نحن اليوم فى أشد الحاجة من أى وقت آخر، إلى سبيل يقرب وجهات النظر بين الشعوب، بتعزيزالحوار حول مفاهيم وممارسات وسياسات تقليدية، تضع حدودا فاصلة مع الآخر. و من منطلق رؤية حداثية، يتحررالفكرمن الأنانية وتبنى الجسور لتعميق التفاعل الذى أساسه التعرف على" الذات" من خلال" الآخر " للتوصل إلى قدر من التفاهمات المشتركة،وتحقيق التماسك فى مواجهة التعصب العنصرى،بتدعيم فكرة جدوى التنوع الثقافى فى إثراء الحياة الثقافية وضمان جودتها. وعندما يتجنب الفن القوالب النمطية يهيئ بيئة ملائمة للتغيير الثقافى ، ويفسح مجالاً أوسع للحوار مع الآخر. ومن خلال الفن سوف يصبح ممكناً تعزيز المشاركة، بتبادل وجهات النظر حول أعمال فنية تمثل طرزاً و مذاهب متنوعة، وتنتمى لثقافات مختلفة، إذ لايعانى الناس فى الواقع من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بقدرما يعانون من الواقع الثقافى الذى لم تعالج قضاياه ، وأهمها التنوع العرقى واتساع الهوة بين الجنسين وبين الأجيال ومستويات المعيشة، مما يعوق بزوغ" ثقافة تفاعلية " تستفيد من التنوع، وتعزز الحوارعلى أساس العدالة والمساواة بين مختلف الأطياف،وتدعو للعيش معاً بلا تمييز، بعيداً عن هيمنة من فئة على أخرى، وتشجع على التحديث وتفسح مجالا لأساليب مبتكرة ،تسمح بالتنمية والإبداع.لقد أصبحت مسألة الحفاظ على التنوع الثقافى الذى يمثل تراثا مشتركا للبشرية ، واجباً أخلاقياً، يمكن الالتزام نحوه بحماية التنوع فى أشكال التعبي، وبتدعيم مبدأ التفاعل بالحوار بين الشعوب والعمل على تجديد الثقافة على أساس مبدأ استيعاب "الآخر" والتواصل مع الثقافات والهويات الأخرى. الفن فعل ديمقراطى يمكن تناول الأصول المصرية- الجمالية بهدف توسيع الثقافة البصرية لتصل إلى مجالات أبعد من المنظور الفردى ونحو آفاق "التعددية الثقافية" لتجاوز الموروثات التقليدية . ومن المتوقع تحقيق الفائدة إذا ما أستخدامت مختارات من التماثيل أو الرسوم التراثية التى تصور الإلهة المصرية القديمة"إيزيس" من أجل مناقشة الأفكار المفاهيم التى تجسدهاو الرموز التى تنقلها، على أساس أن فكرة التنوع فى عالم الفن بأشكاله وقيمه وأساليبه، تجلب الفائدة ، كخطوة للخروج من الحدود الضيقة للفهم،ولتجنب القوالب النمطية للتعرف أكثرعلى الذات من خلال الآخر، حينما تبنى جسورا تصل بين الجزرالثقافية المتعددة( العقول والمشاعر والرؤى ) فى متنوعة من حيث الثقافة أو الجنس أو العمر، فتعزز التماسك الاجتماعى وتواجه العنصرية إنطلاقا من مبدأ ممارسة تجربة الفن كفعل من أفعال الديمقراطية. وعندما يتجاوز الحوار الثقافى من خلال الفن النظرة التقليدية وحيدية الجانب تتحول القطعة الفنية إلى ما يشبه المرآة الخاصة التى تعكس ما نحبه وما نخافه وتتوصل إلى التفسير الأكثر اتساعا لتاريخ الفن ولمنتجات الثقافة البصرية على مستوى التعددية. وفى الحقيقة أن الفن هو أحد أشكال التواصل والحوار بين الثقافات .