على بعد أمتار قليلة من وسط مدينة قفصةجنوب غربي تونس، وبجانب السور البيزنطي، ترتفع مئذنة مسجد "سيدي صاحب الوقت" شاهدة على عراقة هذا المعلم التاريخي الذي يقول مؤرخون إنه ثالث أقدم مسجد في أفريقيا، ويشكو مترددون عليه من تعرضه للإهمال. ومسجد "سيدي صاحب الوقت"، أو الجامع الكبير كما يسمى في قفصة (حوالي 350 كم جنوب العاصمة تونس)، تم تشييده خلال عهد الأغالبة (184ه / 800م -296ه/ 909م) في القرن التاسع ميلادي مثلما تدل على ذلك لوحة رخامية على أحد جدرانه. وأقيم هذا المسجد على أنقاض كنيسة كما يتبين من رسوم صليب على أعمدة وتيجان بيت الصلاة مغطاة بمادة الجبس. و"ليس هناك تاريخ محدد بدقة لبناء هذا المسجد"، كما يقول الشيخ محمود بن المختار فاخت، إمام الجامع، مدير فرع التعليم الزيتوني في محافظة قفصة البالغ عدد سكانها نحو 337 ألف نسمة من أصل حوالي 11 مليون نسمة. والتعليم الزيتوني هو تعليم أهلي تقليدي يرجع إلى جامع الزيتونة، وله فروع في أرجاء تونس، وجرى إيقافه بعد الاستقلال البلاد وتأسيس الجامعة العصرية بداية الستينات القرن الماضي، لكنه عاد بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011. ويستدرك فاخت بقوله، في حديث مع وكالة الأناضول: "المرجح هو أن بداية البناء كان عام 70هجري على يد يزيد بن معاوية، قبل أن يتم الإنجاز عام 103هجري". فيما تقول سارة بن حمد، وهي متفقدة في معهد التراث (حكومي)، إن "الأبحاث تفيد بأن تأسيس المسجد يعود إلى القرن الثالث هجري في العهد الأغلبي، ولم نجد ما يدل على سنة تأسيس المسجد تحديدا، وما تم ذكره إلى الآن هو مجرد اجتهادات. وتوضح بن حمد، التي يقوم عملها على متابعة أعمال الصيانة والترميم، في حديث مع وكالة الأناضول، أن "المسجد شهد عمليات ترميم وتحسين في الفترة الحفصية (أسسها أبو زكريا يحي بن حفص في تونس ودامت بين عامي 1229م و1574م) والعثمانية (منذ 1574 م وحتى 1881 م)". و"مع فتح معهد التراث في قفصة قبل ثلاث سنوات تعهد المعهد بالمحافظة على هذا المعلم.. وبالتأكيد فإن الأبحاث التي ستجرى ستؤكد بالتحديد تاريخ هذا المسجد"، وفقا للمتفقدة في معهد التراث. وتشغل قاعة الصلاة قرابة 60 مترا على 15 مترا، وخصص جزء منها كقاعة صلاة منفصلة للنساء وساحة خارجية تستغل صيفا لأداء صلاة العشاء، والتراويح حيت يحل شهر رمضان في فصل الصيف. ووفقا لإمام المسجد، "يجمع المؤرخون على أن الجامع لكبير في قفصة هو ثالث أقدم جوامع في أفريقيا بعد مسجدي عمرو بن العاص في القاهرة بمصر وعقبة بن نافع في مدينة القيروان" التونسية. و"المسجد الكبير" في قفصة مصنف معلما تاريخيا من قبل الدولة التونسية منذ 1 مارس/ آذار 1915، بأمر من الباي (والي عثماني) محمد الناصر باي (حكم من 11 مايو/ آيار 1906 إلى 8 يوليو/ تموز 1922م). ويشكو مترددون على مسجد "سيدي صاحب الوقت" من إهمال يتعرض له المسجد من قبل المسؤولين والباحثين، بحسب منتقدين. أحد هؤلاء الشاكين هو الشيخ الشادلي غلالة، أحد كبار الحي الموجد به المسجد وأحد أكثر المترددين عليه للصلاة، حيث يقول لوكالة الأناضول: "للأسف هذا المسجد لم يلق اهتماما من طرف المسؤولين والباحثين رغم أنه معلم تاريخي شاهد