الأرمن تحت الحكم العثماني ضمت الدولة العثمانية (1299 – 1923م) في كيانها السياسي مجموعات كبيرة من التشكيلات الإثنية والأقليات العرقية ، وكان فسيفساء الشعوب التي تحكمها بمثابة لوحة من الموزاييك استمرت بديعة المنظر فترة من الزمان، توحي بالتناسق والتناغم، طالما بقيت الدولة قوية، وقليلاً ما كانت تظهر الثورات والتمردات في المناطق المكتظة بالأعراق المختلفة ، مثل برميل البارود المسمى " شبه جزيرة البلقان "، والتي كانت تمثلها الولاية العثمانية " إيالة الرومللي " . وكان الأرمن إحدى هذه الأقليات التي ضمتها الدولة العثمانية، لكنها كانت أقلية متميزة، إذ عرفت ب " الأمة المخلصة "، أو بالتعبير العثماني "مللت صادقه" نظرًا للمكانة التي تبوأتها في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . فعلى الصعيد السياسي تواجد الأرمن في المناصب الحكومية المختلفة وبشكل أكثر كثافة في السلك الدبلوماسي نظرًا لمهارتهم في الترجمة وإتقانهم للغات، ونال بعضهم درجة الوزارة ، وحتى نائب الصدر الأعظم، وهو بمثابة نائب رئيس الوزراء . وعلى الصعيد الاقتصادي ؛ كان " الأمراء" الأرمن في العاصمة وفي الريف الأناضولي بمثابة " الإقطاعيين " وكبار ملاك الأراضي أو " الملتزمين" وكذلك مثلوا معظم أفراد طبقة مقرضي الأموال " المرابين " ، ونافسوا في ذلك اليهود، حتى أن دار السكة – ضرب العملة – كانت إدارتها لفترة زمنية طويلة ؛ حكرًا على الأرمن ، بالإضافة إلى النواحي التجارية الداخلية والخارجية، إذ كان من الأرمن كبار المصدرين والمستوردين، وربما انفرد الأرمن بتأسيس الشركات الدولية ذات الأفرع المنتشرة في عدة عواصم أوربية وآسيوية . أما في النواحي الاجتماعية والدينية فقد عاش الأرمن – المسيحيون – تحت المظلة العثمانية الإسلامية، ليس كأقلية دينية ، وإنما كطائفة أو ملة لها حقوق المواطنة من الدرجة الأولى، وذلك حتى من قبل الفتح العثماني للقسطنطينية، وبدء الكيان الرسمي بالفرمان السلطاني لمحمد الفاتح بإنشاء البطريركية الأرمنية في العاصمة العثمانية الجديدة " استانبول " عام 1461م، وأصبح البطريرك الأرمني مسئولاً عن الموظفين والإدارة الروحية والتعليم العام، وكذلك المؤسسات الدينية والخيرية لطائفته . وفوق ذلك كله ؛ بعد انحسار الدور اليوناني في الإدارة والمؤسسات العثمانية إبان ثورة اليونان وانسلاخها عن الحكم العثماني، ازداد نشاط الأرمن، كما ازداد اعتماد الحكومة العثمانية عليهم في ملء الفراغ الذي تركه الرعايا اليونانيون . إلا أن النشاط الأرمني خارج الحدود ، وعلاقاتهم المتشعبة والمنفتحة مع عدة دول وقوى كبرى، سهل انتقال الأفكار القومية والثورية إليهم، كما أن " حمى القومية" التي اشتدت سخونتها عقب الثورة الفرنسية، و" الجامعة السلافية " التي كان يعلو صوتها عقب كل هزيمة عسكرية يتلقاها العثمانيون على يد الدب الروسي ، وأخيرًا وليس آخرًا لعبة توازن القوى التي كانت تمارسها الدول الكبرى للحفاظ على نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية وطرق مواصلاتها مع مستعمراتها الآسيوية والإفريقية ، كل ذلك جعل الأرمن ورقة رئيسية في هذه اللعبة السياسية ، خاصة وهم مسيحيون ، يتوزعون على المذاهب المسيحية الثلاثة التي تمثلها هذه القوى