إذ أن اللقاء مع الفن ينطوى على لقاء مع آخر. وفى الغالب أنه بوسع قطعة فنية من التراث الفنى المصرى القديم أن تكشف عن روح الانفتاح على الثقافات الأخرى المتأصلة فى الثقافة المصرية.ويمكن أن يصبح الفن أداة لتعديل القيم السلبية والسلوك الأخلاقى فى ضوء المعايير الإنسانية. إيزيس/ الأم العذراء تبلورت فى الأساطير التى سبقت المسيحية فكرة" الأم العذراء" للاحتفال بهوية الأنثى على أساس مبدا المساواة.بل أنه قد سبقت أسطورة "إيزيس" أسطورة إلهة الخلق القديمة"نيت" Neith غيرأن فكرة الأم العذراء فى ظل الأديان الأبوية استخدمت لتأكيد السيطرة الاجتماعية من الرجل على المرأة ، مما كان بداية لنشاة ذرائع التمييز بين الجنسين.و من المؤكد أن هذه المسألة تهيئ لفتح نقاش حول أسطورة ولادة العذراء فى إطار مفاهيم معاصرة،مثل فكرة قوة"إيزيس"التى تتمثل فى حبها و سحرها وقدرتهاعلى الشفاء و تجديد الحياة. وما يجعل الحوارأكثر فاعلية هو أن يراعى فيه ان يستدعى الذكريات ، وأن يمس االعاطفة نحو القطعة الفنية ، حتى يشعر المشارك فى الحوار، بأنه يشكل جزءاً من حياته الخاصة ، وكذلك يدفعه لإعادة النظر فى مفاهيم تقليدية ،بناء على أفكار جديدة.أما حقيقة انتشار عبادة "إيزيس" بين العديد من الشعوب التى تعيش فى مناطق مختلفة،فتشهد على حيوية الثقافة المصرية وعالميتها . إيزيس لحاء الحياة وعبر الحوار تتكشف حدود الإمكانات الإبداعية والمفاهيمية التى تختفى وراء الصور. تفسير طبيعة الإلهة الإنثوية فى مصر القديمة ، وما يحيط بها من ألغاز بالنسبة لنا اليوم، وصورها المجسدة فى النقوش التى بقت عبر التاريخ، وظلت غنية بالمعرفة عن واقع اللحظات الفائتة ،وتقدم مفاهيم حول حقيقة النساء المصريات . وتتحقق الثقافة البصرية الهجينة فى تماثيل "إيزيس "التى أنجزت خلال العصر العصر الإغريقى-الرومانى . فقد كان لغزو الإسكندر عام 332 قبل الميلاد، والتوسع فيما بعد للإمبراطورية فى عالم البحر البيض المتوسط دورا كبيراً فى تعزيز شعبية عبادة "إيزيس" وجذبت عبادتها المعاصرين من الطبقات الشعبية فى روما القديمة، الذين تحمسوا لتبجيلها بسبب أسطورتها التى تدور حول موضوع" البعث" الذى يعتبر الأصل لكل العبادات التى تقوم على أساس قوى الطبيعة ، ومن مظاهرها دورة الحياة الموسمية.فكانت" إيزيس " التى ذكرت فى نصوص معبد" سيتى الأول" بأبيدوس بأنها"العذراء العظيمة" هى كذلك العنصرالأول لكل شئ، بمثابة "لحاء الحياة "واالرطوبة التى تحافظ على الطبيعة، وتجدد قوتها بترطيبها لكائناتها من بشر وحيوانات ونبات، فتقيها من لهيب الشمس،وتبقى على الضوء -الذهب الروحى وجوهركل حياة.وبينما قوتها تأتى من إنعكاس أشعة الشمس عليها فإنها فى نفس الوقت تمثل الرطوبة ،ويذلك امتلكت سر الحياة والقدرة على تجديدها. وهى التى اتخذت شكل الصقر ،حينما رفرفت بجناحيها فوق جثة زوجها" أوزيريس" لترسل إليه الرياح حتى "يتنفس الحياة" فى الآخرة.