"عواد" يسأل ربه الابتلاء والثواب .. ويفقد أسرته كاملة قدم "علي" تسبقه للجنة .. وحلمه بالهندسة ينتظره "ضياء" المسعف البطل .. و"زكريا" طفل ينجو بأعجوبة فرحة محبي "إياد" بنجاته من الحروق المهلكة .. "عماد" يدعو بنصرة فلسطينوسوريا . . والخير للمصريين الطيبين "قوافل السعادة " ترسم الابتسامة على وجه الفلسطينيين آلاف الشهداء والجرحى والمشردين واليتامى والثكالي .. هي أرقام اعتدنا قراءتها في صباحات الأيام الماضية منذ بدأ العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، والذي وصف بأنه أحد أسوأ مجازر العصر الحديث خاصة وأن نسبة الأطفال فيه كانت مرتفعة جدا .. لكن الأرقام الجوفاء لا تنقل قصة كل فلسطيني .. كيف تهدم بيته وماذا كان حلمه .. من بقي من أسرته .. وكيف ينظر لغده ؟ .. إنها شهادات من شاهدوا أهوال الانفجارات لكنهم ظلوا مع ذلك متمسكين بقضيتهم وأرضهم وقدسهم.. وكانت النتيجة أن المقاومة الباسلة لقنت إسرائيل درسا لن تنساه واعترفت تل أبيب قبل عواصم العالم بأنها تورطت وخسرت الحرب تجولت «محيط» ببعض المستشفيات التي يتلقى بها الفلسطينيون العلاج، وكان ذلك بصحبة الباحث باسم الجنوبي مؤسس حملة "ثقافة للحياة" والتي نظمت "قوافل السعادة" وحملات التبرع بالدماء لجرحى غزة بمصر، والبالغ عددهم 200 حالة بنسبة 1% من إجمالي المصابين تقريبا. الجميل أن تلك الحملة لا تهتم بتقديم الدعم المادي فحسب، لكنها تعتني بالفلسطينيين وسبل إدخال الفرحة إلى قلوبهم وتيسير معاشهم. الحالات التي التقيناها كانت معظمها تعاني بتر بالقدم وشظايا بالجسد وحروق بأجزاء كبيرة أو فقدان لأعضاء وخاصة العين .. وجميعهم أكدوا أن حالة غزة الإنسانية صعبة فلا ماء ولا كهرباء والمنازل تهدمت على أصحابها وهناك أحياء مدمرة كلية ولا زال القصف مستمر .. أما مستشفيات غزة مزرية، فالمرضى لا يجدون دواء ولا فرصة لإجراء جراحة، وهم ملقون على الأرض لا الأسرة ، ورغم ندرة الحالات التي مرت من المعبر بصعوبة بالغة لكن الفلسطينيين مصرون على حب مصر وشعبها .. ومصرون أكثر على الأمل والتفاؤل والثقة بنصر الله كانت البداية مع محمد عواد، والذي كان وجهه يفيض إيمانا ورضا، ولكنني حين ذكرته بزوجته وولده وبنته الذين استشهدوا في القصف، دمعت عيناه الرقيقتان وسرح طويلا ثم قال : لي عشر سنوات أناجي ربي وأقول له : هل أنت غاضب علي ، إنك لم تعد تمتحني كما اعتدت لأثبت إيماني.. ثم تمر أيام قلائل ونفاجأ بالقصف الوحشي .. لقد كانت السماء كتل من اللهب الذي يصب فوق رؤوسنا فنفقد بعدها الوعي ونفيق على فجيعة رحيل أحبابنا .. تهدم البيت كله على من فيه .. ونجا بحمد الله أغلب أفراد العائلة .. ولكن استشهدت أسرتي .. وسوف أراهم في الجنة قريبا . محمد يعاني بترا بقدميه الآن، وحروق بأنحاء متفرقة بالجسد، ورأسه تعرض لشق استلزم غرز كثيرة للحمه.. وحين انتقلنا لعمار تيسير المقاطعة من دير البلح، وجدنا أن أطرافه تعرضت جميعا للشظايا التي لم تستخرج بعد .. وقال أن ثلاثة بيوت بالكامل تهدمت ونجت عائلته بأعجوبة وأصيب ثمانية بجروح بعضها شديد الخطورة . انتقلنا لمصابي حي الشجاعية، والذي شهد أعنف الهجمات ، فقابلنا علي الرضا الكاسب، شاب فلسطيني جميل، كان يحلم أن يكون مهندسا، ولكنه الآن معاق فقد أدى الانفجار لضياع نصف رجله اليمنى من الركبة تقريبا ، وهو ينتظر جراحة أخرى لجبر الجزء المبتور .. مع ذلك فقد كان له من اسمه نصيب "رضا" ووجدنا الابتسامة لا تفارق شفتيه وهو يتحدث للجزء العزيز المبتور من قدمه فيقول له : سبقتني للجنة ويارب ألحق بك ! يتحدث "علي" بفخر عن أبيه الأسير، والذي عاد إليهم بعد 13 عاما ، فهي عائلة مناضلة . أما سبب إصابته فيتذكر أنه ذهب للحصول على الماء، فالكهرباء والماء نادرة في القطاع، وتمر عربة واحدة صباحا يشترون منها الماء لقضاء بعض حاجياتهم . لكن قذيفة لا ترحم داهمت مكان العربة وأصابت قدمي الشاب الفلسطيني ونشرت الشظايا بأنحاء متفرقة من جسده، ويؤكد علي الرضا أن الصهاينة حريصون على حصد أكبر عدد من أرواح الضحايا فيعمدون لضرب الأسواق وأماكن التجمعات. تحدثنا لأمه