المتباينة، الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية. ولا يمكننا أيضًا إغفال الدور الرئيسي والمحرك الأساسي للكنيسة الأرمنية التي كانت بمثابة الوطن الأم لكل الأرمن، سواء في المهجر المنتشر عبر دول العالم كله، أو تحت الحكمين العثماني والروسي ؛ إذ مثلت الكنيسة الأرمنية، منبع الدعم الروحي، ومركز الحركة القومية، ومحرك أو محرض الثورات والتمردات ضد الحكم العثماني . أضف إليها النشاط التبشيري لمختلف المذاهب المسيحية والذي كان مرتبطًا بشكل وثيق مع المصالح السياسية للدول التي تدعم هذه الإرساليات التبشيرية . ومع ظهور أعراض النهاية على الدولة العثمانية ، واعتبارها رجل أوربا المريض، والمحاولات الإصلاحية العثمانية المعروفة ب " التنظيمات "، والتي كان من سلبياتها – التي فاقمت سرعة انهيار الدولة - إعطائها امتيازات واسعة للأقليات ، التي سرعان ما تعالى صياحها في أول جلسة للبرلمان العثماني – إبان حكم السلطان عبد الحميد الثاني – مطالبة بالانفصال عن الدولة ، وهو ما يعني انهيارها بشكل رسمي . أما الأرمن ، فلم يكتفوا بالمطالبة – عبر نوابهم البرلمانيين – بالانفصال أو الحكم الذاتي ، بل أعلن نائب أرمني بكل صراحة – في البرلماني الجديد في عهد الاتحاديين – أنه أعد ستين قنبلة وفجرها في العهد الحميدي، وأنه الآن يعد القنبلة رقم واحد وستين، وكان الرجل صادقًا، إذ أنه كان أحد كبار قواد التمردات الأرمنية التي اشتعلت في ولايات شرق الأناضول الستة، التي يتواجد فيها الأرمن، وهي ولايات : بتليس ، أرضروم، فان، خربوط، سيواس، ديار بكر . وكانت قمة التصاعد الدرامي للأحداث قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى، إذ كانت بعض الولايات الست المذكورة ذات حدود مشتركة مع روسيا العدو الأساسي للعثمانيين في الحرب المذكورة ، وكانت روسيا في أحد أطوار القضية الأرمنية داعمًا كبيرًا في اتجاه الانفصال الأرمني عن الدولة العثمانية، وتوجت هذا الدعم بإمداد الثوار الأرمن بالمال والسلاح، ورد الأرمن الجميل للروس بإمدادهم بالمعلومات والرجال، والعمل كطابور خامس للقوات العثمانية خلف خطوط الجيش العثماني، مما اعتبرته الحكومة العثمانية جريمة خيانة عظمى ، فكان قرارها بترحيل سكان المناطق الحدودية وجبهات القتال إلى مناطق داخلية ، مما اعتبره الأرمن وصحفهم المعارضة المنتشرة في كل اتحاد أوربا وأمريكا تهجيرًا قسريًا أدى إلى تساقط الضحايا بأعداد مبالغ فيها ، وكان ذلك ذريعة أخرى للتدخل في الشأن العثماني الأرمني باسم الإنسانية ، وأوجدت الحكومات الغربية المبرر لنفسها أمام شعوبها وأمام الرأي العام العالمي للقضاء على الدولة العثمانية " ورجل أوربا المريض" وتقسيم تركته،عبر خلية إعلامية أنشأت خصيصا لذلك في المخابرات البريطانية ، تولى شأن المسألة الأرمنية فيها المؤرخ الشاب – حينها – أرنولد توينبي ، وعلى خلفية الضغائن الموروثة ضد هذه الدولة التي كان يعتبرها الأوربيون – حكومات وشعوب ودارسون – زائدة لحمية نبتت على وجه أوربا فشوهته، ويجب إزالتها ، وكانت ممثلة للدين الإسلامي الذي اعتبروه أيضًا تقليدًا غير متقن لليهودية وتعديلاً غير صحيح للمسيحية، وثورة لقبائل بدائية همجية هي القبائل العربية . وذلك ما اعترف به المستشرق مالكولم ياب في إطار