أسلوب طريف ومختلف في المزاح، يطلقون عليه في بوركينا فاسو، وفي معظم بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى "دعابة التقارب".. هي شكل من أشكال الدعابة التقليدية التي تتجاوز الأبعاد الترفيهية المباشرة، من خلال تبادل كلمات وسلوكيات بين عرقيات معيّنة، تنتهي بتشكيل "تحالفات" أو "صداقات"، تستبطن معاني كثيرة أبرزها التعايش السلمي وتقبّل الآخر أو نقده بشكل ساخر طريف. تظاهرة شعبية تحوّلت بمرور الوقت إلى مهرجان ينتظره عشاق النكات في بوركينا فاسو للترفيه والإطّلاع على ما يستنبطه المشاركون فيه من طرائف تتعلّق بعرقية معينة في البلاد، إلى جانب عروض موسيقية يقدّمها فنّانون ينتمون إلى طوائف مختلفة، يتنافسون من أجل الحصول على أكبر قدر من الاستحسان، بخلاف عروض للأزياء، تمنح متابعي المهرجان فرصة الاطّلاع على أبرز خطوط الموضة الأفريقية لهذا العام. "دعابة التقارب" هي ممارسة شعبية توارثها البوركينيون عن أجدادهم، وتتّسم بحسّ الفكاهة الذي عادة ما يفسح المجال للأشخاص بالخوض في المواضيع الحسّاسة، دون خشية ردّة الفعل الحادّة، وهذا ما يحدث من خلال الطرائف التي يسردها المشاركون، والتي تستهدف طائفة معيّنة. دعابة شبيهة بالألعاب التقليدية الرائجة في مناطق مختلفة من العالم، ورغم ما قد تتسبّب فيه من إحراج، إلاّ أنّه يعود للمشاركين فيها تحويله إلى مرح وضحك، لأنّ الإنسان بطبعه، كما يقول المشاركون، يجد متعة في الكشف عن مواطن ضعف الآخرين والتصريح بذلك دون مواربة. كما أنّ هذه الطريقة تساهم في خلق نوع من "التقارب" خصوصا حين تكون تركيبة المجتمع مزيجا غير متجانس من الانتماءات والثقافات وطرق العيش، وهذا التقارب نفسه هو ما يقود نحو التوحّد ونبذ الاختلافات وتجنّب الانقسامات، بحسب المتخصّصين في علم الاجتماع. ففي بوركينا فاسو التي تضم 60 عرقية، تعتبر دعابة "التقارب" من الممارسات المتجذّرة ضمن العادات اليومية للسكان، والمزاح يشكّل لدى السواد الأعظم منهم الطريقة المثلى لتجنّب الإحراج الناجم عن النقد اللاذع أو رفض السلوكات المختلفة التي تفرضها الانتماءات الأيديولوجية المتفرّعة. ومع أنّ روح الدعابة تتفاوت من شخص لآخر، ومن طائفة لأخرى، إلاّ أنّ حضورها يظلّ طاغيا، والدليل على ذلك هو إقامة هذا الموعد السنوي المخصص للنكات والمزاح والترفيه. ومن أشهر الدعابات الرائجة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء عموما هي تلك التي تمارسها، بشكل يومي، شعوب البوبو والفولاني والبيسا إضافة إلى الغورونسيس والساموس وموسي (عرقيات مختلفة منها الرحل ومنها الرعاة يعيشون في مناطق الغرب الإفريقي عموما). وأمام جماهير تعالت أصواتها ضاحكة، مستمتعة بأداء الفنان البوركيني المنتمي لعرقية موسي، زوغنازاغيمدا، الذي استعرض، خلال مهرجان واغادوغو للضحك، نكات ساخرة عن عرقية سامو، والتي وصفها ب "طائفة العاطلين". في المقابل، اعتلى سامو كي بوسي، وهو مغني بوركيني من طائفة سامو، المسرح، ليردّ قائلا إنّ عرقية موسي "من شدّة ولعها بالزعامات، حتى أنّها، وإن وجدت وحدها في بئر عميقة، فإنّها ستنصّب نفسها زعيما تقليديا على نفسها". حرب لفظية ساخرة، والدعابة في مواضيع مماثلة قد تجد صدى أكبر لدى جمهور المهرجان ممّن يعرف خفايا العرقيات المكونة لبلده. غير أنّ هذه الدعابة تجاوزت بعدها الترفيهي الحيني والمباشر، لتطال تبعاتها الإيجابية مجالات أكبر وأعمق. ووفقا للبروفيسور ماغلوار سومي المتخصص في التاريخ الديني المعاصر بجامعة واغادوغو، فإنّ دعابة التقارب كانت من بين العوامل التي هدأت من الإحتقان والغضب الشعبي الذي اجتاح البلاد، في 3 يناير/ كانون الثاني 1966، أو ما يعرف بالانتفاضة الأولى، حين كانت بوركينا فاسو لا تزال تعرف باسم "فولتا العليا". وأضاف البروفيسور أنّه "حين انتفضت النقابات بوجه نظام الرئيس البوركيني الأول، موريس ياميوغو، استدعى الأمر تدخّل الجنرال أبوباكار سانغولي لاميزانا، المنحدر من سامو، وهي عرقية لها دعابة تقارب مع طائفة موسي التي ينتمي إليها ياميوغو، وهذه الدعابة هي ما مكّن الجنرال من الوصول إلى الحكم دون إراقة الدماء، لأنّ وجود مثل هذا الرابط يقضي، وفقا للعادات، أنّه مهما بلغت درجة الاحتقان بين العرقيتين، ينبغي عليهما التوصل إلى حلّ توافقي". وتعدّ هذه الدورة لمهرجان "دعابة التقارب" في واغادوغو الأولى من نوعها منذ استقالة الرئيس البوركيني السابق بليز كمباوري، وهو ما منحها مذاقا خاصا ومختلفا، أتاح للجماهير التي خرجت غاضبة، أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مطالبة برحيل كمباوري، فرصة استعراض المحطة الفاصلة نفسها لكن بطريقة ساخرة وطريفة. البعد الاجتماعي المؤيّد لقيم التعايش السلمي لدعابة التقارب، أكّده منظم المهرجان، لوران ويدراوغو، قائلا للأناضول إنّ "ترسيخ الدعابة يشجّع ويمكّن من إدارة أفضل لجذور النزاعات والتوترات"، مضيفا أنّ تنظيم هذه التظاهرة في سياق انتقالي كالذي تشهده بوركينا فاسو، ينزع فتيل التوتر الإجتماعي السائد في البلاد". المهرجان شهد، في دورته الثانية، مشاركة عدد من نجوم الغناء والكوميديا من بوركينا فاسو والغرب الأفريقي "مالي والسنغال وكوت ديفوار وغيرها". كما تخلّله تقديم أشهر الأطباق المحلية، مثل عصيدة ال "تو"، وهي من المعجنات المعدّة من الدخن "نوع من الحبوب تعد غذاء رئيسيا في مناطق بأفريقيا." "