عهد عثمان شهد معارضة لم يشهدها عهد عمر وأبو بكر خصاله عثمان النبيلة وثراؤه قبل توليه الخلافة سبب ثورة المسلمين ظروف الحياة كانت أقوى من جميع من عاصروا الفتنة التي كتبها الله عليهم لا يُعدُّ وصفها ب "الفتنة الكبرى" ضربًا من التهويل، فقد كادت الفتنة التي بدأت في عهد الخليفة الراشد "عثمان" وامتدَّت إلى خلافة "عليٍ وبنيه" أن تعصف بالدولة الإسلامية، وما زالت وتبعاتها محلَّ دراسة؛ فقد تناولتها عديد من الأقلام محاولةً الوصول إلى بئر الحقيقة. وقد تناولها عميد الأدب العربي طه حسين، حيث حاول أن يناقش إحدى أخطر قضايا التاريخ الإسلاميِّ وأكثرها حساسية. وقد سعى المؤلِّف إلى اتِّباع مذهب "الحياد التاريخيِّ" بين الفريقين، والتجرُّد من كل هوًى أو مَيْلٍ؛ كما يقول، ساعيًا إلى إبراز الأسباب الحقيقية وراء الفتنة التي أدَّت إلى مقتل عثمان، معتمدًا على تحليلات لواقع المجتمع الإسلاميِّ آنذاك. نتوقف اليوم عند الجزء الأول من كتابة طه حسين عن الفتنة بعنوان "الفتنة الكبرى: عثمان"، الذي صدر عام 1952 عن "دار المعارف" المصرية . يبين المؤلف منهجه فيقول: أريد أن انظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريداً كاملاً من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصدرها وغاياتها. ويستشهد بما قاله سعد بن أبي وقاص رحمه الله: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا واخطأ ذاك!. فقد كان سعد كما يقول المؤلف أحد الذين اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلى الله. ويتابع طه حسين: أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله، لا أجادل عن هؤلاء، وإنما أحاول أن أتبين لنفسي وأبين للناس الظروف التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى الفتنة وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرقتهم وما زالت تفرقهم إلى الآن، وستظل تفرقهم في أكبر الظن إلى آخر الدهر. المآخذ على عثمان يؤكد طه حسين أن القاعدة الأساسية التي أقام عمر و أبوبكر عليها نظام حكمهما هي أن يسيرا سيرة النبي في المسلمين، وكان قوام هذه السيرة تحقيق العدل الخالص المطلق بين الناس . أما عثمان، فقد نقم المسلمون من عثمان سياسته في الإدارة وسيرته في التولية والعزل، فقالوا إنه ولّى امور المسلمين جماعة من الأحداث لا يصلحون لها ولا يقدرون عليها ولا ينصحون للدين ولا يخلصون لله ورسوله، وعزل أصحاب النبي عن الأمصار، ولم يسمع لوصية عمر، فحمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس. وقد عوتب في ذلك فلم يعتب حتى ظهر فسق عماله وانحرافهم عن الجادة فلم يعزل أحداً منهم إلا مضطراً. ويختصر طه حسين سياسة عثمان المالية في أنه كان يرى أن للإمام الحق في أن يتصرف في الأموال العامة حسب ما يرى أنه المصلحة، وأنه ما دام قد انقطع بحكم الخلافة لتدبير أمور المسلمين فله أن يأخذ من أموالهم ما يسعه ويسع أهله وذوي رحمه لا يرى بذلك بأساً أو جناحاً. والشئ الذي لم يوضحه المؤرخون توضيحاً كافياً، ويبينه طه حسين هو أن عثمان قد كان قبل أن يلي الخلافة سخياً سمحاً معطاءً، وكان كثير المال ضخم التجارة كثير الاكتساب، فكان ماله يسعه ويسع أهله وذوي رحمه، فلما تولى الخلافة شغلته عن التجارة والاكتساب، ولم يكن له بد من أن ينفق على نفسه وأهله وذوي قرابته بعد الخلافة كما كان ينفق قبلها، فكان يرى أن الخلافة يجب ألا تغير من سيرته في المال شيئاً، فإذا لم يسعفه ماله الخاص وجب أن تسعفه الأموال العامة؛ لأن ماله الخاص لم يقصر به إلا لأنه صُرف عن تدبيره واستثماره بتفرغه تدبير هذه الأموال العامة. وأمر آخر يشير إليه طه حسين هو أن عثمان لم يكن يرى فيما يظن أن للمسلمين الحق في