دعوته لإعادة تقييم وكتابة تاريخ الدولة العثمانية من وجهة نظر محايدة، وبعيدًا عن موروثات الماضي، واعتمادًا على المصادر الوثائقية التي تذخر بها الأرشيفات العثمانية في استانبول/ تركيا، ومعظم الدول التي حكمها العثمانيون . الجذور التاريخية والواقع والمستقبل السياسي وإذا كانت النهاية الرسمية للقضية الأرمنية / العثمانية في مؤتمر لوزان 1923م ، إلا أن القضية على المستوى الرسمي، إذ ما زال الأرمن كشعب محب للهجرة يعيش فيما يسمى "الدياسبورا" أو الشتات يبذل جهوده الحثيثة لنشر قضيته من خلال جمعياته ومؤسساته الخيرية والفنية والثقافية، وحتى من خلال الضغوط السياسية للوبي الأرمني في الدول الأوربية والولاياتالمتحدة، بل تجاوز الأمر إلى ظهور جماعة مسلحة أرمنية تمارس أنشطتها ضد الأهداف التركية والدبلوماسيين الأتراك، مثل جماعات الطاشناق والهنشاق والنرسس والجيش السري الأرمني " أسالا " والتي تركزت أنشطتها في السبعينات والثمانينيات من القرن العشرين . أما الأنشطة على المستوى السياسي والرسمي فبرز بعد ميلاد دولة أرمينيا المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، ومطالبها بأراضي شاسعة في الأناضول باعتبارها ممثلة لمملكة أرمينية التاريخية ، وانتزاعها اعترافات سياسية من عدة دول بما اعتبرته " مذابح " ، و" إبادة جماعية " للأرمن " وكانت تلك ورقة لعب للضغط على تركيا ومنعها من الدخول في الاتحاد الأوربي ، ومن ناحية أخرى لعبة التوازن والمصالح الاستراتيجية –خاصة الأمريكية– في منطقة القوقاز ومنابع النفط فيها، بعد الفراغ الأمني والأيديولوجي الذي خلفه السقوط المفاجئ للاتحاد السوفيتي. محورية القضية الأرمنية والقضية الأرمنية قد تبدو للسامع قضية تاريخية ذات خصوصية مرتبطة بالزمان والمكان الذي نشأت فيه ، لكن القارئ لا يكاد يطالع بعض أبعادها حتى يدرك أنها قضية محورية، ثم لا يزال يقف على تفاصيلها ويدرك بعض حقائقها ؛ حتى يجزم أنها قضية قياسية ، بمعنى أنها تصلح لتكون أنموذجًا تاريخيًا متكررًا في معظم جوانبه للعديد من القضايا والمشكلات التي تواجهها الدول إبان صعودها وهبوطها، وتقدم الكثير من التفاصيل المتكررة والمعادة في تصرفات القوى الكبرى تجاه من يسقط في حلبة السباق الدولي . فرغم خصوصية الأقلية الأرمنية التي عاشت في كنف الدولة العثمانية ، وصار لها نظام ملي خاص اعترف به السلطان محمد الفاتح عقب فتح القسطنطينية 1453م، ومرورًا بالتغيرات التي طرأت على طوائف الأرمن حتى الحرب العالمية الأولى ، والاتهامات الموجهة ضد حكومة الاتحاد والترقي – تركيا الفتاة- بتنظيم وتنفيذ مخطط لإبادة العرق الأرمني في تركيا، إلا أن خصوصية هذه القضية نراها تكاد تنطبق على معظم قضايا الأقليات والدول المتعددة الإثنيات . ولكن بعد أن بدا حتمياً للدول الكبرى تنفيذ سياسة التخلص من رجل أوربا المريض وتقسيم تركته ، حتى كان الأرمن إحدى أوراق اللعبة الدولية، فقد بدأ التدخل في شئون الدولة العثمانية من قبل روسيا وفرنسا وبريطانيا باسم حماية المسيحيين ، وصارت رعاية شئون الأقلية الدينية من أبرز وسائل التدخل عبر سلسلة من الامتيازات وبنود المعاهدات والاتفاقيات، كما أن الضغوط الدولية دفعت الدولة العثمانية نحو تسريع معدلات الإصلاحات والتنظيمات، والتي كانت