تحديات الجغرافيا السياسية في لبنان د. محمود توفيق تتميز الحياة السياسية في لبنان بالفوضي وعدم الاستقرار منذ بداية عهده بالاستقلال عام1944, وتتمثل مظاهر عدم الاستقرار في كثرة التعديلات الدستورية والوزارية, والمظاهرات, والإضرابات, والاغتيالات السياسية, والحروب الأهلية, والأحزاب السياسية, وتعود المسألة إلي أن النظام السياسي المعمول به حاليا يستند إلي توازن تاريخي بين الطوائف الدينية لم يعد يتفق مع التركيبة الدينية المعاصرة لسكان هذا البلد, وبالتالي أصبحت قواعد هذا النظام ومؤسساته التي تحددت منذ أكثر من نصف قرن مضي لا تعبر عن القوي والفئات الصاعدة في المجتمع, ولا توفر لها قنوات الاتصال اللازمة للمشاركة في صنع القرار السياسي, وهنا تكمن مشكلة لبنان السياسية التي تتمثل في الصراع الدائر بين قوي مجتمعية بازغة تطالب بتعديل قواعد هذا النظام السياسي الطائفي, وأخري ترفض المساس به. وتفصيلا لما سبق نقول بأن البيئة العامة التي يعمل فيها هذا النظام تضم مجتمعا سكانيا ينقسم إلي ديانتين إسلامية ومسيحية, وينقسم اتباع هاتين الديانتين إلي عدة طوائف مذهبية, حيث تتمثل الطوائف الإسلامية في الشيعة, والسنة, والدروز, والعلويين, والإسماعيليين. أما الطوائف المسيحية فتضم الموارنة, والروم, والأرثوذكس, والروم الكاثوليك, والأرمن الأرثوذكس, والأرمن الكاثوليك, ويقدر عدد الطوائف المعترف بها رسميا بسبع عشرة طائفة, وهو عدد كبير, سواء بالنسبة لحجم السكان(3.3 مليون نسمة عام2000), أو رقعة الدولة(10425 كم2), وهذه الكثرة النسبية لعدد الطوائف في لبنان تعود أساسا إلي الطبيعة الجبلية الغالبة علي سطح هذا البلد, التي أدت إلي تقطيعه إلي وحدات تضاريسية منفصلة, بحيث صارت كل واحدة منها تشكل قاعدة لبيئة اجتماعية تكاد تكون مستقلة بذاتها. وفي ظل الطبيعة الجبلية الغالبة, وانتشار ظاهرة الكهوف والمغارات الناتجة عن الإذابة الكيماوية للتكوينات الجيرية, وتوافر موارد المياه, صار لبنان ملجأ وملاذا آمنا في منطقة المشرق العربي لأبناء الطوائف الذين فروا بعقيدتهم من وجه الاضطهاد الذي تعرضوا له من جانب مخالفيهم في العقيدة من المسيحيين أو المسلمين, خصوصا خلال العصر العربي الإسلامي(660 1258) الذي أصبح فيه إقليم الشام ملجأ للأقليات العربية والدينية في منطقة المشرق العربي. وكما وفرت هذه التضاريس الجبلية والظواهر الناتجة عن إذابة التكوينات الجيرية الحماية لأبناء الطوائف الذين فروا إليها, فإنها وفرت لهم أيضا العزلة التي ساعدت علي تكريس النزعة الانفصالية في نفوس أبناء هذه الطوائف, وتعميق هوة الخلاف بينهم الذي بلغ حدا اتخذت معه كل طائفة نظاما تشريعيا وتعليميا خاصا بها, ونطاقا إقليميا تتركز فيه. فالطوائف الإسلامية تتركز عموما في السهل الساحلي, وسهل البقاع, والكتلة الجبلية في الجنوب, بينما تتركز الطوائف المسيحية بشكل واضح في منطقة جبال لبنان في الشمال والوسط, أما أحياء مدينة بيروت العاصمة فهي موزاييك طائفي بكل معني الكلمة, وزادت من حدة التركز الجغرافي لهذه الطوائف ظروف الحرب الأهلية التي أجبرت المسلمين من سكان الأحياء والمناطق التي تسكنها أغلبية مسيحية متعصبة إلي الفرار إلي الأحياء والمناطق التي تقطنها أغلبية مسلمة بمثل ما دفعت المسيحيين من سكان الأحياء والمناطق التي تقطنها أغلبية مسلمة متعصبة إلي الفرار إلي الأحياء والمناطق التي تسكنها أغلبية مسيحية, وهذا لا ينفي بالطبع أنه مازال هناك العديد من اللبنانيين الذين يعيشون كجماعات أسيرة داخل تجمعات طائفية مختلفة عنها. والنظام السياسي المعمول به في لبنان, الذي نص عليه دستور عام1926 وتعديلاته المتلاحقة في أعوام:1927, و1929, و1943, و1990, يقضي بتوزيع السلطة السياسية علي أساس التوازنات الطائفية, وذلك وفقا لبيانات تعداد عام1932 الذي لايزال هو تعداد سكان لبنان