أن يراقبوه فضلاً عن أن يعاقبوه. فهو قد أعطى العهد الذي أعطاه، وهو مسئول عن هذه العهد امام الله لا أمام الناس، يدل على ذلك اقتناعه بأن الذين طلبوا إليه أن يخلع نفسه قد طلبوا إليه شيئاً عظيماً، وقوله لهؤلاء وغيرهم: "ما كنت لأخلع قميصاً قمصنيه الله عز وجل". فلم تكن الخلافة عنده تكليفاً تلقاه من المسلمين، ويستطيع أن يرده عليهم إن شاء هو أو شاءوا هم، وإنما كانت الخلافة عنده ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس حد غيره أن ينزعه عنه، فالله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة. انقلاب اقتصادي ورأسمالية! أحدث عثمان انقلاباً اقتصادياً - برأي طه حسين - حين أذن لمن أراد من أهل بلاد العرب أن يبيعوا فيئهم في الأمصار ويشتروا مكانه أرضاً في جزيرة العرب، وهذا الانقلاب قد انشأ المكية العقارية الضخمة في الإسلام. فإذا أضفنا إلى ذلك سخاء الإمام وعماله بالأموال العامة لبني أمية ولقريش كلها، وأن هذا السخاء قد أتاح لكثير من القرشيين أن يشتروا الأرض في الأمصار. يدل هذا كله على أن السياسة المالية لعثمان كانت تنتهي إلى نتيجتين كلتاهما شر: الأولى إنفاق الأمول العامة في غير حقها، وما يترتب على ذلك من الاضطراب المالي ، والأخرى إنشاء هذه الطبقة الغنية المسرفة في الغنى التي تستجيب لطمع لا حد له، فتتوسع في ملك الأرض واستغلال الطبقة العاملة، ثم ترى لنفسها من الامتياز ما ليس لها، ثم تتنافس في التسلط، ثم ترقى إلى التنافس في الإمارة وفي الخلافة نفسها، ثم ينتهي بها الأمر إلى ما انتهى بها إليه من هذه الفتن والخطوب التي أفسدت الأمر على المسلمين منذ مقتل عثمان. وطبيعي أن بيت المال لم يكن يستطيع أن يسع الناس جميعاً بهذا السخاء، وطبيعي أن الذين لم يأخذوا حقدوا على الذين أخذوا، ثم حقدوا على الذين أعطوهم، فساءت الصلة بينهم وبين الإمام والولاة، ولذلك طلب أهل الأمصار إلى عثمان حين ثاروا به وقبل أن يحاصروه أن يستأنف النظر في مصارف الفئ، طالبوا بألا يفرض العطاء في الأموال العامة إلا بمن قاتلوا على الفئ من الجند سواء غزوا أو لم يغزو، يكون عطاء الغزاة منهم أجراً لهم، وعطاء الذين عجزوا عن الغزو شيئاً يشبه ما نسميه في عصرنا الحديث "المعاش". فأما من عداهم من المسلمين الذين لم يقاتلوا عن الفئ فليس لهم أن ياخذوا منه شيئاً، وفي هذا مخالفة للسنة التي أحدثها عمر. كذلك احتج عليه الناس أنه يختار الولاة من ذوي قرابته, وأنه كثير الإنفاق على قرابته من بيت مال المسلمين أيضا . فالشئ الذي ليس فيه شك أن عصر عثمان قد شهد معارضة لم يشهدها عصر عمر. عنف جسدي ومنفى أنكر المسلمون على عثمان - كما يشير الكتاب - موقفه من ناقديه ومعارضيه، فهو قد انحرف عن سيرة عمر في ذلك انحرافاً عظيماً؛ فعمر نهى عماله عن أن يستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولم يحذرهم من شئ كما حذرهم من العنف بالرعية، أما عثمان فقد أسرف وترك عماله يسرفون في العنف بالرعية ضرباً ونفياً وحبساً. وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبي صلّ الله عليه وسلم: ضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق، وأمر من أخرج عبدالله بن مسعود من مسجد النبي إخراجاً عنيفاً حتى كسر بعض أضلاعه. وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين استقبلوا خلافة عثمان راضين عنها مطمئنين إليها؛ لأنه وسع عليهم ما كان عمر يضيق، ويسّر من أمرهم ما كان عمر يعسر. ويكاد المؤرخون يجمعون على أن الأعوام الستة الأولى من خلافة عثمان مرّت بسلام، ثم احتمل المسلمون خلافة عثمان أربع سنين. فلما جاوز عثمان بخلافته الأعوام العشرة ضاق بها المسلمون واستطالوها. وقد استقبل عثمان خلافته وهو يريد