نتائجها عكسية بالنسبة للأقليات ، خاصة الأرمن الذين استفادوا من الميزات والحريات الممنوحة لهم ؛ فسارعوا – هم أيضًا – من معدلات تمردهم على الدولة بدلاً من تقوية الانتماء إليها والارتباط بها، وكان مبدأ تصدير الثورة قد ظهر مبكرًا عقب الثورة الفرنسية، وكان المتعلمون الأرمن في طليعة من حمل هذا الفكر الثوري لينظموا الجماعات المعارضة والداعية للثورة، وإنشاء الجمعيات والخلايا التنظيمية لتعبئة الأرمن للتمرد ، سواء داخل الدولة أو خارجها . وقد أثبتت الرابطة الأيديولوجية أنها أقوى من رابطة المواطنة؛ إذ كثيرًا ما كانت الجيوش الروسية تحتل بعض المناطق الحدودية من الدولة العثمانية، ثم تعلن الهدنة و تعقد المعاهدات التي ينسحب على إثرها الجيش الروسي ، وينضم إليه في انسحابه الكثير من الأرمن طمعًا في فرصة أفضل، ويتركون بقية الأرمن عرضة لاحتقار وانتقام المسلمين الذين استفزهم انضمام مواطنيهم الأرمن للقوات الغازية ، إخوانهم في العقيدة الأرثوذكسية . وقد كان للمبشرين ولبطاركة الكنيسة الأرمنية واللوبي الأرمني في الخارج دورًا كبيرًا في تضخيم القضية الأرمنية إلى جانب دور البروباجندا الإعلامية الموجهة سياسيًا . كل هذه الأسباب وغيرها من تفاصيل القضية الأرمنية نجدها تعيد نفسها مع تغيرات طفيفة في الزمان أو المكان أو المسميات، وعلى سبيل المثال في مصر نجد من يثير فتنة طائفية لأسباب تافهة سرعان ما يضخمها الإعلام العالمي ويؤججها أقباط المهجر ، ثم يصدر الكونجرس الأمريكي قانونًا لحماية الأقليات الدينية، وتجد الدول الكبرى السبيل - عبر المناداة بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات - للتدخل في الشأن المصري، والتأثير على القرار السياسي ، وانتزاع بعض المزايا لصالح هذه الأقليات، مما يزيد من حنق الأكثرية ويشعل النيران تحت الرماد . والحال نفسه متكرر في بعض جوانبه لدى حزب الله الشيعي في لبنان الذي أعلن كبار مسئوليه أن ارتباطهم الأقوى والمباشر هو مع المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في طهران، وليس مع أي فصيل سياسي داخل لبنان . كما أن التماس الحدودي بين الخليج العربي وإيران في العراق يوازيه تماس بين كتلتين شيعية وسنية، امتد تأثيرها الثقافي والعقائدي والثوري على طول الخليج والجزيرة العربية، مع اتهامات قوية لإيران برفد ودعم شيعة المنطقة العربية في إطار مشروعها لنشر التشيع في المنطقة ، ولعل من أبرز الأدلة التي يسوقها المطالعون - بالإضافة إلى حزب الله اللبناني – هو التيار الصدري في العراق، والتمرد الحوثي المسلح في اليمن ، وأحداث مملكة البحرين التي استدعت تدخل قوات درع الجزيرة لأول مرة منذ تكوينها . ويمكن للمتابع أن يسوق الكثير من الأمثلة والنماذج عبر العالمين العربي والإسلامي، والتي تتشابه مع أكثر من عنصر من عناصر القضية الأرمنية . لذا ؛ نعود للتأكيد على أن القضية الأرمنية هي قضية محورية تصلح أن تكون أنموذجًا مرجعيًا لتأطير القضايا المشابهة لها؛ سواء في ملاحقة البدايات، أو متابعة التطورات أو رصد المتغيرات والمؤثرات ، أو وضع سياسة المواجهة والمعالجة، وكأن القضية الأرمنية بعناصرها هي صياغة عملية لنظرية سياسية في التدخل والثورة والاستمرارية والمعالجة . المركز الثقافي الآسيوي