ستون عاما.. نحتفل بالنكبة وإسرائيل تحتفل بالنصر! صلاح الدين حافظ اليوم تكتمل ستون عاما كاملة منذ نكبة فلسطين وقيام إسرائيل علي أنقاضها في15 مايو1948.. ستون عاما مرت كلمح البصر, لكنها حملت في الحقيقة كل مرارات التاريخ, وامتلأت بأغزر دماء الضحايا, وازدحمت بقليل من الانتصارات وكثير جدا من الانكسارات... بهذه المناسبة تقيم إسرائيل أضخم احتفالات في تاريخها, دعت إليها نحو60 من كبار الزعماء ورؤساء دول العالم, ليس فقط لتبهرهم بصخب الاحتفال ورايات النصر, ولكن لتقول لهم ولنا ولكل العالم, إن الدولة الصهيونية التي كانت حلما هائما في ضباب الخيال, أصبحت أقوي دولة في الشرق الأوسط وخامس قوة نووية في العالم, رغما عن أنوف الجميع, ورغما عن كل الحروب والعدوان والجرائم ضد الإنسانية الملتصقة بها... وبالمقابل نحتفل نحن العرب بالذكري الستين للنكبة, مكتفين برفع الرايات السوداء, وإطلاق الشعارات الصاخبة في المظاهرات الأكثر صخبا, خجولين بالطبع من مجرد محاولة المقارنة, بين ما فعلته إسرائيل عبر ستة عقود, وما فعلناه نحن بالأرض السليبة والتاريخ الضائع والإنسان المقهور! رفضنا قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود عام1949, لكننا الآن أمام توسع إسرائيلي هائل, ابتلع كل فلسطين واحتل الجولان السورية وبعضا من جنوب لبنان, وظل يحتل سيناء المصرية حتي استعادتها مصر وفقا لاتفاقية كامب ديفيد عام1979 مقابل السلام والتطبيع وغيره... وها نحن بمناسبة الذكري الستين للنكبة, ندخل نكبة بعد أخري, وليس أدل علي ذلك من استمرار احتلال الجولان دون حراك, بل الأدهي أن العرب يزحفون طلبا للرضا الإسرائيلي بالتفاوض مع الفلسطينيين بإعطائهم فتاتا من أرضهم تقام عليها دولة كرتونية, تفصلها حوائط أسمنتية ومواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية, لتصبح كما التعبير الشائع قطعة من الجبن السويسري المملوء بالثقوب! في الذكري الستين للنكبة, يحل هذه الأيام الرئيس بوش ضيفا خاصا علي احتفالات إسرائيل, ليس فقط ليؤكد مرة بعد المليون, أن إسرائيل في بؤبؤ عينه وعين أمريكا, ولكن ليمارس مزيدا من الضغط بنوعيه الناعم والخشن علي الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما, ليقبلوا ما هو مطروح عليهم قبل أن تضيع الفرصة الأخيرة, بعد أن تراجع هو عن وعده بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة إلي جوار إسرائيل قبل إنتهاء ولايته في عام2008... لا الوعد صادق ولا صاحب الوعد أمين! وبينما إسرائيل تحتفل بذكري تأسيسها, هانحن نقتتل, ويتراجع العرب أو معظمهم عن الدفاع عما كان يسمي القضية المركزية فلسطين إنشغالا باهتمامات أخري أقل شأنا, وينقسم الفلسطينيون إلي شتات متناثر وفصائل تتناحر, وضاقت بنا الأرض بل الأحلام, فصرنا نختصر القضية في سلطة لا سلطة لها علي أرض الواقع, ونختصر حلم تحرير فلسطين في قطعة أرض غير متصلة لا تملك أسس بناء الدولة الموعودة, ونختصر قضية القدس, في مجرد البكاء عليها والتطلع لها من بعيد, بعد أن ابتلعها الاستيطان وتمت أسرلتها واحتلها أكثر من250 ألف صهيوني, يتزايدون يوما بعد يوم... وتصوروا أن كل الجهود المبذولة الآن, بعد ستين عاما من ضياع فلسطين, لكي يقبل الإسرائيليون التفاوض مع الفلسطينيين علي22 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية, تشكل الضفة الغربيةوغزة, وبينما غزة محاصرة داخل360 كيلومترا مربعا ومليون ونصف المليون فلسطيني مسجونون فيها, فإن الاستيطان الصهيوني ابتلع نحو60 في المائة من الضفة ويحتلها أكثر من400 ألف مستوطن, بعد أن تم نزع القدس والأغوار, ولم يبق لما يسمي التفاوض سوي40 في المائة من