدينية منذ تأسس الجامع الأزهر ، ولم يكن شيخ الأزهر يأتي من المذهب الحنفي قط باستثناءات قليلة منها الشيخ محمد المهدي العباسي أول من جمع بين منصبي الإفتاء والأزهر ، والذي كان جده مسيحيا ثم أسلم وعاصر الحملة الفرنسية على مصر. ظلت مصر على تسامحها حتى أن القوانين ضبطت من المذاهب الأربعة وخارجها، فتمت الاستعانة بالزيدية والجعفرية وغيرها. ونحن البلد الذي أنجب السنهوري ، أبو الدساتير العربية، والذي امتحن امتحانا عصيبا بعد ثورة يونيو لأنه انحاز للديمقراطية، وفي الحقيقة هو رجل مستنير، وكان أمر معتاد أن نجد أساطين القانون ومنهم الشيخ العلامة أحمد إبراهيم الذي أشرف على رسالة للقانوني القبطي البارز د. شفيق شحاتة حول النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية ! هموم وطنية بصراحة .. لماذا لا نجد مقالاتك التي اعتدناها في الصحافة المصرية ؟ لن يتم توظيفي لخدمة أي توجه أنا لا أقتنع به، ومن هنا فقد تركت المنابر الصحفية التي اعتدتها لشهور حين شعرت أن هناك تحرجا من نشر آرائي كما هي، وكنت أقول أن مصر شهدت ما ينافي القيم الديمقراطية التي نادت بها الثورة وهذا أزعج البعض بالطبع، فاتجهت لمنابر أخرى عربية أستطيع التعبير عن رأيي من خلالها بحرية . كما أنني منهمك في جمع دراسات قديمة وإخراجها بما يتناسب مع مستجدات واقعنا، وقد كتبت عن نهضة مصر والتجدد الحضاري أسئلة ثورة يناير وأسباب الإخفاق والطبقة الوسطى المصرية المظلومة وصغت ذلك بمقالات وكتب منشورة لدى جهات عربية ومصرية بحثية كمركز الحضارة الذي أشارك فيه بحوليات هامة عن الأمة الإسلامية ومسارات التغيير، ولدي كتاب باسم "جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر المعاصرة" . على ذكر كتاباتك عن الطبقة الوسطى، لماذا تحذر من تفكيكها المتعمد؟ بالفعل نعيش زمن "وداع الطبقة المتوسطة" وهي بحسب الدكتور رمزي زكي بكتابه «الليبرالية المتوحشة» شرائح المجتمع التي تعيش من رواتبها المكتسبة بالقطاع العام والحكومة والمهن الحرة، وتشكل زمرة المتعلمين والمثقفين بأي دولة. فحين دخل العثمانيون مصر واستدعوا الفنانين والأطباء والعلماء المهرة لاسطنبول أفقدوا البلاد جذوة نهضتها والذين قادوا ثوراتها في كل العصور، فرجال الأعمال مرتبطون عبر العصور بالسلطة والمساكين يخضعون للقمة العيش وضروراتها ، ولو تأملنا ثورة يناير سنجد أن شباب الطبقة المتوسطة هو من خرج يجأر بالثورة ضد نظام مبارك الفاسد وليس المرفهون ولا سكان العشش مثلا . هناك دائما من يجذبنا لصراع مصطنع بين دينية الدولة أو مدنيتها، ليغرقنا في بحور الجدل ولا نبني مشروعنا الحضاري المتكامل الأركان. ولقد منيت الطبقة الوسطى بضربة قاصمة في عصر السادات حين دشن سياسات الانفتاح الاقتصادي الذي ربط مصر بأمريكا في تبعية مهينة وحرمها من مشروع الاستقلال الوطني بل ومكن طبقة جديدة من الطفيليين الذين لا يكوّنون ثرواتهم من الإنتاج، بل من التجارة الخاصة ومناصب الدولة، وتتاح لها فرص السيطرة الاقتصادية على البلاد من خلال المشاريع الخاصة المرتبطة بالخارج. ارتبط ذلك بكارثة أخرى فادحة، وهي هجرة العقول لدول النفط ، وقد كتب عادل حسين مرارا عن الاقتصاد المصري من الاستقلال للتبعية وكيف صدرت السلع والبشر بالرغم من أننا بأمس الحاجة لهذه الخبرات البشرية من أجل النمو . ثم جاء مبارك واستطاع تفكيك الدولة وأجهزتها التنفيذية، بل وتفكيك لتماسك الطبقة الوسطى المتنورة المقاومة لسياساته ، لقد فعلها بعد أن استقر تماماً مركزه في الدولة، وأمسك بنواحي الأجهزة السيادية، وعرف تماماً ما يمكن من السيطرة عن طريق مجموعة من رجال ارتبطوا به واستوثق من علاقاته مع الولاياتالمتحدة بعد حرب العراق في الكويت. وهل طال التفكيك القضاء أيضا في زمن مبارك ؟ صحيح . فجمال عبدالناصر برغم قوته وهيمنته على أجهزة الدولة لم يقتحم الهيئة القضائية ويعيد تشكيلها بما يناسب التغيرات الثورية العميقة التي كان يتخذها، لم يفعل ذلك الا في حادث واحد في مجلس الدولة في سنة 1954 ضد رئيس المجلس عبدالرزاق السنهوري والذي كان له وجه نشاط سياسي ، وحتى حين حاول أن يفرض "القضاء الشعبي" استحال عليه تنفيذ مسعاه لتماسك القضاء، وهذا يوضح كيف كانت قوة المقاومة والتماسك لدى العاملين في جهاز الدولة. أما السادات فقد أعاد القضاء وألغى قوانين منع التقاضي وأفرج عن المعتقلين السياسيين ليقول للناس أنهم في عهد جديد . لكن الرياح سارت بما لا تشتهي السفن فيما بعد!! قديما قرأت لأحد القضاة الإنجليز عبارة لم أنسها قط، وهي أنه إذا فقدت القاعدة القانونية عموميتها وتجريدها تحول القاضي إلى رجل شرطة. وبهذا ينهار النظام القانوني القائم على تعدد السلطات، وبهذا يستحيل الفصل بين استقلال القضاء وحيدته وبين قانونية القانون تقول أن الإعلام قد جرنا لقضية صورية "هل تصير مصر دينية أم مدنية" ! بالطبع هي مسألة صورية بدليل أن الخلاف تركز في حكم المادة الثانية من الدستور، التي تعترف بأن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع. ودستور 2014 نفسه أقر نفس المواد . لقد تجاهل الإعلام الأمور الحيوية التي تشكل المضمون الحقيقي للمطلب الديموقراطي وقضية استقلال مصر ونهوضها، ومكافحة قوى الاستبداد المتغلغلة في جهاز الدولة ومنهم أغلب المسيطرين على وسائل الإعلام والذين أفيدوا من النظام المخلوع. وأصر على مسألة محسومة في دساتير مصر كلها. هل غابت الرؤية عن ثورة يناير ؟ نعم . لقد ثار المصريون في 1805 وكان هدفهم بالإطاحة ببقايا النخب المملوكية بالحكم والاستقلال النسبي عن الدولة العثمانية ، وهذا ما صنعه محمد علي في سنة 1811، وفي «ثورة عرابي» سنة 1882، يكفي أن تقرأ برنامج الحزب الوطني الذي ظهر وقتها ونعرف منه بأي دقة متناهية وأي ذكاء وفهم وحرفية عالية كان هؤلاء القوم يفهمون ظروف عصرهم وقواه وقدراتهم الخاصة، في إطار شعارهم الاثير الذي لخّص طموحهم السياسي وهو «مصر للمصريين»، ليربطوا بهذا الشعار مطلب الاستقلال الوطني مع التنظيم الديموقراطي. وثورة 1919 بهدفيها المحددين عن الاستقلال ضد الاحتلال البريطاني وعن الديموقراطية ضد سيطرة الملك على السلطة، هذه الثورة كان سبقها في سنة 1911 مؤتمر سمي ب «المؤتمر المصري» لرسم برامج النهوض بالمجتمع المصري وقد سارت البلاد عليه لنحو 30 عاما، وكذلك ثورة سنة 1952، زامنتها مشروعات محددة كبرى مثل مشروع الإصلاح الزراعي، فضلاً عن تطوير الصناعة والتعليم وإنهاء الاحتلال البريطاني العسكري لمصر، واتخاذ سياسات للتحرر الوطني من نفوذ الدول الكبرى. لكن هذا الحراك الفكري لا نجده واضحا بثورة يناير سنة 2011، فلم نتمكن من محاسبة القائمين على الحكم بعد الثورة ولم تكن هناك وجوه إصلاح ملموسة بعد إزاحة النظام القائم، وقد سبقت الثورة كتابات هامة كمشروع "2020" والذي يرسم صورة مصر بعد عشر سنوات، ولكن بقيت تلك الدراسات بعيدة عن أن تشغل الرأي العام السياسي، وبعيدة عن التشكيلات الحزبية الضيقة، ومحدودة التأثير في السياسات الجارية. منذ سنوات بعيدة كتبت : "ليس للحق قدرة سحرية تمكنه من التحقق تلقائيا لمجرد كونه حقا، إنما القوة هي ما به يتحول الحق إلي واقع"