إذا تسنّى لإنسان أن يزور فرنسا، سائحاً أو باحثاً، ولم يقصد مدينة البابوات أفينيون، فإن شيئاً مهماً يكون فاته، على رغم ما في عاصمة النور باريس من روعة وجمال، وما يوحيه المرور من تحت قوس النصر من رهبة وذكريات تاريخية، وما في المدن الفرنسية الأخرى من خصوصيات تجعل لكل زيارة نكهة خاصة، فإن مدينة أفينيون تختزل كل ذلك وأكثر، فتتسع لما هو أبعد وأكثر عمقاً، أشجارها شواهد تاريخية وجدران أبنيتها ذاكرة للتاريخ، هيا بنا نروى لك قصة أفينيون وجسر أفينيون الشهير المعلق بين الماء والسماء، ونحكى لك لماذا سميت هذه المدينة بالمدينة الدولة فيما مضى؟
كما ذكرت الكاتبة عبير حبيب بجريدة الحياة، فإنه منذ ما قبل التاريخ، كانت أفينيون ولا تزال موطن الثقافة وملتقى الحضارات، ولا عجب، فهي اليوم العاصمة الفرنسية للمسرح والنجوم، وكل مرحلة من مراحل تاريخها، وبخاصة عندما كانت ذات يوم عاصمة أوروبا المسيحية، محفورة على جدرانها وجسورها وقصورها وقلاعها. السائح في أفينيون لا يمكنه إلا أن يقف برهبة أمام سورها التاريخي الذي يحيط بها، وكأنها قلعة حصينة في وجه كل معتدٍ طمّاع.
فهل تتصور مدينة لا تدخلها السيارات؟ إذ تتوقف السيارات في أماكن خاصة، بعد السور مباشرة وقبل مداخل المدينة! هذا السور الذي يحيط بالمدينة من كل الجهات، يعلو الى مستوى واحد ويراعي أحياناً انحدار الأرض هنا وهناك، تتربع في أعلاه غرفة صغيرة أعدّت للمراقبة، وأشكال هندسية بديعة.
فهذه الأسوار تشهد بأن كتابة التاريخ بالحجارة مسألة فيها نظر، وإذ تجتاز السور، فإن كل الطرق بعده تقودك الى إحدى اعجوبات التاريخ وربما أسراره لتضعك أمام قصر البابوات الذي حكم فرنسا وأوروبا حقبة من الزمن. وتتقاسم أقسام القصر العظمة في الركائز كما في الأعمدة، في القاعات كما في الجدران، في الجمال كما في القدرة، في الباحات التي يزهر في أرضها الربيع، لكن هذا الصرح العريق، وما له من بُعد جمالي فني وهندسي، يعطي للفرادة عمقاً دينياً وكأنه سفينة تبحر بك إلى عمق التاريخ، وتحضّ كل فضولي على البحث والتنقيب عن الألغاز والأسرار - وربما الكنوز - التي أحاطت يوماً بهذا القصر وبأول بابواته كليمانت الخامس، إضافة إلى الكنز المفقود لفرسان المعبد
العصر الذهبي مدينة النسيم الهائج أو مدينة "إله النهر" توافق المؤرخون على تسميتها أفينيون، وما ساهم في شهرتها هو اللوحة الشهيرة لبيكاسو والتي تعرف باسم "سيدات أفينيون"، على رغم أن اللوحة لا تمت بأي صلة إلى أفينيون المدينة - الدولة. هذه المدينة عرفت عصرها الذهبي إبّان تعاقب البابوات عليها، وأولهم كليمانت الخامس الذي لجأ الى المدينة مع بداية القرن الخامس عشر، هرباً من الرومان واستقر فيها. هذا الحدث فتح الباب أمام أفينيون لدخول عصر عريق آخر حيث شهدت المدينة تعاقب 9 بابوات على ضفاف نهر الرون، والذين أصدروا كل القرارات المصيرية المتعلقة بأوروبا، لتصبح بعدها هذه المدينة عاصمة أوروبا المسيحية لمدة قرن (1309 - 1405) من الزمن. حتى مع رحيل البابوية إلى روما، لم تفقد أفينيون أهميتها الدينية والروحية، إذ إن تاريخ البابوات وحكايا الرهبان فيها منقوشة في صخورها ونهرها وقصرها الذي يحمل في حناياه الألغاز والأسئلة حول الحروب الصليبية وفرسان المعبد وكنزهم المفقود حتى اليوم!
نأتى هنا إلى قصة جسر أفينيون المعلق الذي يخترق نهر الرون ويتوقف في وسطه، حيث يعتبر أكبر وأطول مسرح للرقص معلق بين الماء والسماء، ويشكل هذا الجسر امتداداً لقصر البابوية والكنيسة الكبرى التي تحدت الزمن وتحولاته.
الكنز المفقود ارتبط تاريخ البابا الأول لأفينيون وأوروبا، كليمانت الخامس، ب "فرسان المعبد"، وهؤلاء هيئة منظمة تأسست في أوروبا إبان الحروب الصليبية، لحماية حجّاج القدس وكنيسة القيامة، وكانت هذه المنظمة مستقلة، حتى أن الكنيسة والبابا لم يكن لهما أي سلطان عليها، ثم ذاع صيت الفرسان وتطور نفوذهم وحيكت حولهم الأساطير وبعض الإتهامات والتداعيات. إلا أن الأكيد هو استحواذهم على كنوز وأموال طائلة ووثائق تاريخية سرية، حتى إن البعض يدعي أن بعض كنوز القدس كان في عهدتهم! بعد شيوع كل هذه الاتهامات، أمر كليمانت الخامس بحل هذه المنظمة وحرق فرسانها في الساحات العامة، إلا أن كنوزهم لم تحرق ولم يُعرف مصيرها حتى اليوم. فأين اختفت كنوز فرسان المعبد! وأي قلعة من قلاع أفينيون تخبئ في حناياها أسرارهم؟ كل هذه الأسئلة لم نجد لها إجابات حتى الآن حتى تظل هذه المدينة الرائعة لغزاً محيراً تبيح لزائرها التمتع بجمالها دون معرفة أسرارها.