الحركة الطلابية المصرية بين الإنصاف والتجني جانب من الأمسية محيط – شيماء عيسى الوقوف على الحقائق التاريخية يعتمد على أكثر من شكل ، فقد يكون عبر شهود العيان والمؤرخين وسردهم الأمين للأحداث ، ولكن الأدب يقدم التاريخ بطريقة مختلفة ؛ لا ينقل الأديب الحقائق كما هي وإنما كما يراها ، ويشعر بها . أما الصدق بين الأديب وقارئه فيقتضي ألا يطرح له نصا مغايرا لحقيقة الأحداث أو الشخصيات ، كان ذلك أبرز انتقاد وجه للمجموعة القصصية الجديدة " السبعينيون " لمؤلفها الروائي المصري الكبير فتحي امبابي ، وهي تناقش حقيقة الحركة الطلابية المصرية في فترة السبعينيات أي في عهد الرئيس الراحل أنور السادات ، وأقام حزب " التجمع " مؤخرا ندوة لمناقشة المجموعة الصادرة عن دار " 15 /3" ، حضرها عدد كبير من النقاد والكتّاب وقراء المؤلف . من المعروف أن الطلبة المصريين لعبوا دورا رائدا في دفع الحركة السياسية بالبلاد وخاصة منذ ثورة 1919 وحتى سبعينيات القرن العشرين ، وضحوا بأمانهم الشخصي للتعبير عن مطالب الشعب باستقلال مصر وعدم تبعيتها للمحتل الإنجليزي والتخلص من السيطرة الاستعمارية الاقتصادية والسياسية والثقافية . وبعد الثورة كانت المطالبات بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وفك القيود المنيعة على تكوين الأحزاب ونشاطها ، ثم كانت المطالبة باسترداد سيناء إثر نكسة 1967 ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة . وكانت مظاهرات الطلبة تتعرض للقمع الأمني وينكل بالمتظاهرين أو يودعون في السجون . أما في فترة السبعينيات تحديدا والتي تركز عليها قصص المجموعة ، فقد شهدت ميل الرئيس السادات للإنفتاح الاقتصادي والتبعية لأمريكا والمصالحة مع اسرائيل وتراجع الدور المصري في القضايا العربية ، وتمكن طلاب الجامعات المصرية من التعبير جيدا عن رفض الشعب لهذه السياسات . لكن الطلبة بشر ، يخطئون ويصيبون ، بعضهم يحركه دافع الشهرة وبعضهم يحركه الواجب ، كما أنهم كانوا أعضاء بتنظيمات متباينة يسارية ويمينية .. فكيف يطلق فتحي امبابي حكما قيميا على الحركة جميعها؟ في المجموعة القصصية يصور المؤلف كل أبطال الحركة الطلابية فوضويين ، مهووسين بالجنس حتى أرملة شهيد النكسة تبحث عن المتعة وتترك طفلها ، وزوجة المناضل السابق متمرسة في الخيانة !!. المجموعة كذلك استخدمت الكثير من العبارات المبتذلة ، أخرجتها عن رقي الأدب المنشود ، وحفلت بالأوصاف الجسدية بغير أهمية ، فهل التعبير عن واقع منحرف يراه الأديب يتطلب استخدام عبارات أو أوصاف فجة من قاموس المنحرفين ! غلاف المجموعة أبطال القصص في قصة " حكايات قديمة " نرى دوارا ريفيا تقتحمه قوات الشرطة بحثا عن أحد الناشطين في الحركة الطلابية ، الطالب بكلية الهندسة المهووس بأحلام اليقظة الجنسية ، اليت القت به طويلا في طوابق سفلية غارقة في العطن.. ظل في السجن المظلم لا يفعل شيئا سوى التفكير في نشاطه السياسي وجدواه في وطن متهالك عكف على استجداء خصومه وقد احتلت أراضي منه بسهولة لا تتوقع .. تذكر المنشورات التي سقطت موقعة بأسماء أصحابها في يد الشرطة ، كلما سأله المحقق عن مكان أو شخص أو زمان نفى علمه تماما ، ونسب كل الأوراق التي بين ايديهم له وحده . يفاجأ الطالب بمدرس بكلية الطب يتعاون مع الأمن يتحاور معه في غرفة التحقيق ويقنعه بأن البلد لا يمكن أن تحارب وأن إسرائيل ليست العدو الوحيد إذ هناك الشيوعيين وتنظيماتهم السرية الممولة من الخارج للإضرار بالوطن ، هذا الرجل أصبح وزيرا بعدها !. وفي نهاية التحقيق ينفعل الشاب ويعترف بأنه يسعى لقلب