صغيرا.. كانت حياتي دائما في خطر.. ما كان يجب أن أحيا.. وإن حييت ما كان يجب أن أخُلص بجسدي سليما.. وإن خلصت.. ما كان لي أن أكمل تعليمي في المدرسة.. لأكون ما أنا عليه الآن.. "لا شيء" كان مولدي في رحاب "عرب المحمدي".. تلك المنطقة التي أزالها الرئيس الراحل من الوجود.. وكان يطلق عليها لقب "العشش".. لم تكن ذاكرتي تتذكر "عشش".. فكان بيتنا.. من الأحجار الكبيرة متعدد الطوابق.. أتذكره حينما أشاهد أفلام "الحارة" القديمة.. عقب "القرار الساداتي" انتقلنا في فترة انتقالية إلى "الجبل".. أو ما بعرف ب"منشية ناصر".. ما زالت ذاكرتي تحمل منظر "أثاثنا" القليل الملقى في الشارع بحثا عن مكان.. نتدفأ فيه.. جدتي وأمي وخالي وأنا وشقيقي الأصغر الذي كان رضيعا على يد أمي وقتها.. كان أبي رحمه الله.. مغادرا في بلاد الزيت.. يبحث عن لقمة العيش.. ابتعد كي يقترب.. غادر لكي "يمكث معنا". حللنا ضيوفا على أحد "الكرام" الذي لم يتهدم بيته.. وإن لحق ببيتنا فيما بعد.. لليلة.. انتقلنا بعدها إلى الجبل.. منزل صغير لا يتجاوز 60 مترا بني في الجبل.. كنا نصعد عشر دقايق كاملة لنصل إليه.. نصفه مبني في أرض مستوية.. ونصفه الآخر فوق "صخرة" .. حوائط فقط.. فوقها "سقف" من الخشب.. تتساقط منه حبات "المطر" في الليالي الشتوية.. لتيقظ أخي الرضيع باكيا.. فتأخذه أمي في حضنها.. لتجعل من "ظهرها" سقفا يحميه من مياه المطر. فوق الجبل.. بدأت شخصيتي في التشكل و"الوعي".. التحقت بكتاب الشيخ "عبدو الرحمان" هكذا كنا ننطقها.. وكنت أسمعها.. كان رجلا طاعنا في السن.. نحيل الجسد.. حتى تظن أنه لا بعد نحوله "نحول".. يرتدي جلبابا شبيه بلون بشرته البنية.. وعلى رأسه "عمة" بيضاء ملفوفة بالطريقة الصعيدية.. كان من "سوهاج" وهي المحافظة التي لها نصيب الأسد من سكان الجبل.. كنا نهابه.. ونخشى "خرزانته" التي يحملها.. وفلكته الموضوعة جواره.. كان حسن الصوت.. كأنه أوتي مزمارا من "داوود". توجهت "أمي" بي إلى الشيخ عبدو الرحمان.. بعد شريط تسجيل.. أرسله مع أحد العائدين من "السعودية".. ظل معنا لأكثر من ثلاثة أيام.. لعدم توفر "المسجل" الذي منّ الله علينا به استعارة من أحد أقاربنا.. انساح صوت "أبي" يلقي علينا التحية.. وحديث اللوعة والشوق.. ويطلب الصبر.. وتوصية: "محمد" كبر.. لازم يروح الكُتاب.. اللي "حوصل" معانا مش عايزينه يحوصل معاه.. مش عايزين نعيد تاريخنا.. يتعلم.. ينفع نفسه.. وممكن ينفعنا.. روحي بيه للشيخ "عبدو الرحمان".. والباقي على الله". في لقائي الأول به.. وأنا أحتمي بيد أمي.. استقبلني باشاً.. أهلا بالشيخ ابن الشيخ.. "الخالق الناطق أبوه بس أوحش شوية".. قادني من يدي.. ووضعني في الصف الأول لأجلس متربعا جوار أطفال بعضهم في سني وأغلبهم أكبر مني.. في اليوم التالي انتقلت لنهاية الغرفة.. كنت "شديد" الخوف.. لكن حنو "مولانا" شجعني.. تناولت منه وجبتي القرآنية الأولى.. أول ما تعلمت: "قل هو الله أحد.. الله الصمد.. لم يلد ولم يولد.. ولم يكن له كفوا أحد" وما زالت سورتي القرآنية المفضلة. كان مولانا "عبدو الرحمان" يحفزني" ويشجعني على الحفظ.. أمر آخر كان له مفعول السحر في تفوقي.. مشاهدتي عقاب غير الحافظين.. كان بعضهم يعاقب بأذنه.. فيضع مولانا "شحمة أذنه" بين نواتي بلح.. يحتفظ بهما في جيبه.. ويضغط علي أذنه بهما.. كان ذلك تحذيرا.. أما العقاب الحقيقي.. فكان "الفلكة".. كان نواتا البلح يسببان "أهات" و"أيات" جمع أي أي أي.. أما "الفلكة".. فكانت تنتج صرخات ودموع تستمر حتى بعد النزول عنها. عصاتان من "الخرزان".. مرنتين.. يزيد طولهما عن طول "المفلوك".. يلتقيان عند الطرفين.. يوضع في منتصفهما قدمي المفلوك من فوق "الكعبين".. يربط مساعدوا "مولانا" من الأطفال الأكبر سنا طرفاها بحبل في كل جهة.. لتكون "كماشة" على القدم.. وتوثق اليدين خلف الظهر.. وأحيانا يمسكها اثنين من مساعدي مولانا.. وغالبا توضع بين كرسيين خشب.. يتكور جسد "المفلوك" وينزل "مولانا" بخرزانته على بطن القدم.. كان البكاء يبدأ مع إعلان نية "الفلك". كان بعض الأهالي يأتون ليعودوا بأبنائهم إلى المنازل.. كانوا أحيانا يجدوا أبنائهم يبكون.. ويمسكون باطن أقدامهم.. كان رد الفعل.. فرح وابتهاج: أحسن.. لو كنت حفظت ما كانش فلكك الشيخ "عبدو الرحمان". كانت "أمي" بارك الله في عمرها.. تحرص دائما على إيفادي وإرجاعي.. إلا مرة واحدة.. انشغلت عني فعدت بمفردي من "الكتاب" والتقيت "ابن خالتي الأكبر" الذي كان يغادر الجبل.. ويعبر الحدود.. كانت الحدود وقتها.. شريط قطار.. ما زال موجودا.. رغم توقف القطار عن المرور.. تتبعت ابن خالتي الأكبر.. لرغبة في استطلاع المجهول.. كان ينهرني.. ارجع ارجع ويختبئ مني.. حتى وصلت لحدود الجبل السلفية.. رأيته يمر عبر شريط القطار.. خفت أن اتبعه.. حاولت العودة.. "تُهت".. وعلا بكائي.. والتفت إلي أحدهم.. كان سمسار لعصابة تسرق الأطفال.. أو تخطفها أو تبحث عن "التائهين" ليعملوا لهم.. وقعت بين براثن عصابة الأطفال.. للحديث بقية