لم يكن سيبويه عالما ككل العلماء ،لأنه لم يكن تلميذا ككل التلاميذ فقد فاق أقرانه من التلاميذ،عندما كان يتلقى العلم على يد إمام مدرسة البصرة الخليل بن أحمد وغيره من العلماء. فقد سمع منهم وحفظ ووعى وأتقن وأضاف إلي ما حفظ وما تعلم حسن الفهم وروعة التصنيف مما جعله جديرا بأن يودع هذا العلم في كتابه الذي يعد إماما في بابه وهو "الكتاب" المعروف باسم كتاب سيبويه في النحو، والملقب بقرآن النحو،فلم يُعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه؛ وذلك أن الكتب المصنَّفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج مَنْ فَهِمَه إلى غيره،وإذا تأملت الأمثلة من كتاب سيبويه تبينت أنه أعلم الناس باللغة،فقد جمع فيه كل أبواب النحو وناقش فيه كل مساءلة ولم يفته فيه شيء ليستدرك عليه،وصنفها ورتبها ووضح فيها مصطلحات هذا العلم الذي كان يلقن شفهيا ،حتى أمسك بتلابيبه وقيده وسجله حتى لا يتفلّت في الهواء،ليكون هذا الكتاب مستودع مادة النحو التى يتعاطاها كل علماء النحو بعده وحتى الآن،دون أن يضيفوا إليه جديدا،رغم كثرة علماء النحو الذين جاءوا من بعده ،فكل جهودهم كانت مقتصرة على مناقشة علمه وآرائه والتعليق عليها أو الاختلاف فيما بينهم على تفسير آرائه ،أو طريقة تصنيف الأبواب أو ترتيبها أو طريقة تناولها،ولم يدع أحد منهم أنه أضاف إلي النحو شيئا لم يكن موجودا في كتاب سيبويه،ولهذا قال الجاحظ في كتاب سيبويه: "لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله وجميع كتب الناس عليه عيال" وقال صاعد الأندلسي: " لاأعرف كتابًا أُلِّف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب، أحدها: المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني: كتاب أرسطو طاليس في علم المنطق، والثالث: كتاب سيبويه البصري النحوي؛ فإن كل واحد من هذه لم يشذّ عنه من أصول فنِّه شيء إلا ما لا خطر له" والعجيب في الأمر أن سيبويه إمام النحاة لم يكن عربيا أخذ اللغة أبا عن جد ،بل كان فارسيا لا عربيا فقد وُلد سيبويه في قرية البيضاء في بلاد فارس ونشأ بالبصرة بعد أن رحلت أسرته من بلاد فارس إليها، والأعجب أنه لم يكن فصيح اللسان يأخذ بالألباب و العقول إذا تكلم، بل كان في لسانه حبسة ،تمنعه من الانطلاق في الكلام بفصاحة تجذب السامعين إليه،ولكن عوضه الله عن ذلك بفصاحة القلم، وكان هذا من حسن الحظ،فلو كان فصيح اللسان لاستفاد من علمه معاصروه فقط كسابقيه من العلماء،ولكان ذا تأثير محدود جدا ، قياسا بما هو كائن الآن حينما انصرف إلى التدوين وكتابة ما سمعه وما وعاه ليعبر بقلمه عما عجز عنه لسانه. ولعل ما يفسر قلة تلاميذه قياسا على غزارة علمه أمران أولهما السبب السابق ،أما ثانيهما وهو الأهم أنه لم يمهله القدر حتى يبرز كأستاذ له تلاميذ ومريدون، لأنه توفي وهو في ريعان الشباب وهو لم يجاوز عامه الثاني والثلاثين بالتقويم الهجرى أو الحادي والثلاثين بالتقويم الميلادي فقد ولد سنة 148 ه / 765موتوفي سنة 180 ه /796م فمات قبل أن يتنبه أهل عصره إلى غزارة علمه حتى يقصدوه وبرغم هذا فإن من تلاميذه عالما فذا هو "الأخفش" وهو العالم الذي أضاف إلى علم العربية بصمة لا تمحى فهو الشخص الوحيد الذي استدرك على الخليل بن أحمد بحرا من بحور الشعر لم يكن توصل إليه وسماه بحر المتدارك. والذي دعا سيبويه إلى إتقان النحو كعلم خطأ وقع فيه وعاتبه أستاذه "حماد"عندما قرأ كلمة في حديث شريف بالرفع وكان صوابها النصب ،لأنه أخطأ في إعرابها،فقال لأستاذه: لاجَرَم والله لأطلبن علماً لا تُلَحِّنَنِّي فيه أبداً، وبعد قراره الأخير هذا عمد سيبويه إلى إمام العربية وشيخها الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ لينهل ويتعلم منه عن حبٍّ وعزيمة وقوة إرادة، فصار يلازمه كالظلِّ حتى لقد بدا تأثره الكبير بشيخه هذا على طول صفحات كتابه الوحيد وعرضه في رواياته عنه، واستشهاداته به. ولم يكتف سيبويه بشيخه الخليل بن أحمد في علوم النحو والعربية، فأخذ العلم عن يونس بن حبيب، وعيسى بن عمر وغيرهم. فتنوعت ثقافته، وتوسعت معرفته بعلم النحو والصرف، وتبوأ مكانة علمية متميزة. لمزيد من مقالات صبرى زمزم