حين يُطلق لقب "عميد الأدب العربي" فإنه ينصرف مباشرة – في عرف المثقفين – إلى الدكتور " طه حسين". ولكن هؤلاء (المثقفين) لا يتفقون على تصنيف (الاتجاه الفكري) للدكتور العميد: (يساري، ليبرالي، علماني...) غير أنهم –بالقطع– يتفقون على عدم تصنيفه ضمن من يُسموْن ب "الإسلاميين" رغم كتاباته في السيرة النبوية والفكر الإسلامي بوجه عام، ولقد كان يقف على مسافة عقلية متساوية حين يكتب –مثلا: عن منهج الشك الديكارتي من جهة، و"على هامش السيرة" من جهة أخرى، يكتب مثقفا لا داعية، ويتناول الفكر الفلسفي أكاديميا لا منتميا.. وانطلاقا من هذا الفهم نقرأ ما كتبه عن طبيعة الحكم الإسلامي فنرى كتابته ورأيه (شهادة محايدة) في هذا الموضوع، فلا هو يميل مع هؤلاء، ولا يتحايل على هؤلاء. ونقدمه وهو يكتب في ذلك من خلال كتابه: "الفتنة الكبرى" ج1 عثمان 22-33، فنحرص على كثير من نصوص عباراته لتكون قراءتنا له ( قراءة محايدة ) كذلك: فهو يرى أن الذين يعُدّون نظام الحكم في الإسلام دينيا (ثيوقراطيا) قد خدعتهم ظواهر الأمور، واعتمدوا – في فهمهم –على أدلة لا تؤدي بالضرورة إلى ما فهموه خطأ: فهم يرون – أو يظنون – أن النبي أسس الدولة بأمر الله، وأن الله أمر المسلمين أن يطيعوا الله ورسوله، وأن أبا بكر خليفة رسول الله، وأن عمر كان خليفة أبي بكر.. فقد تنزّل الحكم -إذن – من النبي إلى هذين الإمامين الراشدين، والنبي إنما تلقّى السلطان من الله عز وجل.. (فنظام الحكم – إذن – هو النظام الثيوقراطي) ويرى "العميد" أن هذا الرأي بعيد عن الصواب، لأن الإسلام قد وجّه الناس إلى مصالحهم في الدنيا وفي الآخرة، ولكنه لم يسلبهم حريتهم، ولم يملك عليهم أمرهم كله، وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم. وقد أمر الله نبيه أن يشاور المسلمين في الأمر، ولو كان الحكم (ثيوقراطيا) لأمضى النبي كل شيء بأمر ربه ولم يشاور فيه أحدا. والله يأمره بمشاورة أصحابه فيقول "وشاورهم في الأمر" ويصف منهج المؤمنين فيقول: "وأمرهم شورى بينهم". وامثلة مشاورة النبي لأصحابه تملأ تاريخ سيرته: فقد قبل مشورتهم في غزوة بدر بتغيير المكان الذي نزل فيه، ولم يكن هذا المكان وحيا من عند الله، بل هو "الرأي والحرب والمكيدة". وقَبِل مشورتهم في أمر الأسرى في هذه الغزوة، وقد تعرّض في ذلك لما أصابه من اللوم الذي نزل به القرآن: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض.."، "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم". ونزل على رأي أصحابه في السير إلى المشركين ولقائهم في غزوة أحد متنازلا عن رأيه في وجوب الإقامة في المدينة، وعدم لقاء قريش في العراء، والاكتفاء بالدفاع عن المدينة إذا هاجمتها قريش، وقد ظهر –بعد ذلك أن أصحابه قد استكرهوه على ما لا يحب، ولو كان الحكم (ثيوقراطيا) لما استطاعوا أن يستكرهوه على ما لا يريد... ويخرج د. طه حين من هذا النقاش إلى أن نظام الحكم –في عهد النبي – لم يكن يتنزل من السماء في جملته وتفصيله، وإنما