الوحيد حتي الآن, حيث تمانع الطوائف التي نالت مزايا سياسية بموجبه من إجراء تعداد آخر ينتج عنه حدوث تغير في أوزان الطوائف, وبموجب هذا التعداد الذي احتسب المقيمين في الخارج في تعداد السكان برغم انقطاع صلاتهم بالوطن, أصبح المسيحيون يمثلون أغلبية بين السكان, بمثل ما أصبح الموارنة من أكبر الطوائف في لبنان. وبناء علي التوازن الديموجرافي بين الطوائف المختلفة, قضي دستور البلاد بأن يكون رئيس الجمهورية مارونيا مسيحيا, ورئيس مجلس الوزراء سنيا مسلما, رئيس مجلس النواب شيعيا مسلما, وكما قضي الدستور بأن يكون قائد الجيش مارونيا مسيحيا, وتكون أغلبية مقاعد مجلس النواب لمصلحة المسيحيين بنسبة6:5, كما تمثل الطوائف وفقا لهذه التوازنات في الوظائف العامة, ومن هذا المنطلق أصبح مفهوم الطائفية في لبنان لا يقتصر علي البعد الديني فحسب, بل يمتد ليشمل أبعادا سياسية واجتماعية واقتصادية, وهو الأمر الذي أدي إلي تكريس الانقسام السياسي والفوارق الاجتماعية بين أبناء الشعب الواحد. وفي ظل هذا النظام السياسي الطائفي الذي أقره الدستور وأكده الميثاق الوطني عام1943, احتل الموارنة قمة السلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي في لبنان, وهذا ما جعلهم يتصدون بشدة لأية محاولة من جانب القوي والفئات الصاعدة في المجتمع لتعديل وإصلاح هذا النظام السياسي الطائفي, خصوصا بعد أن اختل التوازن الطائفي لمصلحة المسلمين نتيجة لارتفاع معدلات المواليد بينهم, أو لنزوح أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلي لبنان. فوفقا لتقديرات يوليو عام2007 بلغت نسبة المسلمين في لبنان59.7%, في مقابل39% للمسيحيين من أصل3.925.502 نسمة يشكلون مجموع السكان. كما بلغت نسبة الموارنة20% من إجمالي السكان, وهي نفس نسبة السنة تقريبا, وذلك في مقابل29% لمصلحة الشيعة. وربما كان التغيير الوحيد الذي ترتب علي اختلال التوازن الطائفي لمصلحة المسلمين هو تقسيم مقاعد مجلس النواب بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين بموجب وثيقة الوفاق الوطني التي تمخضت عن اتفاق الطائف. والخلاصة أن التوازن الطائفي الماروني السني الذي قام عليه النظام السياسي في لبنان وأكده الميثاق الوطني عام1943, قد تعرض للاختلال لمصلحة المسلمين عامة, والشيعة خاصة, وبالتالي لم يعد هذا النظام معبرا عن القضايا الاجتماعية المطروحة, والقوي والفئات الجديدة الصاعدة في المجتمع, التي تطالب بإلغاء الطائفية السياسية, وقاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة, وتلقي هذه القوي الصاعدة دعما ومساندة من بعض القوي الإقليمية, علي رأسها سوريا وإيران, وعلي الجانب المقابل يرفض الموارنة تعديل هذا النظام السياسي الطائفي الذي أسبغ عليهم الثروة والسلطة, وطرحوا كحل بديل ووحيد تقسيم لبنان علي أساس طائفي إلي مقاطعات وفقا للنموذج الفيدرالي السويسري, وإصرار الموارنة علي التمسك بالطائفية بالمخالفة لرأي الغالبية إنما يعود إلي تمتعهم بمساندة وحماية قوية من جانب القوي الغربية, وعلي رأسها فرنسا, والولايات المتحدة. وهكذا نخلص إلي القول بأن الظروف الجغرافية للأرض اللبنانية كانت أحد العوامل التي أسهمت بشكل غير مباشر في كثير من الأزمات اللبنانية واستمرارها, سواء بحكم مسئوليتها عن تهيئة البيئة الصالحة لجذب أبناء الطوائف الفارين بعقيدتهم من وجه الاضطهاد في المشرق العربي, وتكريس النزعة الانفصالية بينهم, أو لمسئوليتها عن عدم تهيئة الظروف الملائمة لقيام حكومة مركزية قوية, قادرة علي بسط سيادتها علي كامل التراب اللبناني, وفرض إرادتها علي جميع الأطراف المتشاكسين, حتي أصبح مبدأ لا غالب ولا مغلوب إطارا يحكم أداء النظام السياسي ويحد من قدرته علي صنع القرار, خصوصا مع تزايد دور القوي الخارجية في العملية السياسية. عن صحيفة الاهرام المصرية 24/5/2008