سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه.. استقرار العملة الأمريكية    إيقاف تأشيرة عمرة ال«B2C» للمصريين بعد أزمة حج 2024 (خاص)    قانون لحل مشاكل الممولين    جوتيريش: وقف إطلاق نار الحل الوحيد لإنهاء الأزمة في غزة    بوتين: سنواصل تطوير ثالوثنا النووي ضمانا للردع الاستراتيجي    قطر: الفجوات قائمة بشأن وقف إطلاق النار في غزة رغم التقدم في المحادثات    من «الضفة الأخرى».. داليا عبدالرحيم تكشف مخاطر صعود اليمين المتطرف بأوروبا وعبدالمنعم سعيد يصفهم بالنازيين الجدد    حقيقة لجوء الزمالك للمحكمة الرياضية لشكوى اتحاد الكرة ورابطة الأندية (خاص)    طلائع الجيش ينهي استعداداته لمواجهة سموحة في الدوري    موهوب ريال مدريد على رادار ليفربول بفرمان سلوت    الأولمبية تمهل مجلس النصر أسبوعاً للرد على الشكاوى    مفاجأة جديدة حول مشاجرة «إمام عاشور».. زوجته لم تبلغ عن تعرضها للمعاكسة    مطروح تغلق الطرق إلى الشواطئ المفتوحة أمام المصطافين    رسميًا.. ولاد رزق القاضية الأعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية    24 شهيدا و47 مصابا فى استهداف الاحتلال خيام النازحين فى المواصى برفح الفلسطينية    أفتتاح مسجد العتيق بالقرية الثانية بيوسف الصديق بالفيوم بعد الإحلال والتجديد    البنتاجون: يحق لأوكرانيا استخدام الصواريخ الأمريكية طويلة المدى لضرب أهداف داخل روسيا    النفط يتجه لتحقيق ثاني زيادة أسبوعية وسط تفاؤل بشأن الطلب    بيان عاجل للحكومة بشأن وفاة مئات المصريين في الحج    التصريح بدفن جثة شخص لقي مصرعه أسفل عجلات القطار بقليوب    افتح الكاميرا وانتظر السجن.. عقوبة التقاط صور لأشخاص دون إذنهم    شروط التقدم للمدارس الثانوية الفنية لمياه الشرب والصرف الصحي لعام 2024 / 2025    سعاد حسني.. حياة حافلة بالحضور الطاغي ورحيل غامض أثار التكهنات    البطريرك مار أغناطيوس في منزل القديس جان ماري فيانّي بفرنسا    المفتي يستعرض عددًا من أدلة عدم نجاسة الكلب.. شاهد التفاصيل    الأرز الأبيض.. هل يرفع احتمالات الإصابة بداء السكر؟    غدا، مكتبة مصر العامة تناقش كتاب «مسيرة تحرر.. مذكرات محمد فايق»    يورو 2024.. ليفاندوفسكى على مقاعد البدلاء فى مباراة بولندا ضد النمسا    شركة إنتاج فيلم Megalopolis ترفض تسويقه بسبب اتهامات التحرش    مدير الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب: لقاء الجمعة تربوي وتثقيفي    في حال التصالح، هل يعرض إمام عاشور على النيابة في واقعة المول بالشيخ زايد؟    الزمالك يشارك في دوري الكرة النسائية الموسم المقبل    التضامن تطلق النسخة الثانية لمبادرة "الأب القدوة"    السمسمية تختتم احتفالات قصور الثقافة ببورسعيد بعيد الأضحى    محافظ الغربية يتابع الحملات المستمرة لإزالة التعديات على الأراضي الزراعية    الأمم المتحدة: عددا من الأسر فى غزة يتناولون وجبة واحدة كل يومين أو ثلاثة    مطاي تنفذ مبادرة خفض الأسعار للسلع الغذائية في منافذ متحركة وثابتة    الداخلية تحرر 169 مخالفة للمحلات غير الملتزمة بقرار الغلق خلال 24 ساعة    استشهاد فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية    أول تعليق من الأب دوماديوس الراهب بعد قرار الكنيسة بإيقافه عن العمل    وزير الأوقاف: تعزيز قوة الأوطان من صميم مقاصد الأديان    ما مصير جثامين الحجاج المصريين «مجهولي الهوية»؟.. اتحاد المصريين بالسعودية يكشف (فيديو)    «قوة الأوطان» موضوع خطبة الجمعة المقبلة    وكيل صحة الشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى الصدر بالزقازيق    تركي آل الشيخ يرصد 60 مليون دولار لكأس العالم للرياضات الإلكترونية    بعد الإطاحة به من المنافسة.. خيبة أمل تصيب صناع الفن بعد تذيل أهل الكهف الإيرادات    مدير آثار الكرنك: عقيدة المصري القديم تشير إلى وجود 3 أشكال رئيسية للشمس    أحمد مات دفاعا عن ماله.. لص يقتل شابا رميًا بالرصاص في قنا    أزهري يوضح أضلاع السعادة في الإسلام    استشاري نفسي يقدم روشتة للتخلص من اكتئاب الإجازة    أمين الفتوى محذرا من ظلم المرأة في المواريث: إثم كبير    طريقة عمل ميني بيتزا، سهلة ومناسبة لإفطار خفيف    وزير الإسكان: جار إنشاء الطريق الإقليمى الشرقى حول مدينة أسوان وتوسعة وتطوير كورنيش النيل الجديد    الحرارة تصل ل47 درجة.. بيان مهم من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم الجمعة (تفاصيل)    تعليق مثير من ليونيل سكالوني بعد الفوز على كندا في كوبا أميركا    نماذج استرشادية لامتحان اللغة العربية لطلاب الثانوية العامة 2024    عاجل - "قطار بسرعة الصاروخ".. مواعيد وأسعار قطارات تالجو اليوم    حلمي طولان يناشد الخطيب بطلب شخصي بخصوص مصطفى يونس.. تعرف على السبب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تصاريف الأقدار مع أبناء البلدة الطيبة .. رحلة بين زمنين
نشر في محيط يوم 18 - 09 - 2014


الطبيعة تسبح مع أوراد الشيخ في بلدة العثمانية
التحديث حين يطل على بدو الصحراء كشبح يهدم صرح الذكريات
من "تحدث في الحكومة" ذهب وراء الشمس! .. حكمة عربية
سر ضريح الشيخ الذي افتدى بلدته من بطش السلطان
مسجد مضيء .. بيوت موحشة .. وأبطال بدلتهم أقدارهم
"حين لا يبقى شيء من الماضي، وبعد فناء الأشخاص وتحطم الأشياء وتبعثرها، تبقى الروائح والمذاقات بعدها ترفرف كالأرواح لمدة طويلة، حاملة بمرونة داخل قطرات جوهرها المتناهية الصغر صرح الذاكرة الهائل" .. ربما تلك الذكريات البعيدة عن سكان بلدة العثمانية بشبه الجزيرة العربية، هي التي خاض الروائي السعودي عبدالله الوصالي تخومها في رائعته "أقدار البلدة الطيبة" ، مستدعيا ما كتبه سلفه مارسيل بروست الروائي العالمي .
هل يمكن أن يصوغ الأديب مصائر الآخرين حين يكتب عن أشباههم في روايته؟ يتساءل الكاتب، فقد جرى ذلك فعلا في الواقع معه، وكاد جسده ينتفض ، ولكنه فضل الذهاب بباقتين من الورود لصديقين في قبريهما ، حيث الزهور هي اللون الوحيد النابض بالحياة والذي يمكن أن تدركه الأرواح الهائمة في فضاء المقبرة
الكاتب يتمسك بكل ما هو إنساني يلتقطه في زحام الأحداث اليومية أو أيام الأجداد في أوائل القرن العشرين، ويمتلك ببراعة ناصية اللغة ، تأتيه المفردات التراثية عذبة بلا تكلف تتجول رشيقة بين ثقافات زمنية ومكانية رحبة ، كما يبدو احتكاكه العميق بالتراث العربي والإسلامي ..
سنذهب لشيخ العثمانية ، سليل القائمين على الوقف العثماني وراعي قريته، وهو يتلو ورده في خشوع وقت السحر بينما يجلس في باحة المسجد يتنفس عطر زهور ويستمع ارتعاشات سعفات النخيل وصوت فرار هوام أرضية كانت تسترق السمع .. يجاهد في مناجاته لله ليمنع نفسه من تذكر أحداث "الجار المؤذ" والذي استتبعه انفلات الأمن وسفك الدماء وفساد عظيم منذ بسطت الخلافة سلطانها على المنطقة وما حولها لقرون .. لقد نما إلى علمه أن سلطانا مهيبا قادما من الوسط لاستعادة ملك أجداده من جزيرة العرب، أراد أن يخضع البدو المتمردين على دفع إتاوة الجهاد التي يفرضها على كل من لا يستجيب لنداء القتال إلى جانبه .
