كان حافظاً للقرآن وعلوم الحديث وبسبب شربه الدواء خفّ عقله! خافه الأمراء والوزراء وخشيوا تجريحه لهم! كان يهيج إذا أكل اللحم...ويسكن إذا ذاق شيئاً دسما! يعرض كتاب "نوادر الكتب"، ل محمد خير يوسف، لنوادر الكتب التي لم تنل شهرة، ولم تسلط عليها الأضواء، واليوم نتوقف عند كتاب المؤرخ المعروف "ابن زولاق" وكتابه ""أخبار سيبويه المصري". ربما لا تعرف أن هناك شخصاُ آخر مشهوراً يقال له "سيبويه"! لكن شهرته تعود إلى أنه من أشهر "عقلاء المجانين" الذي استفاضت أخباره مع الأمراء والوزراء والعلماء في مصر في القرن الرابع الهجري. وقد انبرى المؤرخ ابن زولاق، لتأليف كتاب في حياته وأخباره، نظراً لأن الكُتَّاب لم يشيروا إليه من بين ما كتبوا في "عقلاء المجانين" وكان هو معاصراً له.. وسمى كتابه "أخبار سيبويه المصري". والعجيب أن هذا العاقل – المجنون كان من كبار أهل العلم واللغة. وقد لقب ب"سيبويه" لاستحقاقه ذلك عن جدارة!. كما كان حافظاً للقرآن الكريم، عارفاً بغريبه وأحكامه، وعالماً بالحديث وغريبه ومعانيه، وبالرواة!. لكنه كان معتزلياً متعصباً!. وقد ذُكر أنه أصيب بالجنون؛ لأنه شرب دواء معيناً!. وذكرت زوجته أنه إنما كان يهيج إذا لم يأكل اللحم، فإذا أكل شيئاً دسماً سكن!. وسيبويه المصري هو محمد بن موسى بن عبد العزيز الكندي الصيرفي، المعروف بسيبويه. وكنيته أبو بكر. ولد بمصر سنة 284ه، وتوفى بها سنة 358 ه قبل دخول القائد جوهر إلى مصر بستة أشهر.وكان أبوه شيخاً صيرفياً يكنى أبو عمران. وهو غير سيبويه النحوي. وقد ذكر ابن زولاق أن سيبويه هذا يحفظ القرآن الكريم، ويعلم كثيراً من معانيه وقراءاته وغريبه وإعرابه وأحكامه. وكان عالماً بالحديث وبغريبه ومعانيه وبالرواة. ويعرف من النحو وغرائب اللغة ما كان سبباً في أن يلقب ب"سيبويه". ولم يكن اختلاط عقله قبيحاً، كما قال ابن زولاق، فلم يكن يستعمل الألفاظ النابية، إنما كان انتهاراً وسجعاً يولده، فيه قسوة وجرح. وكان المسئولون يخافون من تجريحه خشية أن تنتشر ألفاظه السجعية بين الناس!. قال المؤلف: سمعتُ من يخبر عن سيبويه أن زوجته قالت: إنما كان يهيج إذا أكل اللحم، وإلا فإذا أكل شيئاً دسماً سكن، وقل كلامه. وقال: إنما كان يظهر جوهر سيبويه ويحسن سجعه إذا حمي وكثر صياحه!. قال: وكان يقابل منزله رجل يكنى أبا عبدالله، وكان سيبويه يخاطبه من النافذة ويصيح، ويقف الناس يسمعون الكلام ويكتبون! ولو كان أبو عبد الله يكتب ويحفظ ما خاطبه به، لحصل له علم عظيم. وكانت له جارية تخدمه اسمه "مختارة". فجلس في منزله يأكل، فجاءت فراريخ للجارية، فلقطت مما بين يديه، وجاءت حمامات، فلقطت مما بين يديه، وجاءت سنانير تموء من حوله، فصاح سيبويه: يا مختارة، نحي فراريخك النقارة، وحماماتك الطيارة، وقططك الهرارة، يا غيارة يا دوارة!. وكان