نظام الحكم لأنه غير وطني ولا يعرف الديمقراطية .. وبعدها يشعر برغبة قوية في نوم عميق. اما قصة " حتى الموت " فتبدأ الأحداث بها من زنزانة 128 بسجن القناطر ، وهي تضم قادة التنظيمات الطلابية بالجامعات ، وفجأة يفكر المعتقلون في الإضراب عن الطعام ، كانت الفكرة أنهم مستعدون للتضحية بأجسادهم لشحذ همم الجماهير الغاضبة في الخارج ، انتشرت الفكرة بين السجون المختلفة رجالا ونساء ، معتقدين أن ذلك سيربك الجهاز السياسي ، ولكن الإضراب أعلن أنه سيكون " .. حتى الموت " ويعني ألا يخرج المضربون عن الطعام عن إضرابهم بغير تحقيق مطالبهم. تصف القصة حكايات الطلاب لبعضهم في السجون زمن الإضراب ومنهم مصطفى طالب التجارة الذي حدثهم عن مغامراته الجنسية الكثيرة في أوروبا ، ولكن في النهاية يقلع الجميع عن الإضراب من أجل "الوطن" .. !! في قصة " عطب التفاح " نرى البطلة " عفاف " زوجة شهيد راح في النكسة ، تركها وهي لازالت صبية صغيرة ، وهي تعيش بعد مضي سنوات خمس على موته حالة بحث عن أي رجل مصغية لنداء الجسد الملح وحده . تصف القصة استجابتها لاختلاس المتعة المحرمة في الترام مع أحد الطلاب المشاركين بالتظاهرات الوطنية ، وكيف تعرفت بعدها على أسامة الشقيق الأكبر له ، والذي استعان بها لتوزيع المنشورات بالجامعة ، ومع الوقت انضمت لحركتهم وفتحت شقتها مأوى لهؤلاء الطلبة شبانا وفتيات ، ورأت عدم مبالاتهم بأي قيم اجتماعية أو دينية . في هذه الفترة دفع مستشارو الرئيس السادات الجماعات الإسلامية للقضاء على اليساريين والشيوعيين وخاصة الطلبة ، أما " عفاف " فقد ظلت شقتها ملاذا للهاربين من بطش أمن الدولة ، تدرجت علاقتها ب" أسامة " وفي النهاية تحولت عفاف لعاهرة في صورة " مناضلة ثورية " !! ولكنها كانت رمزا لمصر كما أظهرت خاتمة القصة التي تقول : " عشر سنوات مرت على مقتل طه في الممرات .. نزل السادات القدس وصافح قتلته وهو يتهته بعبارات مزرية ، وهي لا تزال شابة صغيرة في الثلاثين " . أما قصة " صمت القرنفل " فبطلتها ابنة لأحد الثوار المصريين في فترة السبعينيات ، قرر والداها البحث عن دنياه ومتعته كل على حدة ، الزوجة " عابثة تستمريء الخيانة " والزوج يعيش خارج مصر ويقضي وقته مع الصديقات ، دنيا لا مكان فيها للطفلة نتاج زواجهما . كان البيت الذي تعيش فيه " ديانا " – 13 عاما - وتشاركها فيه الأم والجدة والخالة ، لا تنقطع عنه الحفلات ولا الصخب والرجال والفوضى ، في هذا الجو الملوث عاشت الطفلة وحملت الكراهية لكل أهلها ، وبادلوها كل ذلك بقسوة وعنف شديدين وازدراء لها ولأبيها. تمنت الطفلة الرحيل من هذا العالم ، ولكن يظهر ببيتهم صديق شاب لوالدها ، وبسبب معاملته اللطيفة لها وحنانه عليها اعتقدت أنه يحبها ، رأت فيه الرجل والأب الذي ضاع منها ، ولكن في النهاية تكتشف أن الأم هي هدفه ، رغم أنها متزوجة وتأكدت أنها تبادله الخيانة بل وتصر على أن تكون الصغيرة شاهدة على الخيانة رغم بشاعتها !! ..
في القصة الأخيرة " الأيام الأخيرة لصعود الملائكة " يتناول امبابي حياة المناضلين السابقين بعد مضي نحو عشر سنوات على حقبة الرئيس السادات ، البطلة " إيمان " تعاني اكتئابا حادا يدفعها للتفكير في الانتحار ، تذهب لعيادة طبيب نفسي يستخدم الكهرباء لعلاجها ، وتعيش على معاش من الوالد بسيط لا يكفي احتياجاتها ، الجميع يتهامس عليها ، إلا واحدا من رفاق الحركات الطلابية قديما ، لكنه غير قادر على إعادة التوازن إليها. كانت مضطرة للعمل بإحدى الجرائد كمترجمة ولكنها فوجئت بتحقير شديد يوجه لها وتظل تحلم بالإنتحار .. يقول زميل البطلة