ليس هناك نخب أو سياسيون في العالم لا يعتزون باستقلال بلادهم وسيادة وطنهم مثلما نراه ، ومنذ ثلاث سنوات ، في تونس. فالاحتفاء بتحرر البلاد من الاستعمار البغيض بات باهتا وكأنه حدث عابر ومتكرر، وذهب في ظن الكثيرين الذين قاطعوا الاحتفال بالعيد الوطني وباستعادة السيادة الوطنية وكأنهم يعاقبون بورقيبة ويهدمون ارثه ومنجزه الكبير، رغم أن الاستقلال أكبر من بورقيبة وغيره من الأشخاص، منفردين ومجتمعين ،فهو نتاج ونضال أجيال من أجل استعادة سيادة الوطن وحرية شعبه، وتضحيات رجال من أجل تحرر البلاد وحفاظا على هويتها العربية الإسلامية ، دفعوا أرواحهم ودماءهم من أجل القضية الوطنية ولم ينتظروا مكافآت وتعويضات ولم ينشدوا مناصب ولم يكونوا طلاّب كراس ومسؤوليات . إن المناضلين الحقيقيين هم الذين قاوموا الاستعمار حبا في الوطن وساهموا في بناء دولة الاستقلال وعملوا على توحيد التونسيين الذين فرقتهم العروشية والجهويات وعديد العصبيات الأخرى التي نفخ فيها المستعمر، وكان الزعيم بورقيبة محرك هذا التحول، إذ عمل مع بقية النخب الوطنية على تأسيس دولة عصرية ومؤسسات وطنية ، وبادر الى نشر التعليم والصحة وتركيز نواة اقتصاد وطني يقوم على مؤسسات عمومية ، إضافة الى تونسة الأمن والجيش وأغلب الهياكل الإدارية . لكن المنجز الكبير الذي حققه الزعيم لم يحجب سيئاته، وهي كثيرة، وأهمها كرهه للديمقراطية وللإسلام السياسي ونرجسيته المفرطة لكنها لا يمكن أن تشيطنه أوتنزع عنه جبة الزعيم الوطني والمصلح وصورة رجل نظيف اليد. وحتى خلفه ،الذي كبرت أخطاؤه السياسية وبرز فساده، فانه لم يسقط في مطب القطع مع المكاسب السابقة واتجه الى المحافظة ودعم المنجز والتناغم مع التحولات العالمية والإقليمية والبدء في إصلاحات تدرجية حققت أهدافها في عشرية حكمه الأولى . وفي المحصلة ودون محاسبة الماضي ولا محاكمة الحاضر فان الاحتفال بعيد الاستقلال يجب أن يكون حدثا جامعا للتونسيين لا باعثا على انقسامهم وتفرقتهم، لكن ذلك لن يتحقق إلا متى أدركت النخبة قبل العامة أن إحياء ذكرى الاستقلال هي استذكار لتضحيات جسام وإيمان بأن السيادة الوطنية هي مكسب عام وأمانة تتوارثها الأجيال ولن تكون احتفالا بمنجز دستوري أو تجمعي لأن الأحداث الوطنية لا يمكن أن ترتبط بشخص أو بأشخاص ، مهما ارتفعت مساهمتهم في تحقيقها . نقلا عن جريدة " الشروق " التونسية