فكر الرجل في أن يستقبل السلطان الغازي ليحل عليه ضيفا، رغم أنه يعلم أن " مصاحب السلطان كراكب الأسد، الناس تحسده وهو أعلم بموضعه " . وبصحبة الشيخ سنتعرف على الفارس "التميمي" شيخ قوي الشكيمة يكاد يكون مصدر الإفتاء الوحيد بالقرية، وتنشأ راحة متبادلة بين الشيخ والسلطان تمهد لسماح الأخير لأهالي العثمانية بأن يحافظوا على حيادهم التاريخي، خاصة وأنهم ليس لهم ثأر مع غيرهم ، نظير دفع الفدية للسلطان وحمايتهم ، وسمى من وقتها بعام الفدية، ولم يكن له ثمة عيب سوى أن وصم أبناء العثمانية بالجبن من بعده .
وتتناول الرواية مقطعين زمنيين دالين على أثر الانفتاح الاقتصادي على المنطقة العربية ككل، وشبه الجزيرة بشكل أخص، فترى تصوير لبدايات القرن العشرين حيث جيل الآباء، ثم حقبة الستينات حيث جيل الأبناء .
أما المكان فيحتل مساحة بارزة من الرواية، فالعثمانية التي كانت شامة خضراء في مفازة من الرمال، سكنها أهل البادية، وبنوا دور أعيانهم الشاسعة قريبا من مسجدها الضخم وبستانها.. وهي بقعة كيان يقع إلى الجنوب من شرق جزيرة العرب، وقيل أن أول من بنا مسجدها وأوقف بستانها ومقبرتها لزوجته التي قضت نحبها على يد جمل أهوج، وكان رجلا تقيا سخيا يدعى عثمان.
أزقة العثمانية تشبه جهاز الإنسان الهضمي، لها فم ومريء وساحة فسيحة يلعب فيها الأطفال، هؤلاء الذين يستدلون على الوقت بالشمس، كما الطير تماما .
سنجد بين أبطال الرواية نماذج متنوعة، فهناك "رشدي" ذلك المعلم المتغطرس القادم من مصر والذي يبث الرعب بنفوس طلابه البسطاء، أما البطل الراوي فهو "سمير" ، وهو لا يتحدث كثيرا عن نفسه، بقدر ما يراقب تصاريف القدر في رفاقه، بعضهم ك "محسن" متمرد يترك الدراسة رفضا لقيود صارمة تفرضها عليه، ويصطحب معه كلبيه "سويد " و"حمرين" ثم يصطاده مسن يدعى "الحنطي" ويعيشان حياة بائسة بين المقابر ، يخبرون فيها السرقة والقتال وما سواها من معارك تفتعل مع أبناء البادية .
"فريد" الذي سيغير اسمه تبرؤا من ماض يريد نسيانه في العثمانية، سيندرج بجامعة حكومية خارج بلدته، لقد ظل معتقدا أن أبيه هو الرجل المهيب ذو البزة العسكرية الأنيقة في صورة تعلو حائط حجرته، لكنه وبعد أن عاد الأب من سفره البعيد سيصدم بأن أبيه كان معتقلا لأنه "تكلم في السياسة" ..
لقد اعتقل والد فريد في ليل بهيم 1964م ، ضمن اعتقالات السلطة ضد أتباع القوميين الناصريين، لقد علا آنذاك صوت بعض المتعلمين ضد الأوضاع السائدة، لكن الحزم الذي جوبهوا به كان صارما ..
ولطالما حلم "سمير" بأبي صاحبه ينشد :
السجن قارض للأعمار ،
يوقف نهر الحياة ويسمح للأجساد أن تشيخ،
سره البغيض يكمن في تشابه أوقاته،
فالاعتياد ألم"
تلقي الرواية الضوء على الخوف التقليدي لدى أبناء البدو من أي بادرة للتحديث والتغيير، فقد عزمت السلطة على بناء طرق جديدة وشبكات للصرف، وكان ذلك يعني بالنسبة لأهل العثمانية إما نهب الثروات البترولية الكائنة بباطن الأرض أو إجبارهم على ترك ديارهم التي طالما سكنوها. ويعبر "الوصالي" عن تلك الفجيعة في قطع النخلات الممتدة بجذورها لعمق الأرض، وتأثير ذلك على أطفال العثمانية الذين طالما سمعوا أجدادهم يقولون أن النخلة تصرخ حين تهوي داعية على قاتلها بالويل!
