الأزمة اللبنانية بين بنية الداخل وتجاذبات الخارج يوسف مكي لم تكن أحداث لبنان الأخيرة، والتطورات التي صاحبتها، رغم مشهدها الدرامي مفاجئة للذين تابعوا عن قرب ما يحدث بالمشهد السياسي في هذا البلد العزيز، منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. فمنذ ذلك الوقت، اختلف اللبنانيون حول الطريقة التي ينبغي التعامل بها تجاه جريمة الاغتيال. وبدا واضحاً أن الخلافات التي طفحت على السطح لم تكن مرتبطة فقط بالجريمة، بل كانت انعكاساً لخلافات جوهرية أخرى حول السياسات التي ينبغي على لبنان انتهاجها تجاه عدد من القضايا الإقليمية. كما كانت تعبيراً عن اصطفافات إقليمية ودولية لمختلف الفرقاء، المعنيين بالصراع. وجاءت حرب يوليو/تموز عام ،2006 التي بدأت بقيام أعضاء من حزب الله باختطاف عدد من الجنود الصهاينة، لتضاعف من حدة الصراع بين الفرقاء ولتزيد من تعقيدات الأزمة، التي لم تكن بحاجة إلى المزيد من صب الزيت على النار.
انقسم اللبنانيون، إثر اغتيال الحريري إلى موالاة ومعارضة. تتهم الموالاة المعارضة بتنفيذ أجندة للحكومتين السورية والإيرانية في لبنان، وأن حزب الله ليس سوى واجهة وأداة تنفيذ لتلك الأجندة، بينما تتهم المعارضة الموالاة بالخضوع للضغوط الأمريكية والصهيونية، وأن سياسات الحكومة الحالية ليست إلا تماهياً واستجابة لتلك الضغوط.
والواقع أن القراءة الصحيحة لما يجري في لبنان، تشير إلى جملة من الحقائق التي تؤكد أن الخلافات بين الغرماء هي أعمق بكثير مما يتردد حولها، وأن من السذاجة ربطها فقط بحادثة الاغتيال. أهم تلك الحقائق، أن لبنان شهد منذ استقلاله صراعات حادة بين مختلف كتله السياسية، وأن اصطفافات الفرقاء بمختلف اتجاهاتهم، بالتاريخ اللبناني المعاصر، ليست ثابتة، ولا تحكمها مواقف إيديولوجية، بل هي نتاج مواقف براجماتية، تحكمها قوانين المنفعة. فعدو الأمس، يمكن أن يكون حليف اليوم، والعكس صحيح، فقد حدث أن تحول حليف الأمس إلى عدو شرس فيما بعد. إن هذا الرصد على بساطته يطرح سؤالاً منهجياً ومهماً، له علاقة مباشرة بمحركات اصطفاف الفرقاء في هذا الخندق أو ذاك. بمعنى آخر، لماذا هذا الانتقال السريع لأطراف الصراع، وتبادل المواقف السياسية فيما بينهم؟
الحقيقة الأخرى، وهي ذات صلة بالحربين الأهليتين اللتين اشتعلتا في لبنان بنهاية الخمسينات، ومنتصف السبعينات من القرن المنصرم. فقد ارتبطت الحربان الأهليتان السابقتان، كما هو الحال مع الأحداث الأخيرة، بتدخلات مباشرة وغير مباشرة من قبل قوى إقليمية ودولية، وكانت في ملامحها البارزة تعبيراً عن صراعات، ليس للبنان أو اللبنانيين فيها ناقة أو جمل. لم تكن أسباب تلك الصراعات والاختلافات، تدور حول الشؤون الداخلية للبنان، ولم يكن لها علاقة بالحياة اليومية للبنانيين.
فقد تمحورت أسباب الحرب الأهلية الأولى حول الصراع الدائر آنذاك بين الدول العربية الرافضة لسياسة الأحلاف، وكانت السعودية ومصر وسوريا تتصدر المعارضة لسياسة الأحلاف، التي برز من بينها حلف بغداد الذي ضم العراق والأردن وتركيا وإيران وباكستان، وبريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية. وكانت السياسات الغربية تسعى جاهدة لربط لبنان بذلك الحلف.
كان الرئيس اللبناني آنذاك، كميل شمعون منسجماً مع سياسة ربط لبنان بذلك الحلف. ولما كانت فترته الرئاسية قد أوشكت على الانتهاء قبل استكمال ضم لبنان لعضوية الحلف المذكور، فقد طرح تمديد فترته الرئاسية لدورة أخرى. ورفضت قيادة المعارضة فكرة التمديد. واشتعلت حرب أهلية بين المؤيدين للرئيس شمعون والمعارضين له. واتهم الفريق المؤيد للرئيس اللبناني حكومة الرئيس جمال عبد الناصر، التي كانت تقود دولة الوحدة بين مصر وسوريا بدعم المعارضة بالمال والعتاد. ورفضت حكومة الجمهورية العربية المتحدة تلك الاتهامات، ووصل الأسطول الأمريكي إلى السواحل اللبنانية، وهدد بالتدخل ضد المعارضة. وتدخلت الأممالمتحدة. وانتهت الأزمة باستقالة الرئيس كميل شمعون، وبتسلم قائد الجيش اللبناني، فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية اللبنانية.
والقراءة الموضوعية لأسباب تلك الحرب، لا يمكن أن تغفل دور الحرب الباردة بين القوتين العظميين، الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق. فحلف بغداد كان محاولة غربية لاحتواء التسلل السوفييتي إلى منطقة الشرق الأوسط. كما كان محاولة للحيلولة دون انتشار مد حركة التحرر الوطني المناوئة للهيمنة الغربية لعموم المنطقة العربية. إذن فالحرب الأهلية الأولى في أسبابها المعلنة، هي أحد المظاهر الصريحة للحرب الباردة.