الضفة! علي هذه القطعة من الجبن السويسري المملوء بالثقوب, يتصارع الفلسطينيون مع الإسرائيليين, عبر مفاوضات عبثية هدفها إضاعة الوقت, ويتناحر الفلسطينيون أنفسهم, بين من يفاوض انقاذا لما يمكن إنقاذه, وبين من لا يري أملا إلا في المقاومة المسلحة طريقا للتحرير حتي ولو بعد قرون... ومن عبث الأقدار ألا يتعلم الفلسطينيون ومعهم كل العرب, درس التاريخ, فإذا بالتناحر بين حماس في غزة وفتح والسلطة في الضفة, أسخن وأسوأ مما بينهم وبين عدوهم إسرائيل, بينما يقف معظم العرب, إما شامتين وإما عاجزين! لم تكن النكبة قبل ستين عاما في احتلال الصهيونية للأرض الفلسطينية فقط, ولكن النكبة الأكبر ترسخت عبر ستة عقود في تبدد ثورة التحرير وتهاوي عزيمة المقاومة عند الأغلبية العظمي, حتي عشنا زمنا يقتتل فيه الثوار طمعا في بيع جلد النمر قبل اصطياده, وانظر إلي حدة الخصومة بل العداء بين حماس وفتح... وتأمل تراجع المسيرة وتراخي المطالب وتهاوي القدرات وضعف القيادات, من الشيخ أمين الحسيني, إلي أحمد الشقيري, إلي ياسر عرفات, تسليما لأيدي محمود عباس وإسماعيل هنية, اللذين يقبلان الحوار والتهدئة مع العدو الإسرائيلي, ولا يقبلان الجلوس وجها لوجه والحوار المباشر بينهما! ولا يكفي أن يبرئ العرب ذمتهم, فيلقوا العبء كل العبء علي الفلسطينيين, وينصرفوا في الذكري الستين للنكبة إلي مجالس الفتوي والنميمة, بل إنهم شركاء في المسئولية, شركاء في أعباء النكبة, شركاء بقدر ما حاول بعضهم توظيف واستغلال القضية الفلسطينية لصالح أهدافه ومصالحه, وبقدر ما حاول بعضهم بيع القضية للراعي الأمريكي, تقربا ومداهنة, وبقدر ما حاول بعضهم الآخر ولايزال يمد جسور المحبة والود والتعاون الظاهر والمخفي مع إسرائيل علي حساب الشعب الفلسطيني وقضيته... ولعل أسوأ النكبات الجديدة التي تولدت من النكبة الكبري, بروز ما يشبه الإجماع العربي, علي أن الأمل الوحيد الباقي هو القبول بالقليل القليل, الذي تعرضه إسرائيل الآن قبل فوات الأوان وضياع آخر فرصة, وبالتالي فإن هناك اتجاها عربيا, قبل وبعد أن يكون أمريكيا وإسرائيليا, لاغتيال المقاومة باعتبارها شرا مستطيرا عند أقل الحدود, أو باعتبارها إرهابا فلسطينيا وفقا للفتوي الأمريكية الإسرائيلية, لأنها مقاومة متهمة بعرقلة التسوية والمفاوضات!! وبرغم اختلال موازين القوي مع الآلة العسكرية الإسرائيلية المسنودة أمريكيا, فإن بقاء روح المقاومة, هي الأمل الحقيقي, إن لم يكن في استعادة كل فلسطين, فعلي الأقل في تحسين شروط التفاوض, كما فعلت الثورات التحررية الوطنية, من فيتنام شرقا إلي الجزائر غربا... كانت تقاتل وتتفاوض في وقت واحد, حتي حققت أهدافها.. لكن تجليات النكبة الكبري والنكبات الصغري, تعود فتتجدد لتخدم الأهداف الاستعمارية الإسرائيلية الأمريكية, حين ينطلق الخطر الداهم علي المقاومة الفلسطينية من مكمنها, الذي يفترض أن يكون مأمنها... فبعض المقاومة مطارد من العدو, وبعضها مطارد من الشقيق, وبعضها الثالث متهم من الصديق بالمغامرة, فإذا بقوتها تتبدد وتتراجع ويرتد سلاحها إلي صدور أبنائها, بدلا من صدور العدو!! في الذكري الستين للنكبة, يرتكب العرب خطيئة تاريخية بتقصيرهم في حق فلسطين وشعبها وقدسها, وفي الذكري ذاتها يرتكب الفلسطينيون جريمة في حق تاريخهم بهذا الانشقاق والاقتتال والتناحر, بينما العدو الإسرائيلي يقضم الأرض, ويحاصر الشعب ويغتال التاريخ, ويقتل الأبرياء جوعا وحصارا... ثم يقيم الاحتفالات الصاخبة بالانتصار, فوق جثثهم ليرتوي الصديق بوش بلذيذ دمائهم! خير الكلام: يقول الشريف الرضي: أعوذ بالصبر الجميل تعزيا لو كان بالصبر الجميل عزائي عن صحيفة الاهرام المصرية 14/5/2008