لكن البيئة في العثمانية بدأت بالفعل في الفساد بفضل سوء شبكات الصرف عموما، ما أدى لحالة غزو شاملة للفئران الكبيرة لكل شبر بالقرية الوديعة، وزحفت المياه الملوثة بدورها لكل المباني، ما استلزم تنظيف البئر العميقة التي تذهب بالماء المتجمع إلى باطن الأرض، وكان ذلك سبب رحيل اثنين من رجال البلدة، بينهما والد الطفل فيصل الذي مات غرقا في مياه الصرف الآسنة التي تبعث رائحة الحمأ الداكن، وكان يحلم أن يكون غواصا كوالده يصطاد اللؤلؤ ؛ لكن الزمن كان لحلمه بالمرصاد ، خاصة وأنه رغم عوزه كان يستحيي من سؤال شيخ المسجد عن إمكانية أخذ نصيبه من مال التثمين ومشروعات الحكومة ، في حين أن الشيخ يؤكد مرارا أن الطمع في مال الدنيا مقيت!
بالطبع ، تتجول الرواية بين تقاليد تلك المجتمعات من تبرك بأولياء الله، حتى الدجال منهم، والخوف من الاقتراب من ضريح الشيخ القائم بعدما توفي حتى أنهم بنوا جدار سميكا يمنع السلطان من معرفة أسراره ..
وبعد ثلاثة عقود ، وحين يكون "سمير" في طريقه لعيادة صديق الطفولة "محسن" لشدة مرضه، يبرق شريط الذكريات ، ويروي "محسن" حكاية "الحنطي" الذي سرق اثنان من اللصوص نعزته، وكان بالسوق يتكسب ببيع اللبن، وسيكتشف أن أحدهما شقيق محبوبته الرائعة "جهير" والتي حلمت معه يوما في أن تستحم بمياه العثمانية وتطرز شعرها بورق الريحان والورد الأحمر! .. ضاع الحلم وتحول الحنطي لشخص قاس يمتهن هو نفسه السرقة والإكراه، حتى أنه ذات يوم سيحاول قتل ذراعه الأيمن "محسن" ..
لم تكن تلك الحكايات من باب التندر، فقد وعاها سمير برعشة ووجل، ولم لا ، وهؤلاء : محسن والحنطي، شكلا له في عالم الطفولة نماذج التمرد على التقاليد الصارمة القاسية ..
سيرحل "محسن" بسرطان الكبد، والذي ربما ساقته إليه حادثة وقعت بالطفولة حين كانوا يلعبون بقرب المستشفى فوخزته إحدى الإبر الملوثة هناك ..
لماذا حين نكبر تتولد لدينا رغبة في البحث عن الحكايات الناقصة ؟ تلح الذكرى الآن على الراوي بصورة أكثر حدة، سيرى في عزاء صديقه، ثالثهما : فيصل، والذي امتهن التجارة وصار ميسورا ولكنه لم يكمل تعليمه .. لم يخبره أحد بأن أباه مات ميتة بشعة في مصرف مسموم، برغم أن البئر كان يستعد للردم ضمن أعمال الطريق الجديد .. أما ابنه فكاد يموت عند مقبرة الشيخ أو ضريحه بمعنى أدق .. سيتذكر الراوي أيضا قوانين بلدته الظالمة التي أجبرته على الزواج ممن لا يحب ..
حين يسير "سمير" بين طرق بلدته القديمة، تصادفه بيوتها الموحشة بلا أبواب وشابيبكها دون درف أشبه بأفواه تجمدت في لحظة صراخ ولى في الفضاء، تماما كالهاويات من النخيل في ذلك الزمن .. سيقترب من المسجد كان صحن المسجد على نفس اتساعه منورا بأنوار بيضاء على ضوئها تظهر زخات المطر الساقط من السماء، وقد لاحظ العبث بالجدار الجنوبي السميك المغلف للضريح!!، ورأى المصلين في الرواق المسقوف يخشعون رغم المطر .. عاد سمير في اليوم الذي شم فيه الرائحة الزكية القديمة .. سيرى بينهم فريد بلحيته الطويلة وشماغه الذي يذكر بأجداده من بيت القائم العريق ذوي البشرة البيضاء .. ثم ينظر لعبارة أثيرة مكتوبة بالجص "يهب المقدس كنوزه إلا لمن يؤمن به " ..
* الرواية صدرت عن دار "كفاح" للنشر والتوزيع، وأهداها صاحبها لتلك الأرواح التي ترفعنا ليبصرنا الأخرون ، ويخص صديقه الكاتب أنور علي . أما المؤلف عبدالله الوصالي، فهو أديب وناقد، إلى جانبه كونه مشرفا طبيا، ونائبا سابقا لرئيس نادي المنطقة الشرقية الأدبي. وقع الاختيار عليه مؤخرا للاشتراك ببرنامج الكتابة العالمي بجامعة "ايوا" الأمريكية، وله مجموعات قصصية وروايات بينها "بمقدار سمك قدم" ، "وميض الأزمنة المتربة" وجميعها تعكس الرغبة في جمع الأصالة والمعاصرة ونبذ القيم المتخلفة بالمجتمع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.