لم يختلف واقع حال الحرب الأهلية الثانية في لبنان، عن الحرب الأهلية الأولى. فقد بدأت مقدمات هذه الحرب بتمركز حركة المقاومة الفلسطينية في بعض مناطق جنوب لبنان، إثر نكسة يونيو/حزيران عام ،1967 لقد نزح آلاف الفلسطينيين إلى لبنان، بعد النكسة أثناء رئاسة شارل الحلو للجمهورية اللبنانية. وآنذاك، عبّرت المؤسسة المسيحية التقليدية اللبنانية عن خشيتها من أن يحدث النزوح الفلسطيني إلى لبنان خللاً في تركيبته الديموغرافية. وبدأ الصراع بين المقاومة والجيش اللبناني الذي طالب بمنع الفلسطينيين من حمل السلاح. وتوصل الفلسطينيون واللبنانيون، من خلال وساطة مصرية، رعاها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى اتفاقية في عام ،1968 عرفت باتفاقية القاهرة سمحت للفلسطينيين بحمل السلاح داخل مخيماتهم فقط، وأتاحت لهم فرصة الإشراف على الجوانب الأمنية في تلك المخيمات.
لكن تلك الاتفاقية، لم تنه الخلافات بين المقاومة الفلسطينية، والقوى التقليدية المسيحية، التي بدأت في تزويد ميليشياتها بالعتاد والسلاح. وفي عام ،1975 بدأت الحرب الأهلية الثانية بين الفلسطينيين، والقوى اليمينية، وانضمت المعارضة برئاسة زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، كمال جنبلاط إلى جانب الفلسطينيين. واجتاح الجيش السوري لبنان لمساندة الرئيس اللبناني، سليمان فرنجية. واستمرت الحرب بين كر وفر حتى تم التوصل إلى اتفاق الطائف. وخلال فترة الحرب تغيرت خارطة التحالفات، وغير الجيش السوري من طبيعة تحالفاته، تارة مع اليمين المسيحي، وتارة أخرى مع الفلسطينيين وما عرف في حينه بالحركة الوطنية اللبنانية التي كان يقودها كمال جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي والد الزعيم الحالي وليد جنبلاط، الذي يعتبر قطباً رئيسياً في خندق الموالاة الآن.
وبالقدر الذي كانت فيه الصراعات الإقليمية أهم عناصر التحريض في الحرب الأهلية الأولى، كان الصراع العربي- الصهيوني وتعقيداته، والاختلاف حول الوقوف في خندق المقاومة الفلسطينية، أو في الخندق المعادي لها هي أهم أسباب الحرب الأهلية الثانية.
إن هذه القراءة تطرح بحدة سؤالاً منهجياً آخر، هو لماذا يقبل اللبنانيون أن يكونوا مجرد أحجار شطرنج على لوحة ليسوا لاعبيها الرئيسيين؟ ولماذا يتبارى بعضهم لتنفيذ أجندات ليست لها علاقة بمصالح لبنان؟
الإجابة على هذا السؤال ستقودنا مباشرة إلى التركيبة السياسية للبنان. فهذه التركيبة قائمة في الأصل على أسس القسمة الطائفية. بمعنى أن لكل طائفة في لبنان، رغم هشاشة بنيتها، مجالها الحيوي، الذي تمارسه داخل البلاد بشكل مستقل. وهي لكي تثبت حضورها السياسي والمعنوي بحاجة إلى ظهير يقدم لها الحماية والدعم والمساندة، لكي تنال حصة أكبر من القسمة السياسية اللبنانية، أو على الأقل لتحتفظ بنصيبها من الكعكة. ولأن الفرنسيين حين فرضوا تلك القسمة لم يضعوا في اعتباراتهم مصلحة لبنان، وخلق نظام سياسي، يرجح فيه مفهوم المواطنة، المستند إلى الكفاءة والخبرة والقدرة، والالتزام الوطني، وليس المحاصصة، فقد كان من الضروري أن يستمر الخلل السياسي البنيوي، وأن تتعمق الخلافات بين الفرقاء المعنيين مباشرة بالقسمة. وأن تبقى الخلافات مرشحة دائما لمزيد من التوتر، لتصل حد الاحترابات الأهلية، التي في معظم الأحيان تنتهي من دون غالب أو مغلوب، ويدفع ثمنها لبنان... كل لبنان.
إن خلاصة مناقشتنا، هي أن الأوضاع في لبنان، ورغم التوصل إلى اتفاق في الدوحة بوساطة قطرية، ستبقى مرشحة باستمرار لمزيد من الانهيارات، ما لم تتم إعادة النظر في التركيبة السياسية للحكم، ولمفهوم المحاصصة، وما لم يعمم مفهوم الدولة الدستورية، التي تنتفي فيها القسمة الطائفية، ويغلب مفهوم المواطنة.
وليس أمامنا في هذه اللحظات الحرجة، سوى مناشدة الإخوة اللبنانيين، في مختلف الخنادق والاتجاهات، اللجوء إلى الحكمة وتغليب لغة العقل وحقن الدماء، فحين تشتعل الحروب بين أبناء الوطن الواحد، ليس هناك أحد رابح وآخر خاسر. إن كل جرح نازف، وكل قذيفة تطلق سيتردد صداها ألماً ووجعاً على عموم اللبنانيين، فعسى أن يتغلب صوت الضمير والعقل، وتعود البسمة والألق والبهجة إلى شجرة الأرز، رمز جمال لبنان وسحره. عن صحيفة الخليج الاماراتية 22/5/2008