استعير هذا العنوان من الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي كتب مقالا بهذا العنوان في الستينيات ومناسبة هذا الاختيار أن المتابع لأدوات الاعلام القومية والحزبية والخاصة في الأسبوع الماضي, وللتعليقات التي برزت بشأن الحريق الذي نشب بأحد مباني مجلسي الشعب والشوري يخرج بصورة بانورامية عن الاتجاهات والآراء التي يعتقد القائمون علي تلك الأدوات الاعلامية أنها تعبر عن الرأي العام في مصر, أو ربما يريدون للرأي العام ان يتقبل تلك الاتجاهات والآراء ان يتشكل وفقا لها فالإعلام لايعكس الرأي العام أو يعبر عنه فقط ولكنه يؤثر أيضا علي توجهاته وتفكيره.
وأكثر مايتوقف أمامه المراقب السياسي مندهشا ومنزعجا هو تلك الاشارة المتكررة الي مشاعر الشماتة أو التشفي التي انتابت البعض والي اعتبار ماحدث بمثابة انتقام إلهي, ولابد ان نربط ذلك بما يتردد في الاعلام المصري بشكل منظم ومطرد لسنوات عديدة عن تدهور أوضاع المواطنين وتدني مستويات الحياة وانهيار الخدمات العامة, وبما أثارته احدي الصحف مؤخرا من أن روح مصر قد ماتت أو أنها في أحسن حال في حالة احتضار وعادة فإن التحقيقات والمقالات التي تعبر عن هذا الاتجاه تنتهي الي أن هذه الأوضاع أدت الي غياب مشاعر الانتماء أو الوطنية بين الشباب وأنه لايعنيه ان تقوم إسرائيل بإحتلال سيناء مرة أخري.
ولا أعرف ما هي الروح أو العقلية التي يمكن ان تدفع مصريا الي الابتهاج أو الشعور بالتشفي والشماتة لحريق يصيب أحد المباني التاريخية لبلاده؟.. وهل يمكن اعتبار مثل تلك المشاعر المريضة تعبيرا عن مجمل الرأي العام في أرجاء مصر؟.. أم أنها تنحصر في شريحة محددة؟
وألا يدعونا هذا كدولة ومجتمع الي ان نتوقف للتفكير في مصدر هذه الآراء ومنابعها الفكرية سواء لدي بعض المواطنين أو الاعلاميين, وأنا لا أتحدث علي الاطلاق عن النقد السياسي أو الخلاف الفكري فهو أمر ضروري في الممارسة الديمقراطية, ولكني أتحدث عن مظاهر سلبية وممارسات ضارة أنتشرت في بعض جوانب حياتنا السياسية والاعلامية فهناك لدد في الخصومة السياسية والفكرية يقود أصحابه الي السعي لاستئصال الآخر, وهناك عقلية الهزيمة والانكسار التي لاتري في المجتمع الا كل ماهو سييء وسلبي والتي تركز علي جوانب القصور والفشل دون تقديم البديل.. وهناك عقلية الإثارة والتهييج والتحريض الذي يفسره البعض بالرغبة في اجتذاب عين القاريء بعد ان زاد عدد الصحف بشكل يتجاوز قدرة السوق علي استيعابه. وهناك من يروج لروح انقسامية تسعي لتفتيت المجتمع علي أسس دينية وطائفية ومذهبية.
وكل هذه الممارسات السابقة من شأنها نشر مشاعر اليأس والاحباط وفقدان الأمل في المستقبل والترويج لثقافة عدمية لاتقيم بناء أو تعميرا.
ماهي منابع هذا النمط من التفكير؟ هناك بالطبع قسوة ظروف الحياة وبالذات علي الشباب الذي يتطلع للعمل وتكوين أسرة ويقارن بين وضعه وبين عشرات الصفحات الاعلانية عن الاستثمار العقاري الفاخر الذي يتجاوز كل قدراته ولكني أريد ان أضيف الي ذلك ان هناك قوي اقليمية ودولية تجد في مصلحتها اضعاف الكيان المصري الراسخ وتسعي الي تفتيته من الداخل مستخدمة في ذلك التوجهات التي أشرت اليها فأحد مظاهر الهيمنة المعاصرة هو استعمار العقول والسيطرة علي الأدمغة والتفكير وغرس شعور بأنه ليس لدينا تاريخ من حقنا ان نفخر به, وأنه لامستقبل لنا بدون قبول السياسات والنظم التي تطرحها الدول الكبري في كل المجالات وأكاد أقول ان هناك عملا مرتبا ودءوبا لمحو الذاكرة الوطنية والقومية للمصريين وإفقادهم الثقة في أنفسهم وفي مستقبلهم.
والذين يكتبون ويرددون القول عن موت روح مصر من الأرجح أنهم لايعرفون مصر والمصريين ولم يقرأوا تاريخ هذا البلد العظيم الذي لايعرف بعضنا قدره وقيمته, وأقول إن الجيل الذي انتمي اليه عاش فترات ومراحل صعبة وواجه تحديات كان يمكن ان تعصف بثقته بالمستقبل, ولكن ذلك لم يحدث, بل حدث العكس تماما فعندما بدأت بعض المشاعر السلبية في الظهور بعد عام1967 انصرف المثقفون المصريون الي التفتيش عن عناصر القوة والعزيمة في تاريخ مصر وشخصيتها وظهرت كتابات جمال حمدان, وحسين فوزي, ونعمات فؤاد, ووليم سليمان قلادة, والذي قرأ التاريخ لابد ان يعرف أن روح مصر خلاقة ومتجددة وأن عبقرية مصر والمصريين تتمثل في القدرة علي البقاء وإعادة الإعمار.
وتواصلا مع هذه الروح, فإن مواجهة التحديات التي تواجه مصر والمصريين لاتكون بنشر روح الهزيمة والانكسار والاستسلام ولكن بالتفتيش عن مصادر القوة وبعث الروح الوطنية. ولكي يحدث ذلك لابد أن يشعر كل مواطن أن لديه فرصة متكافئة مع الآخرين وذلك لأن أخطر مايصيب أي مجتمع هو شعور أهله وشبابه بغياب العدل وعدم الساواة, ولابد أن تتضح لدينا جميعا صورة المستقبل الذي نسعي للوصول اليه وان اختلفت السبل والأساليب فمصر لايمكن ان تدار بمنطق الشركة أو بعقلية من اليد الي الفم ولا يمكن اعتبار الربح هو المعيار الوحيد لتقييم الأشياء والرجال أو ان قامات الرجال ومكاناتهم تتحدد بقدر ما يمتلكون من أموال فالدور المصري عبر التاريخ تجاوز حدود الدولة المصرية ومايحدث في مصر يؤثر علي المناخ العام في المنطقة المحيطة بها.
انني أنتمي الي جيل يؤمن بأن مصر وطن كبير يعيشه شعب عظيم أثبت عبر تاريخه الطويل أنه قادر علي مواجهة الصعاب وعلي اقامة العمران وبناء الحضارة في أشد الظروف, جيل تعلم من نهرو أن من يعمل بالشأن العام في مجال الفكر والثقافة والسياسة عليه ان يكون متفائلا في كل الظروف وأن وظيفته هي بث الأمل في غد أفضل واستنهاض عزيمة الأمة وارادتها لصنع الغد الأفضل للمصريين. عن صحيفة " الاهرام " المصرية 30 / 8 / 2008