يطوف على حماره يوم الجمعة – وكان أعرج – فرأى أنه قد فسح مكان واسع للإخشيد لينزل إلى صلاة الجمعة، وقد اجتمع له الناس، والزحمة في كل مكان، فصاح سيبويه: ما هذه الأشباح الواقفة، والتماثيل العاكفة، سلط عليهم قاصفة، يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، وتغلي قلوبهم واجفة. فقال له رجل: هو الإخشيد ينزل إلى الصلاة. فقال: هذا للأصلع البطين؟ المسمن البدين؟ قطع الله منه الوتين، ولا سلك به ذات اليمين، أما كان يكفيه صاحب ولا صاحبان، ولا حاجب ولا حاجبان، ولا تابع ولا تابعان؟ لا قبل الله له صلاة، ولا قرّب له زكاة، وعُمِّر بجثته الفلاة!. وكان سائراً على حماره حتى لقي المحتسب – مراقب في الأسواق – والحرس بين يديه، فقال: مما هذه الأحراس يا أنجاس؟ والله ما ثم حق أقمتموه، ولا سعر أصلحتموه، ولا جان أدبتموه، ولا ذو حسب وقرتموه، وما هي إلا أجراس تسمع، لباطل توضع، وأقفاء تصفع..لا حفظ الله من جعلك محتسباً، ولا رحم لك ولا له أماً ولا أباً، وسلّط عليك وعليه من يوجعكما أدباً. وممن يورد بالكتاب من أخبار سيبويه، أنه كان بمصر رجل من التجار يعرف بأبي نعيم الجرجاني، وكان يسكن في زقاق "عفن" فركب إليه فاتك الإخشيدي – المعروف بالمجنون – في موكب. وانصرف وبين يديه حجّابه، وبين يديه رجالته، وخلفه أخوه مبشر، وكاتبه بن العزمزم وجماعة، فرآه سيبويه فصاح: طرق متضايقة متطابقة، وخيل متسابقة، عليها عمالقة، فأرسل الله عليهم صاعقة. ومر بأحد الأزقة – ويبدو أنه لم يكن يحب أهله – فرأى البنّائين فيه فقال: ما هذا؟ لا عمّر الله لهم داراً، ولا ثبت لهم قراراً، وأشعلها ناراً، ولا أطول لهم أعماراً، وحفها بالدمار والعار والنار وسوء الجوار!. ولما مات كافور، وبويع لأحمد بن علي بن الإخشيد، قيل لسيبويه في اليوم الذي جلس أحمد بن علي بذلك – وهو طفل ابن إحدى عشرة سنة – فقال: أما هذا من العجائب، ومن عظام المصائب، أن يقعد في أعلى المراتب، ويؤهل للنوائب، صبي غير بالغ ولا آيب، ولا قارئ ولا كاتب، ولا حامل سيف ولا ضارب، لقد خسّ هذا الأمر وهان، حتى تلاعب به النسوان، وندب له الصبيان، فالله على كل حال المستعان. ورأى سيبويه جعفر بن الفضل بن الفرات بعد موت كافور وقد ركب موكب عظيم فقال: ما بال أبي الفضل قد جمع كتابه، ولفق أصحابه، وحشد بين يديه حجابه، وشمر أنفه، وساق العساكر خلفه؟! أبلغه أن الإسلام طُرق فخرج ينصره؟ أو أن ركن الكعبة سُرق فخرج لهذا الأمر ينكره؟. فقال له رجل: هو اليوم صاحب الأمر، ومدبر الدولة. فقال: يا عجباه! أليس بالأمس نهب الأتراك داره، ودكدكوا قراره، وأظهروا عواره، حتى أصبح عنهم مستتراً، ومنهم متحجراً، وهم إذ ذاك يدعونه وزيراً، صيَّروه اليوم عليهم أميراً؟!، واعجبي فيهم! كيف رضوه ونصبوه؟ بل عجبي منه كيف تولى أمرهم، وأمن غدرهم؟!.