لها أن " السبعينيون " هم من أجبروا نظاما انهزاميا أعلن عن استسلامه على خوض حرب أعادت بعضا من الشرف لأمة جريحة لم تبرأ من هزيمتها القاسية ، وأنه لولاهم لكانت سيناء لا تزال محتلة مثل الجولان ولكنهم الآن علت مشاحناتهم وانهارت الأيدولوجية اليسارية من العالم كله وهم لا يدركون ذلك . . . فتحي امبابي نقد ومداخلات في الأمسية التي شهدها حزب التجمع لمناقشة المجموعة ، قال مدير الندوة الناقد أسامة عرابي أن المجموعة تقدم توثيقا أدبيا لجيل السبعينيات الذي انتفض رافضا الهزيمة والاستسلام لأعدائنا التاريخيين ومنها الإمبريالية الأمريكية. وأن المؤلف ركز على جوانب الواقع الصامتة ، كما انه ركز على الجوانب الإنسانية للمناضلين بقوتها وضعفها وهذا ما يتضح بقصة " حتى الموت " . من جهته رأى الناقد د. يسري عبدالله أن فتحي امبابي استطاع من الناحية الفنية القبض على ماهية القصة وجمالياتها ، وجاءت جمله طويلة ومعبئة بخلفيات الأبطال الأيدولوجية . أما العنوان فهو يشير لجيل الرفض والمقاومة الذي تعرض للإنكسار والخديعة بعد هزيمة 67 ، والذي تابع إجهاض إنجازات الحركة الوطنية ونصر 1973 بعد إجراءات الإنفتاح الاقتصادي ، ورأى ان المجموعة برمتها تعيد طرح الأسئلة الكبرى . كما انتقد علو النبرة الأيدلوجية بالكتابة في بعض القصص والتي طغت على المساحة الإنسانية للأبطال . ورأى أن قصة " عطب التفاح " تشكلت من مسارين متوازيين في السرد ، الأول حقيقي يؤرخ للحركة الطلابية المصرية في السبعينيات ، والثاني يسرد قصة زوجة الشهيد " الشبقة التي تقتلها الرغبة " ، وهنا يتقاطع العالم الواقعي والتخييلي أمام قاريء المجموعة . ويوظف الكاتب تقنية البناء الدائري حيث يدور الزمن وتعيد البطلة سيرتها الأولى ولكن مع فتى جديد بذات الترام ، وهذه الشخصية أيضا هي همزة الوصل بين خطي السرد ورابطهما ، والنص يكشف الأقنعة الزائفة ويفضح المتاجرين بالشعارات عبر شخصية " أسامة " الثائر الشاب . أما الناقد د. سامي سليمان ، فاعتبر أن المجموعة بها نوع من المراجعة لتجربة الجيل السبعيني المصري ، وحينما يكتب امبابي في مقدمة المجموعة أن التاريخ يقتل الحركات الأيدلوجية بدم بارد وبغير رحمة فهو صادق ، أما الأبطال فهم تراجيديين فرض عليهم القدر أن يتحولوا لمسوخ بشرية. ويرى أن الأيدلوجيا لم تؤثر سلبيا على عالم القص لدى فتحي امبابي ، ففي قصة " حتى الموت " يصور مشاعر المسجونين السياسيين حين يضربون عن الطعام ، فهم يتحدثون عن الحب وأشياء اخرى . وضمن المداخلات تحدث عضو المكتب السياسي بحزب التجمع " نبيل عتريس" ، وهو أحد طلاب الحركة الوطنية السبعينية في مصر ، وأعرب عن استيائه من تركيز القاص على نقطة الإنشغال بالجنس لدى المناضلين في هذه المرحلة ، ونفى ان يكون هذا أمرا شائعا حينها رغم شيوع الفكر الماركسي في هذا التوقيت . وقال إن العنوان " السبعينيون " يوحي بأن الأديب مقدم على توثيق للمرحلة ، وهو بما كتبه شوه صورتها وتخرج القاريء بانطباع أنهم كانوا مجموعة " سفلة " ولكنهم يحملون منشورات !. وأكد على ذات المعنى صلاح سليمان ، عضو اللجنة المركزية للحزب أيضا ، والذي رأى أن هذا الجيل ظلم تاريخيا ، وترسخت شرعية الرئيس السادات بسبب نصر أكتوبر ، ورأى أن قصة " عطب التفاح " ترمز لأن الجيل الجديد تلاعب بقدسية زوجة الشهيد رغم أنه رفع شعار المطالبة بدم من راحوا في هزيمة 67 على أيدي إسرائيل . كما ان قصة " صمت القرنفل " تذكر بقصة للأديب الجزائري الكبير الطاهر وطار الذي تخيل فيها أن الشهداء عادوا وشاهدوا أبناءهم مساحي أحذية أومنحلين .