احد الأشياء التي أبحث عنها أثناء السفر الي الخارج هي تلك الرابطة الانسانية التي تجمع بين أهل البسيطة جميعا, فهي بالضرورة موجودة, وسيكون من دواعي الغبطة للمسافر معاينتها ورصدها وتسجيلها, نعم هناك بالتأكيد أشياء تفصل بيننا لأن الله شاء أن يخلقنا عالما غنيا بتنوعه وتعدد الوانه ومظاهره, لغات وثقافات وعادات وتقاليد وسلوكيات تتباين وتختلف ولكن هناك دائما أشياء تجمعنا لعل أكثر مظاهر التشابه هو بين امريكا وأوروبا فهو تشابه ظاهر واضح يصافح العين في كثير من أساليب المعمار والبناء وتقسيم الشوارع والأحياء والبيوت علاوة علي أساليب المعيشة طعاما ولباسا وترفيها وزينة ومسكنا, وليس صعبا لمن عرف لندن وروما وباريس أن يجد أشياء ومظاهر من هذه المدن في المدن الامريكية ولكن ماذا يمكن ان يجده العربي مثلي عندما يبحث عما ينتمي اليه في سياحاته الامريكية؟ ولست هنا بصدد ما تصنعه الجاليات لنفسها فللصين مدينة صينية في كل مدينة امريكية وللأسبان أحياء لايتكلم فيها الناس غير لغتهم الأسبانية وللعرب مطاعم ومنتديات وجمعيات يبلغ عددها المئات وربما الآلاف, ولكن ماذا لدي الامريكان من الصفات او مظاهر الحياة التي تجمعهم بالعرب؟ فهناك لدي الامريكي تعلق بأسرته حيث تأخذ الأسرة الأولوية لدي الأب والأم, كذلك يأخذ الأولوية لهذين الوالدين تعليم الأولاد كما نراه لدي كثير من العائلات العربية, ولا أدري اذا كان ما يسميه الامريكيون الحلم الامريكي وما يعنيه من شوق الانسان الي الارتفاع بمستواه المعيشي نحو آفاق غير محدودة بمعني أنه كلما استطاع الوصول الي موقع أعلي تطلع الي ما هو أكثر علوا, أقول لا أدري أن كان هذا الشوق جبلة موجودة في كل البشر, وربما تكون حقا كذلك ولكن ما هو موجود في امريكا وربما لايكون موجودا في بلاد كثيرة غيرها هو أن المسالك والدروب تبقي دائما مفتوحة لتحقيق هذا الحلم بالأساليب المشروعة ولعل الالحاح علي تحقيق هذا الحلم هو ما يجعل بعض الناس المحبطين المنهكين الفاشلين في تحقيق هذا الحلم يلجأون بسبب احباطهم وخيبتهم الي الطرق غير المشروعة والانضمام الي العصابات وارتكاب الجرائم التي تكثر حتي داخل العائلات عندما يتنازعون فيلجأ فرد في الأسرة الي قتل منافس له داخل الأسرة وهي نسبة لا أعتقد أن لها مثيلا في البلاد الأخري, وأنا هنا أحكم من خلال قنوات تلفزية تتخصص في عرض هذه القضايا الموجودة في ارشيف القضاء وتكثر فيها نسبة جرائم القتل بين افراد العائلة الواحدة, والحقيقة فان فكرة المواطن العربي عن امريكا ستختلف بالضرورة عندما يلتقي هذا العربي بامريكا وجها لوجه وقد اجري معهد العالم العربي الذي يديره السيد جيمس زغبي باجتهاد وكفاءة, استفتاء بين العرب داخل الأقطار العربية فوجد أن الفكرة السلبية لدي عينات الاستفتاء تتحول الي فكرة ايجابية عند الذين زاروا الولاياتالمتحدة او قضوا وقتا بها للدراسة او العمل, وهو انطباع يصدق علينا جميعا فرحلتي التي استمرت عدة اسابيع الي هذا البلد العملاق استطاعت أن تفتح بصري علي كثير من المناحي الايجابية الجميلة في