العلم قيمة كريمة ، وحسن الخلق قيمة عظيمة ،والتعفف عما في أيدي الناس رغم الحاجة إليه قيمة جليلة، والزهد في مصاحبة الأمراء والنأي عن ممالأة الحكام بالرغم من إلحاحهم على ذلك قيمتان فُضليان، ومما لا شك فيه أن كل هذه القيم قلما تجتمع في شخص واحد,ولكنها ويا للندرة اجتمعت في شخص الشيخ الجليل العالم العظيم الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 ه - 174 ه )،الذي يستحق من شهادات الدكتوراه أضعاف مجموع درجات الدكتوراه التي حصل عليها كل طلاب العلم المتخصصين في علوم العربية منذ أن استجدت هذه الدرجة العلمية ،إلى ما شاء الله. ولم لا؟ ..وهو الذي أسهم في تطوير علم النحو فمن تلاميذه سيبويه، الذي دون محاضراته التي كان يلقيها في مسجد البصرة،فكانت اللبنة الأولى لصرح كبير اسمه كتاب سيبويه أقدم وأول وأعظم كتاب في علم النحو. ولم لا؟..وهو صاحب أول معجم (قاموس) في تاريخ اللغة العربية وهو (معجم العين) والذي أعاد فيه ترتيب حروف اللغة العربية بتصنيف عبقري ،وفقا لترتيب مخرج كل منه من الفم، فبدأ بالأعمق (العين،الهمزة ،الهاء ،الغين ،الحاء) حتى انتهى بالحروف الشفوية - التي تخرج من الشفتين- (الواو،الباء ،الميم)، ووضع فيه ما جمعه من مادة لغوية وتفسيرها،ثم توالت المعاجم العربية المختلفة من بعده حتى معاجم مجمع اللغة العربية الآن. ولم لا؟.. وهو الذي طور علامات الضبط و التشكيل والإعراب ، فبعد أن كانت مجرد نقاط توضع فوق الحرف أو تحته ، أصبحت في الصورة التي ما زلنا نستخدمها حتى الآن من فتحة وضمة وكسرة وسكون وشدة وهمزة. ولم لا؟..وهو الذي وضع علم العروض ذلك العلم الذي قنن أوزان وبحور الشعر العربي الذي يماثل باكتشافه إياه فك رموز حجر رشيد ، وبلغة أخرى نقول إنه بهذا العلم - الذي قد لا يعرفه إلا المتخصصون - يكون قد وضع حروف النوتة الموسيقية للشعر العربي، واكتشف ألحانه المفقودة التي عزف عليها الشعراء العرب جميعا كل قصائدهم قبله واستمر عليها عزف الشعراء حتى يومنا هذا. فكان العرب ينظمون الشعر بالسليقة دون أن يضعوا أيديهم على سر موسيقى الشعر، وكانوا يسمعون اللغة ويميزون بين الشعر وغيره من فنون النثر دون أني يكونوا يعرفون على وجه الدقة الفرق بين البحور المختلفة التي جاء عليها لحن هذه القصيدة أو تلك، فعندما استمع الوليد بن المغيرة إلى القرآن الكريم قال بلسان الخبير:ما هو بقول شاعر ،إلى أن تفتق ذهن هذا الرجل العالم العبقري إلى طريقة استطاع بها تقسيم كل ما سمعه من قصائد إلى ألحان ، وسمى كل لحن منها بحرا، وأطلق على كل بحر اسما ليميز بينه وبين غيره من البحور،فكيف تسنى له هذا؟ لقد طرأت بباله فكرة وضع علم العروض عندما كان يسير بسوق الحدادين، فكان لصوت دقدقة مطارقهم نغم مميز ومنهُ طرأت بباله فكرة العروض التي يعتمد عليها الشعر العربي. فكان يذهب إلى بيته ويبدأ بإصدار الأصوات بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة ،وعكف على قراءة أشعار العرب ودرس الإيقاع والنُظُم ثم قام بترتيب هذه الأشعار حسب أنغامها ،وجمع كل مجموعة متشابهة ووضعها معا، فتمكن من ضبط أوزان خمسة عشر بحرًا يقوم عليها النظم حتى الآن وهي (الطويل-المديد البسيط) وتعرف بالممتزجة،(الوافر-الكامل-الهزج-الرجز-الرمل-السريع-المنسرح-الخفيف-المضارع-المقتضب)وتسمى السباعية لأنها مركبة من أجزاء سباعية في أصل وضعها، وآخر هو (المتقارب) يعرف بالخماسي ،إلى أن وضع سعيد بن مسعدة وهو الأخفش الأوسط تلميذ سيبويه، بحر المتدارك،وهو البحرالوحيد الذى اكتشف بعد الخليل حتى الآن، فأصبح الخليل هو مؤسس علم العروض بلا منازع. وإذا كانت هذه بعض أمارات علمه كقيمة عظيمة ،فماذا عن أخلاقه وزهده وترفعه وتعففه؟ لقدعاش فقيرا صابرا،و كان شعث الرأس، شاحب اللون، متمزق الثياب، متقطع القدمين، مغمورا في الناس لا يعرف. قال النَّضْر بن شُمَيْل:إنه لا يوجد عالم لغوي اتفق المؤرخون على نبل أخلاقه وسماحة روحه، كما اتفقوا على الخليل، فصار حقا هو عالم العربية الأعظم الذي أثر في الأمة كلها فكراً وسلوكًا وخلقاً، فبالرغم من غزارة علمه التي تميَّز بها على سابقيه ولاحقيه وتفرد بها بين أترابه ومعاصريه،كان الخليل زاهداً ورعاً وقد نقل ابن خلكان عن تلميذ الخليل النضر بن شميل قوله: (أقام الخليل في خص له بالبصرة، لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال). كما نقل عن سفيان بن عيينة قوله: «من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد». فحينما أرسل إليه سليمان بن حبيب بن أبي صفرة والي فارس رسولا يدعوه إليه، حيث كان سليمان يدفع له راتباً بسيطاً يعينه به على شئون الحياة، فرفض القدوم إليه وقدم للرسول خبزاً يابساً مما عنده قائلاً: مادمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان وقال: أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ
وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ
وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ وكما أن أعظم شرف لأي فارس أن يموت في ميدان القتال ،فإن أعظم شرف لعالم فذ مخلص مثل الخليل أن يموت شهيدا في محراب علمه،وهو ما حدث بالفعل فقد توفي في مسجد البصرة سنة 174ه، وقال الذهبي في سبب وفاته في كتاب "تاريخ الإسلام": "يقال: كان سبب وفاة الخليل أنّه قال: أريد أن أعمل نوعًا من الحساب تمضي به الجارية إلى التاجر، فلا يمكنه أن يظلمها، فدخل المسجد وهو يعمل فكره، فصدمته سارية من سواري المسجد وهو غافل فمات، وأحسن بها من ميتة لعالم أفنى حياته في خدمة العام! فليرحمه الله وليجعل علمه وعلم من انتفع به إلى يوم القيامة في ميزان حسناته. لمزيد من مقالات صبرى زمزم