هكذا بلورت فكرة أن الموت هو الولادة الثانية فى الآخرة. إيزيس/العذراء مادونا وفى الحقيقة ان موقف الثقافة الرومانية فيما يتعلق بالأديان كان توفيقيا ،إذ رأوا فى الأديان الجديدة مجرد مظاهر محلية للديانة الأصلية ، لذا ليس غريبا أن يطابقوا بين " إيزيس"المصرية والإلهة اليونانية " ديميتر" Demeter أخت" زيوس" المسؤولة عن الحصاد. وقد عثر على تمثال من المرمر ل"إيزيس" فى مقدونيا يرجع للقرن الثالث قبل الميلاد.و من هذا المنطلق أنشئت المعابد فى أنحاء مختلفة من أفريقيا أوروبا وآسيا ، كما أصبحت عبادة" إيزيس" فى روما النموذج لعبادة العذراء مادونا، حيث كانت هناك ضرورة لإشباع الجانب الروحى تعويضاً عن الشعور بالتفكك. وكانت الديانات الشرقية قد بشرت بالمسيحية . وتشاهد صور "إيزيس" على جدران المعابد فى النوبة فى العصر المروى (المملكة الكوشية) والتى عاصرت فى مصر دخول الإغريق والرومان ، فكانت مبجلة لاعتبارها " ملكة السماء".وظلت عبادة "إيزيس" بين النوبيين حتى عهد الإمبراطور جستنيان فى القرن السادس الميلادى، رغم انتشار الديانة المسيحية فى مصر.وكانت المناظر التى تصور"إيزيس" ترضع طفلها "حورس" هى التى أوحت بصورة "العذراء والطفل" الشائعة فى الفن المسيحى. ولوضعية تمثال"إيزيس ترضع حورس" (محفوظ بمتحف اللوفر فى باريس) بعداً رمزياً ، حيث تطوى إيزيس ذراعيها وتسند بيدها اليسرى رأس إبنها حورس الجالس عاريا وقدماه متدليتان ،وكذلك تمثيل عملية الرضاعة جرت لتحقق غاية رمزية تدل على فكرة الأم التى تفانت فى حماية إبنها "حورس" من بطش"ست" الذى جعلها تلجأ للهرب بين الحراش. والمعنى نفسه يعثر على ترديد له فى قصة هروب "العذراء" ورضيعها"يسوع"إلى مصر لإتقاء بطش "هيرودس"(ملك اليهودية). إيزيس الشرق/الغرب وتظهر " العذراء" (1410)فى التمثال المحفوظ فى متحف الفن القوطى ،كشابة تحنو على طفلها "المسيح" تأكيدا على المحبة الإنسانية وعلى الأمومة، بدلاً من الالتزام بالتقليد الذى كان يصورها كملكة للسماء. وفى الفن القوطى"قد بذل الفنان الجهد فى محاولاته لمحاكاة الطبيعة فى تصويره للشخصيات التى تضمنت موضوعات الكتاب المقدس "ومنذ القرن السابع الميلادى، انتشرت عبادة "العذراء" فى الغرب الأوروبى، بفضل تمثيلها لفكرة الشفاعة من أجل خلاص البشرية، على الرغم من انتشار المسيحية فى منطقة البحر الأبيض المتوسط . وبتأمل لوحة "لعذراء والطفل" التى رسمها الفنان الإيطالى"دوتشو " Dccio(1250-1319)(سيينا،1300) بجمالها الفريد والمبتكر يلاحظ المشاهد كيف أنها تحتفل بفكرة " الأم الإلهية" وهى كذلك تكشفت عن مقدرة الفنان على صنع صورة رمزبة لشخصية إلهية بروح إنسانية جديدة، جاوزت التقاليد القوطية المبكرة ،فى اتجاه الإسلوب الذى يبرز حميمية العلاقة بين الأم وطفلها.