أن يسير سيرة صاحبيه لا يغير منها شيئاً. وإنما أدركه ما قد يدرك الناس من هذا الضعف الذي لا يأتي عن نية سوء ولا عن تعمد للبغي، وإنما يأتي عن خلق كريم وعن حب للخير ورغبة فيه. خصال عثمان النبيلة وطمع أقاربه يلفت طه حسين إلى أسباب مهمة كانت وراء وقوع الفتنة، حيث يوضح قائلاً: ما ينبغي أن ننسى أن عثمان استقبل الخلافة وهو شيخ كبير قد بلغ السبعين من عمره، وكان جواداً معطاء، وكان وصولاً للرحم وكان شديد الحياء، فإذا اجتمعت كل هذه الخصال في شخصه وأضيفت إليها خصال أخرى في عشيرته الأقربين: هي الطمع والجشع والطموح الذي لا حد له والاستعداد للتسلط والغلبة؛ كان هذا كله خليقاً أن يعرض عثمان لما تعرض له من الشر، فإذا أضفت إلى خصاله وخصال عشيرته الأقربين أن جماعة من كبار أصحاب النبي قد نازعتهم نفوسهم إلى الدنيا فاندفعوا إليها ورغبوا فيها، وجمعوا منها حظوظاً ضخمة، وألقى هذا في روعهم أنهم ليسوا أقل من عثمان استحقاقاً للخلافة، وأنهم يكونون أقدر منه على النهوض بأعبائها وضبط أمورها لأنهم لم يبلغوا من الشيخوخة ما بلغ، كان كل هذا خليقاً أن يجعل الأمر على عثمان عسيراً. يتابع طه حسين: ولولا شئ من التحفظ والاحتياط لقلت أن المسئول الأول والأخير عمّا تعرض له عثمان وأصحابه من الخطوب إنما هي العبقرية الفذة التي أتيحت لعمر ولم تتح لأحد من أصحابه وفيهم عثمان، فقد كان عمر من هؤلاء الأفذاذ الذين لا تظفر الإنسانية بهم إلا في القليل النادر. أحداث الفتنة اشتدت المعارضة لحكم عثمان، وكانت هذه المعارضة في الأمصار البعيدة كما كانت في المدينة مقر الحكومة . هذه المعارضة كما يؤكد المؤلف، ظاهرة طبيعية محتومة دعت إليها ظروف الحياة الإحتماعية والسياسية والدينية المستجدة . وما كان لعثمان أن يقاوم الظروف أو يقهر طبيعة الحياة. إنطلقت شرارة الثورة من الكوفة حيث ثار الكوفيون مطالبين بتغيير الوالي عليهم فاضطر عثمان أن يفعل ذلك وكانت تلك بداية الفتنة حيث أدرك الناس أن الثورة هي طريق التغيير . وما هي الا أشهر قليلة بعد ثورة الكوفة حتى يخرج الكوفيون مرة أخرى مع المصريين والبصريين و يسيروا حتى يدخلوا المدينة يحتلونها و ينادي مناديهم: "من دخل داره فهو آمن" ثم يضربون الحصار حول دار عثمان . و قد كان الحصار في أول أمره يسيرا وكان الخليفة في البداية يخرج من داره يصلي بالناس ومن بينهم الثائرين أنفسهم و يخطب فيهم ويسعى بينهم السفراء المصلحون . كان الثائرون يريدون من الخليفة أن يخلع نفسه، وكان الخليفة عثمان يأبى أن ينزع قميصا قد كساه الله عز و جل إياه. و لكن الأمور تتعقد فجأة، فالجند مقبلون من الأمصار لنصرة الخليفة، بعد أن كاتبهم عثمان، وهنا تتغير خطط الثوار . ففي أثناء خطبة لعثمان في المسجد يهجم عليه أحد الثوار و يأخذ من عثمان العصا التي كان يخطب عليها و يكسرها "العصا التي كان يخطب عليها النبي و أبوبكر و عمر"، ثم ثار الناس و حصبوا عثمان حتى صرع فاحتملوه مغشيا عليه الى داره لم يخرج منها بعد ذلك. يواصل المؤلف: فقد حبسوه ومنعوا عليه الصلاة في المسجد و منعوا عليه الماء . و لزم أكثر الصحابة بيوتهم و أقام الناس في بيوتهم لا يخرج أحدهم إلا ومعه سيفه . و حينما أوشك الإمداد أن يصل المدينة لنصرة الخليفة أنفذ الثوار نفرا منهم عليهم محمد بن أبي بكر، فتسوروا الدار وأحرقو أبوابها وانتهوا إلى عثمان فقتلوه . قُتل عثمان وكان الثائرون قد ملئوا المدينة رعبا وخوفا , فلم يكن دفن الخليفة المقتول ممكنا إلا بليل وعلى إستخفاء شديد من الناس . ويرى المؤلف أن الفتنة التي بلغت المرحلة الأولى من مراحلها بقتل عثمان، قد تركت المسلمين وأمامهم طريقان: إحداهما هي الطريق التي سلكتها الأمم من قبلهم، وهي طريق الملك الذي يقيم أمره