وكانت تتمنى أن يستكمل ولدها الحبيب دراسته بالقاهرة، فقد صارت غزة غير آمنة حاليا. وهي تتذكر المعاناة التي ذاقتها لنقل ابنها لمستشفى بالقاهرة، فمعبر رفح يتكدس الفلسطينيون امامه ولا تمر إلا الحالات الحرجة وبعد ساعات طويلة مضنية ، تزيد من تدهور صحة الجرحى . ومن الشجاعية أيضا التقينا بأسرة طفل صغير – 11 عاما – ذهب لمشاهدة مكان الانفجار أول الشارع ، فلحقته قذيفة ، الغريبة أنه هرول بالشارع لا يدري أن أمعاءه خرجت من جسده، وكان من حظه أن سيارة إسعاف تمر بالشارع التقطته .. بالطبع الأسرة لم تعلم بمكان ابنها الذي بحثوا عنه في كل مكان.. إلا من نشرة الأخبار بالتليفزيون ! والطفل يرقد الآن بغرفة العزل بمستشفى الشفاء حيث تم استئصال جزء من الأمعاء وأصيب بفيروس حاد وشظايا بالبطن . أما البطل ضياء حميد، من حي الشجاعية، فيروي كيف أنه هرول لسيارات الإسعاف لنقل الجرحى والمصابين من أبناء الحي، فأصيب هو الآخر معهم ، حيث تفتت ركبته وأصيبت قدمه اليمنى إصابة بالغة ولا يزال حتى الآن يحتاج لجراحات معقدة غير موجودة بمصر. أما المشاهد التي لا ينساها "حميد" فهو مشهد طفلة صغيرة أصابها القصف ووضعها بيده في السيارة جثة هامدة فيما كانت أنفاسها الأخيرة تودع عالمنا ، كما لا ينسى مشهد البيوت المدمرة بالكامل والتي سقطت على من فيها فصاروا سواء بسواء .. ومن الحالات الإنسانية الصعبة، التقت حملة "ثقافة للحياة" بالطفلة "فاطمة خليل" – 10 سنوات – وهي أيضا من حي الشجاعية، لقد كسر فكها وأصيب كتفها وقدمها بشظية لكن ذلك يعوض، أما الذي يصعب تعويضه فهو الأم والأخت والعمة والجدة .. لقد استشهدوا جميعا في القصف الوحشي.. وطفلة جميلة أخرى نلتقيها بمستشفى "الشفاء" كانت تستعد للخروج مع جدها والعودة لغزة ، ربما ابتسمنا في البداية .. لكننا علمنا أن الجد لا يحاول الاتصال بأقاربه في غزة لأنه لا يعلم مكان ابنه وزوجته، وهل لازالا على قيد الحياة أم لا ؟ هو لا يريد أن يجري مكالمة قد تتغير بعدها الحياة وتصبح أكثر قسوة ويعيش على حلم وأمل يرافقانه في طريق العودة بلقاء الأحباب. من حي البريج، التقينا خالد نهاد، وهو شاب متزوج وله طفلين ، إصابته بالغة بالبطن وتستلزم جراحات كثيرة، كما أنه مصاب بتهتك بالساعد ، لكن الأمل لم يكن يفارقه وتحدث عن اعتزازه بمصر رغم كل شيء وفوجئنا من يتصلون به للإطمئنان من أصدقائه القدامى بالقاهرة . ومن خان يونس، التقينا الشيخ ذو الوجه المنبسط الهاديء، ولم لا وقد أصيب وهو يخطو نحو المسجد وعلى بعد متر واحد منه .. بترت قدم "حسن العقاد" اليسرى.. ظل 5 ساعات بالشارع .. لكن لا يريد شيء .. سعيد بأن أسرته تحيا بالمخيمات ولكنها بخير .. راض رغم كل شيء أما عزام العقاد وإياد فضل، فقد أصيبا بشظايا وبتر بالقدم وحروق في الظهر والأيدي .. ولم تصاب روحهما بالوهن رغم ذلك . أما نادر إياد الأنشاصي، فقد كانت حالته من أقسى الحالات ، أصيب الشاب بحروق التهمت نصف جسده تقريبا .. ظل بغرفة العناية الفائقة بمستشفى الدمرداش فترة قبل أن يتمكن قبل أيام من أن يترجل قليلا في الممر.. سببت تلك الصورة فرحة لكل المتابعين للحملة على فيس بوك .. تذكرت أخيرا عماد الفيري، من بيت لاهيا بشمال غزة، والذي بترت قدمه وأصيب بشظايا بكافة أنحاء جسده جراء قذيفة واتته بعد الصلاة وهو ببيته وأصيبت بسببها ابنتيه إصابات بالغة .. هذا الرجل وبرغم حالته الحرجة، وحالة آلاف الفلسطينيين، تجد زوجته ترحب بك وتذكرك بأن المرأة الفلسطينية شجاعة وتعيش ولو بالقليل .. ويا حظه من تزوج بفلسطينية .. وكنا قد سألنا كل التقيناه في الزيارة عن مورد دخلهم فأكدوا أن السفارة ترسل لهم بعض المساعدات وكذلك حكومة فلسطين، وأهل الخير لايزالون يرسلون لهم العون، ولكن الأمل الحقيقي في الله خاصة وأن منازل بأكملها فقدت ولم يبقى منها شيء.. لقد ردد هذا البطل دعاء يقول "اللهم عليك باليهود وأعوانهم .. الله انصر فلسطين .. اللهم انصر سوريا .. اللهم انصر مصر وشعبها الطيب .. اللهم ثبتنا وانصرنا على كل ظالم .. يارب رضينا بقضائك فارضى عنا وارحمنا وقوينا على المقاومة والشهادة في سبيلك "