و قطعاً تشير الصورة التى تحمل فيها "العذراء" طفلها على ذراعها الأيسرمع الإيماءات نحوه، إلى الطريق نحو الخلاص . وليس هناك شك أن هذه الصورة تستدعى فى الذهن تمثيل "إيزيس" وهى ترضع إبنها "حورس" فى إبداعات فنية أخرى تجسد الموضوع نفسه (عاطفة الأم ) بأساليب تعبير مختلفة. ويمكن استخلاص دلالة" العذراءوالطفل" متمثلة فى التعبير قيم أخلاقية مثل "الفضيلة" بتشكيلات فنية متنوعة ،وللتوصل إلى الفهم الأكثر عمقا من خلال الحوار يتطلب الأمرتجاوز الفهم الحرفى والحدود الزمنية والجغرافية والمادية. ليس هذا فقط بل يمكن مناقشة مثل هذه الأعمال الفنية مع أشكال عديدة أخرى موضوعها "الأم الإلهية" مثل تمثال "إيزيس وطفلها حورس" الذى هو نتاج ثقافة شرقية مختلفة عن ثقافة الغرب، ليصبح الحوار مشتركاً بين ثقافتين كسبيل لخلق ثقافة فنية وجمالية حوارية،اعتماداً على جذورمشتركة . وكانت صورة" إيزيس" المصرية قد انتقلت فى مخيلة الفنانين إلى صورة" العذراء" مثلما كان اعتناق المصريين للمسيحية نتيجة لتطابق فكرة الأمومة بين"العذراء مريم" و"العذراء إيزيس" .بل ان فكرة العذرية المرتبطة بإلهات فكرة أصيلة. الحوار مفتاح الحقيقة وإذا كان الغرض من أى حوار هو التوصل إلى الفهم الواضح، فإن تمثال" ايزيس والطفل حورس" يحمل مفتاح " الحقيقة" إذا ما جرت مناقشته ضمن أعمال أخرى كثيرة ،وكتابات واسعة النطاق ، تسمح بتحليلها و بإعادة تتقييمها فى ضوء النظريات الحديثة للفن ، ومن خلال سياقات أخرى، للتوصل إلى اكتشاف التعبيرات البصرية المماثلة و التى يمكن أن تتضمن المعانى المختلفة أو المتباينة.إن شخصية "حورس" ترمز لفكرة" النور" الذى يسحق "قوى الظلام "فيخلص البشرية. و يمثل عيدالفصح ولادة الشمس عند الانقلاب الشتوى وكأنها رضيع ،مثلما تولد كل صباح.وكذلك"حورس"إله الضوء مثل الشمس التى بزغت من زهرة لوتس ،بل ان حورس يمثل إرتفاع الشمس. والشمس هى التمثيل الرمزى لحيوية الطبيعة ،أما إيزيس فهى المعرفة والذكاء ،وقد اكتسبت قوة الشمس ،و تاجها الذى اتخذ شكل كرسى العرش يشير إلى حضورها الإلهى المقدس ،فهى الطبيعة التى تضمن وصول قوة الشمس والقمر للبشروالحيوانات والزرع، ولكل شئ فتنعشه. وما يقابل تاج "إيزيس" هو الهالة التى ترمز لقداسة الشخصيات المسيحية.كما أن للشمس ثلاثة خصائص الحياة والضوءوالطاقة، وتنشط العوالم الثلاثة،الروحية والفكرية والمادية ،و تمثل فكرة" العذراء الأم" مفهوماً دينياً قديماً سبق الكتاب المقدس . والثنائية المتعارضة بين القطعة الفنية والواقع الأسطورى يفسر القيمة الجمالية والرمزية ل "التحفة الأبدية"والفكرة التى أضيفت إلى الموضوع المادة والزمن،ويحل التشابك فى بناء المعانى والحقيقة المراوغة المتضاربة بين البصرى والمفاهيمى ، وبين العقلى والعاطفى.وفى كل الأحوال يخلق توقعا للاشباع الفورى والإدراك للقيم الشكلية .أما فك الرموز الثقافية المعقدة فيتطلب تحليلاً لما وراء السطحى، لتوضيح المحتوى المتعلق بالأسطورة التى تتمحور حول دورة الشمس التى ستشهد عودة أوزيريس إلى الحياة ، وعين الشمس هى أول شئ يقع على الجبل...،وعندما تنير الشمس الجبل فإنها تسبغ عليه شكلاً واحداً ،وهذا التشكيل الأول هو ميلاد جديد يشبه الطريقة التى تخطر بها الفكرة فى ذهن الفنان." ان أعمال الفن تكشف الواقع فى نفس الوقت الذى تقر فيه التفسير الأسطورى للحياة ،ومن الإثنين نتوصل للمعنى.