على حضارة إسلامية". في أحد أركان المسجد، وتحديدا الجهة الشرقية حيث كان المحراب الأصلي للمسجد قبل أن يتم تحويله بعد التوسعة، توجد، بحسب مشاهدات مراسل الأناضول، على أحد رفوف الخزانات المهملة مخطوطات نادرة كتبت بخط اليد؛ لكن جراء الإهمال لم يعد باستطاعة القارئ قراءة عناوينها ولا بعض محتوياتها. وتلك المخطوطات تعود الى بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وتتحدث عن السيرة النبوية، وتفاسير أحاديث والقرآن، ومن الصعب التعرف على مؤلفيها لتلف أجزاء منها. توفيق غلالة، وهو مؤذن المسجد الكبير، يقول إن "هذا المكان أصبح روضة قرآنية، وكانت به العديد من المخطوطات لكن تم نقلها إلى جهات غير معلومة.. للأسف لم نجد متابعة لهذا المسجد من الدوائر الرسمية". في أواسط تسعينيات القرن الماضي قامت السلطات المحلية والمركزية بإعادة تهيئة (ترميم) المسجد، لكنها، وبحسب غلالة، "لم تكن وفق مقومات صيانة المعالم التراثية.. فلم يكن البلاط مثلا متطابقا مع الزخرفة الإسلامية القديمة". ويمضى المؤذن قائلا، في حديث مع وكالة الأضول، إن "المسجد أٌغلق أواسط التسعينات حين بدأت عملية ترميمه، ومٌنع الجميع من الدخول إليه.. أعتقد أن عملية التهيئة كانت بحثا عن تحف أثرية للمتاجرة بها، وكان ترميم المسجد غطاء قانونيا لها". ومنذ تأسيس المسجد وضعت أمامه ساعة شمسية، وجاء منها اسم المسجد (سيدي صاحب الوقت)، ويستدل بهذه الساعة على توقيت الصلوات الخمس عبر خطوط العرض والطول التي أقيمت بهندسة رياضية. ومن هذه الساعة جاءت تسمية المسجد ب"سيدي صاحب الوقت"، وهي تسمية شعبية غير مدرجة في الدفاتر الرسمية، حيث كان المؤذن قديما يحترم بدقة وصرامة التوقيت، فيؤذن حالما يدخل وقت الصلاة. وبينما ينظر إلى هذه الساعة، يقول إمام المسجد، الشيخ فاخت، لوكالة الأناضول: "للأسف تمت إعادة تهيئة (ترميم) الساعة بطريقة غير علمية، واليوم أصبحت عبارة عن لوحة تذكارية ليس إلا". وبحسب سارة بني حمد، والمتفقدة بمعهد التراث والمهتمة بالمعمار الإسلامي، فإن "المعهد، ومنذ تأسيسه قبل أربع سنوات في قفصة، مهتم بمتابعة ترميم المعالم التاريخية، لكنه غير مسؤول عن عمليات الترميم التي أجريت قبل ذلك". ويجمع مسؤولون في المعهد، تحدثوا للأناضول شريطة عدم نشر أسمائهم، على أنه "صار خطأ فادح في عملية الترميم، وكان يجب أن تقوم تحت إشراف مختصين، وليس تحت إشراف (شركات) مقاولات خاصة غير متخصصة في مثل هذه العمليات". ويرى المهندس المعماري باسم كحواش، في حديث مع وكالة الأناضول، أن "السلطات المعنية، وخاصة المهتمة بالتراث، تعمل دوما على إقصاء المهندسين المعماريين من عمليات ترميم المواقع الأثرية، وعادة ما تتم إعادة التهيئة بعيدا عن المقاييس العلمية التي تحافظ على جمالية المعمار والقيمة التاريخية، والتي تبقى دليلا للدارسين ومزارا للسائح الأجنبي.. ولا بد من إعادة الاعتبار للمسجد الكبير وترميمه بشكل علمي مدروس". وعلى مثل هذه الاتهامات وغيرها الكثير، يرد القائمون على معهد التراث في قفصة بأنهم ليسوا مسؤولين عن أي عمليات ترميم أو إهمال أصاب مسجد "سيدي صاحب الوقت" خلال الحكومات المتتالية في عهد بن علي (1987–2011).