كان الوحي يوجه النبي وأصحابه إلى مصالحهم العامة والخاصة دون أن يحول بينهم وبين هذه الحرية التي تتيح لهم أن يدبروا أمرهم على ما يحبون في حدود الحق والخير والعدل. ورسول الله - نفسه – لم يرسم بسنته نظاما معينا للحكم ولا للسياسة، ولم يستخلف على المسلمين أحدا من أصحابه بعهد مكتوب أو غير مكتوب. ومما يؤكد أن نظام الحكم في الإسلام لم يكن على نظام (الحكومة الدينية) –بمفهومها الآن – تلك البيعة التي سنها رسول الله للمسلمين، فقد استنفرهم لوقعة بدر ولم يأمرهم بها أمرا، وإنما ندبهم فبايعوه على الموت، ولو شاء أحدهم ألا يبايع لكان له مخرج. ثم إن أمر الخلافة كله قام على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقدا بين الحاكمين والمحكومين. وما من شك في أن خليفة من خلفاء المسلمين ما كان ليفرض نفسه وسلطانه عليهم فرضا إلا أن يعطيهم عهده، ويأخذ منهم عهدهم. ومن أجل ذلك لم يكن السلطان (وراثيا) عن النبي إلى أهل بيته، ولم يرث عمر هذا السلطان وراثة من أبي بكر، ولم يصبح عمر خليفة إلا بعد أن بايعه المسلمون رضا برأي أبي بكر وقبولا بمشورته. ولقد أنكر كثير من المسلمين على بعض عمال عثمان قولهم: "إن ما يأتي من الفيئ ويُجنى من الخراج هو مال الله". وقالوا: "بل هو مال المسلمين". ولو فهم المسلمون أن نظام الحكم في ذلك الصدر من حياتهم نظام (ثيوقراطي) لما أنكروا أن يقال عن المال إنه (مال الله). ويواصل د. طه حسين رأيه بقوله: "وإذن في أن نظام الحكم – أيام النبي – لم يكن "ثيوقراطيا" مقدسا، وإنما كان أمرا من أمور الناس" يخطئ الحاكم ويصيب، ويتاح للناس أن ينكروا الخطا ويؤيدوا الصواب دون أن يكون ذلك خروجا على الحاكم أو على نظام الحكم. وإذن فما طبيعة الحكومة الإسلامية في رأي (عميد الأدب العربي)؟ الإجابة عن ذلك في قوله: "وخلاصة الأمر أنه يمكن القول أن نظام الحكومة الإسلامية كان نظاما عربيا خالصا بيّن له الإسلام حدوده العامة من جهة، وحاول المسلمون أن يملئوا ما بين هذه الحدود من جهة أخرى". وهذا النظام لم يكن ملكيا، ولم يكن جمهوريا.. كما لم يكن قيصريا بالمعنى الذي عرفه الرومان، وإنما كان نظاما عربيا إسلاميا خالصا لم يُسبق العرب إليه، ولم يقلدوا بعد ذلك فيه. ولكن إذا كان للدين أثر عليه فهو يتمثل في التقيد بأمر الله في إقامة الحق، وإقرار العدل، وإيثار المعروف واجتناب المنكر حتى يكون أتباعه "خير أمة أخرجت للناس". وأحسب أن هذه هي (مبادئ الشريعة) التي جعلتها المادة الثانية من الدستور مصدرا رئيسا فيه. وهذا رأي شخصي يصلح أن يكون شهادة لا نستطيع أن نعدّ صاحبها عدوا للحكومة الإسلامية فنقول: "... والفضل ما شهدت به الأعداء"، ولا أن نعده من الدعاة إلى هذه الحكومة حتى نقول: "وشهد شاهد من أهلها"، وإنما هو رأي لأحد أعمدة الثقافة في العصر الحديث لعل له اعتبارا في المناقشات الثائرة حول ما يعرف بالدولة الدينية والدولة المدنية في هذه الأيام، ولعل له أثرا في تهدئة الخلاف وإنهاء الخصومة .