الحياة الامريكية التي لم أكن واعيا بها. المجتمع الامريكي مجتمع طبيعته التحول والتغيير والتطور, وهو شيء لا أقوله فقط مما لاحظته من فروق بين زيارتي الأولي منذ ثلاثين عاما وهذه الزيارة وإنما من خلال ما تقوله أعمال أدبية وفنية عن الفرق بين الماضي القريب والحاضر, وقد شاهدت أحداها وهو عرض مسرحي يتحدث عن الحياة في نيويورك قبل ثلاثة او أربعة عقود, شاهدته في مسرح تجريبي خارج برودواي اسمه مسرح لاماما, والتقيت بالمؤلف وهو من الامريكيين الأفارقة اسمه ليزلي لي كتب المسرحية منذ أربعة عقود مضت عن فترة من حياته اسماها كتاب لامبرت, ولامبرت هو بطل العرض الشاب الأسمر الذي يحب فتاة بيضاء ويحلم بتأليف كتاب يضعه في خانة واحدة مع أهل الأدب والشعر, وعالم المسرحية بعد ذلك هو عالم الأعماق السفلي للمجتمع الامريكي فالأحداث تدور في نفق مهجور اتخذته بعض العائلات الفقيرة مسكنا, وهي عائلات فقيرة ليست جميعها من الزنوج لأن الفقر كان يطحن البيض والسود علي السواء, والمسرحية بقدر ما تتكلم عن الفقر المادي فهي تتكلم ايضا عن فقر آخر يطال الروح, فقر معنوي ونفسي يصدق عليه قول المتنبي: من هان يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام وكان لابد ان اسأل مؤلف المسرحية عما اذا كانت هذه الصورة لاتزال موجودة في المجتمع الامريكي اليوم, فشرح لي كيف انه استوحي هذه المسرحية من مجتمع الخمسينيات عندما كان فتي يافعا يبحث عن فرصة لنفسه في عالم الأدب, وأنه عاش ظروف هذه المسرحية التي لم يعد لها وجود بهذا القدر من القسوة والألم فقد تحرك المجتمع بعيدا عن هذه المشاهد التي سجلها الأدب لكي تبقي محركا للضمير عما عاناه بعض الناس, وقد كانت فكرتي عن المجتمع الامريكي انه مجتمع الاحتكارات والرأسمالية الذي لايقيم اعتبارا لمجتمع الرفاه الاجتماعي والتأمينات والمعونات كما هو الحال في بريطانيا ودول الشمال الأوروبي مثل السويد وغيرها حيث مظلة المعونات الاجتماعية تشمل كل المحتاجين, فوجدت ان هذه الفكرة ليست صحيحة, وأن هناك برامج للرعاية الاجتماعية تشمل كل مناطق الحياة, وتتفرع الي ثلاثة أقسام وهي البرامج التي تقدمها السلطة الفيدرالية علي مستوي البلد كله, ثم الاخري التي تقدمها الولايات وهذه تختلف من ولاية الي اخري وتصل في بعض هذه الولايات الي ما يعادل المستوي السويدي, وهناك مستوي ثالث ربما يفوق ما يماثله في جميع انحاء العالم وهو المستوي الخاص بالمجتمع المدني وخارج الاطر الحكومية فالجمعيات الخيرية والمؤسسات والجمعيات تكاد تبلغ عددا يتعذر علي الاحصاء لأنك اثناء انشغالك بوضع هذه الاحصائية يكون قد تم انشاء اعداد كثيرة اخري, ولقد ذكرت مثالا لقريب لي يقيم هناك ويصرف جزءا من جهده ووقته وماله في العمل الخيري, وظننته مثالا فريدا ونادرا, ثم اكتشفت أن مثل هذا العمل الخيري يكاد يكون صفة ملازمة للأغلبية من أهل البلاد ولعلني أستطيع أن أتوسع في شرح هذه الفكرة من خلال الحديث عن العرب في امريكا خلال مقال مقبل بإذن الله. ** منشور بصحيفة "الاهرام" المصرية بتاريخ 1 ابريل 2009