على الحزم والعزم وعلى القوة والبأس، ويحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، فيرقى ويزدهر ثم يصيبه الضعف والذواء لينتق من طور إلى طور، ومن دولة إلى دولة، ومن شعب إلى شعب. والأخرى هي هذه الطريق الجديدة التي مهدها النبي ورفع أعلامها صاحباه، وهي التي لا تقيم السلطان على القوة، وإنما تقيمه على المحبة والعدل وتجعل القوة أداة من أدواته ووسيلة من وسائله، ولا تحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، وإنما تحلها بوسائل الدين هذه التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الرغبة في الخير والنفور من الشر، وعلى الإيثار على النفس والتبرؤ من الأثرة، وتعتمد قبل كل شئ على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب. وتتخذ الدنيا كلها لا أقول وسيلة إلى الآخرة لا غير، ولكن أقول وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً ونقاء وصفاء وطهراً كلما تقدمت بها الأيام. نظر المسلمون بعد مقتل عثمان، فإذا هم على رأس هاتين الطريقتين. فاما أكثرهم فسلكوا الطريق الأولى، وأما أقلهم فحاولوا أن يسلكوا الطريق الثانية، ولكنهم كانوا ناساً من الناس، فلم يكادوا يتقدمون في طريقهم تلك حتى امتحنوا في أنفسهم ودمائهم، وحتى غلبهم الأكثرون عدداً على أمرهم. وينظر المسلمون الآن فإذا الطريق الأولى ما زالت مزدحمة بهم جميعاً يتهافتون فيها كما يتهافت الفراش في النار، وإذا الطريق الثانية ما زالت قائمة واضحة ولكنها خالية لا يقدر على سلوكها إلا أولو العزم من الناس، وأين هم من الناس؟!. مقتل عثمان يقول عثمان غداة الليلة التي قتل فيها: لئن قتلوني لم يصلوا بعدي جميعاً أبداً، ولم يقاتلوا عدواً جميعاً أبداً. ثم مضى بعد ذلك في حديثه مع أصحابه ينهاهم عن القتل والقتال وهم يلحون عليه في قتالهم، فقال إن رسول الله صلّ الله عليه وسلم قد عهد إليّ عهداً فانا صابر على العهد الذي عهده إلىّ حتى أُصرع في المصرع الذي كتب عليّ أن أُصرع فيه. وظل كذلك يتنقل مع أصحابه بين هذه الأحاديث حتى أقبلوا عليه فقتلوه. والناس يختلفون فيه وفي قاتليه أشد الاختلاف وأعظمه، ولكن الشئ اذي لا يقبل شكاً ولا نزاعاً كما يشير طه حسين، أن الله لم يحل دم عثمان لقاتليه، فأقصى ما يباح لمنكرين عليه أن يثوروا به ويحملوا الأمة على هذه الثورة، فإن ظفروا باجتماع الكلمة على خصومته اختاروا من المسلمين ممثلين للأمصار والأقاليم، وكان على هؤلاء أن يحاوروا عثمان ويناظروه، فإن رأوا إقراره يقروه، وإن رأوا خلعه خلعوه ثم اختاروا للمسمين إماماً مكانه ثم تركوا للإمام محاسبة عثمان. فاما أن ينتدب الثائرون ولم يوكلهم المسلمون عنهم فيخلعوا الإمام فلم يكن لهم ذلك، وكيف وهم لم يخلعوه وإنما سفكوا دمه، وكان دمه حراماً كدم المؤمنين جميعاً، وكانت لدمه بعد ذلك حرمة أخرى هي حرمة الخلافة؟. والناس يعتذرون عن هؤلاء الثائرين معاذير كثيرة، يقولون: إنهم لم يكونوا يستطيعون خلعه خوفاً من عماله في مصر والشام والعراق ولم يكونوا يستطيعون الانتظار به خوفاً من هؤلاء العمال، ولو لم يقتلوه لقتلهم هو أو لقتلهم عماله. ولكن كل هذه المعاذير لا تبيح لهم أن يسفكوا دماً حرمه الله، وأن يستبيحوا سلطان الخلافة على هذا النحو. ولعل العذر الوحيد الذي ينهض لهم كما ينهض لعثمان، وينهض للذين اختصموا بعدهم في هذه القضية فسفكوا دماءهم بأيديهم وأباحوا من النفوس والأموال ما حرّم الله – يواصل طه حسين - هو أن ظروف الحياة كانت أقوى منهم جميعاً. وأن الله قد كتب عليهم أن يفتنهم في دينهم ودنياهم هذه الفتنة الكبرى التي فسرها عليّ لأهل الكوفة أحسن تفسير حين قال: "استأثر عثمان فاسأء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع".