"إسرائيل" تحتفل ونحن نبكي نكبتنا صلاح الدين حافظ على وقع اعتداءاتها الوحشية والدامية على الشعب الفلسطيني، بدأت “إسرائيل" احتفالاتها الصاخبة بستين عاما على تأسيسها 1948 2008 وقد خططت لكي تكون احتفالات محلية ودولية واسعة، تشمل نشاطات متعددة في دول كثيرة وخصوصا أمريكا. دعت “إسرائيل" عشرات من رؤساء الدول في مقدمتهم الرئيس الأمريكي بوش للاحتفالات، لكي تقول للجميع إن العالم يقف معها ويساند بقاءها قوة عسكرية مهيمنة في الشرق الأوسط، هي مقدمة الرمح لحماية المصالح الاستراتيجية الغربية، ولكي تغطي باحتفالاتها الصاخبة هذه جرائمها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، وهي جرائم ضد الإنسانية تقتل خلالها الأطفال والنساء والشيوخ، قبل أن تستهدف المقاتلين المقاومين، ولكي تقيم محرقة عنصرية في فلسطين، كما قال نائب وزير الحرب “الإسرائيلي". وبينما تحتفل “إسرائيل" بتأسيسها الستيني، مزهوة بالتفوق والانتصار، فإن العرب ينصرفون إلى إحياء الذكرى الستين للنكبة، نكبة اغتصاب فلسطين، يذرفون الدموع ويتوجعون، ثم يصدرون بيانات الشجب والاستنكار فقط، من دون إعمال العقل الواعي والفكر السليم، متسائلين، لماذا تفوقت “إسرائيل" كل هذا التفوق على امتداد ستين عاما؟ ولماذا انتكسنا وافتقرنا وتخلفنا، حتى صارت نكبة 1948 تلد نكبات جديدة كل يوم؛ تتدحرج كل واحدة وراء الأخرى، تجر القضية المركزية، التي لم تعد كذلك في عرف بعض العرب، من الأعلى إلى الأدنى؟ ها نحن نتدحرج غائصين في النكبات، وقد ضللنا الطريق الصحيح، فتراجعت أهدافنا، من هدف تحرير فلسطين ،1948 إلى هدف تحرير ما تبقى من فلسطين، إلى هدف إقامة دويلة فلسطينية في الضفة وغزة، وهما معا تشكلان 22 في المائة من مساحة فلسطين، ثم تدحرجنا إلى كانتون محاصر في غزة بمساحة 360 كيلومترا مربعا، يزدحم فيه مليون ونصف المليون فلسطيني يشكلون أعلى كثافة سكانية في العالم كله. النكبة تدحرجنا وصولا لالتهام الاستيطان “الإسرائيلي" 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية، يشغلها أكثر من 200 ألف مستوطن يهودي، بعد عزل القدس كاملة وكذلك الأغوار الفلسطينية، وبعد أن امتد الجدار العنصري العازل يتلوى في الضفة يبتلع ويعزل مزيدا من الأرض ومصادر المياه، ويقسم ما تبقى من الأرض الفلسطينية، إلى كانتونات معزولة ومحاصرة.. فماذا تبقى من أرض لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة والاستمرار، سواء وفق رؤية الرئيس الأمريكي، أو غيرها؟ مجرد معازل تشبه المعازل العنصرية في جنوب إفريقيا في ظل الحكم الاستعماري العنصري المنهار. هكذا ضاقت بنا الأرض بما رحبت، وضاقت حتى أحلامنا، فصرنا نختصر القضية في سلطة لا سلطة لها على أرض الواقع، والدولة في التعريف القانوني والسياسي تتكون من ثلاثة أضلاع، أرض وبشر وسلطة، وصرنا نختصر حلم التحرير في قطعة أرض لا موارد فيها ولا أساس لبناء الدولة الموعودة، ونختصر قضية القدس في مجرد التطلع لها من بعيد والتحسر على ضياعها بعد أن ابتلعها الاستيطان “الإسرائيلي". ضاقت حتى الأحلام بالرجال، لأن رجال هذا الزمان فقدوا العزم والعزيمة، وتخلوا عن الثورة طمعا في الثروة والسلطة، وتصارعوا على السلطة طمعا في الانفراد بها، وحين تسلى الثوار بالثروة إلى جانب وهم السلطة، تراجع الحلم وانتكست القضية، فأصبحت نكبة اليوم أشد بؤسا وإفزاعا من نكبة الأمس.. وانظروا لما يجري من نزاع بين سلطة رام الله وسلطة غزة. حين تحتفل “إسرائيل" بينما نحن نبكي نكبتنا، يجدر أن نتعمق في بحث التطورات، فربما تعيدنا إلى جادة الصواب وفضيلة التفكير، ونظن أن التحول الأساسي في الصراع العربي “الإسرائيلي"، قد بدأ بعيد حرب أكتوبر 1973 المجيدة، وفي ظل مؤثراتها المهمة التي وقعت كالكارثة على رؤوس “الإسرائيليين" وحلفائهم. لقد استوعب التحالف الأمريكي - “الإسرائيلي" جيدا دروس حرب أكتوبر فاجتهد لكيلا تتكرر، ومن يقرأ عشرات الكتب والدراسات “الإسرائيلية" والأمريكية يعرف أن هذا التحالف الاستراتيجي، قد أدرك ثلاثة أسباب جوهرية لنصرنا في حرب ،1973 وهي، أولا، أدرك أن هذه الحرب كشفت عن تغير رئيسي في القدرة العسكرية لمصر وسوريا وجنودهما على خوض حرب خاطفة، أجادوا خلالها وضع الاستراتيجيات وتحديد التكتيكات الحربية الطموحة التي فاجأت “الجيش الذي لا يقهر" فقهرته وأذلته. وأدرك ثانياً أن العرب أجادوا استخدام قوتهم السياسية في تمهيد الرأي العام العالمي، وفي استغلال قوتهم الاقتصادية بقوة أثرت على الاقتصاد الدولي، حين حولوا سلاح النفط إلى سلاح مساند للمقاتلين، ثم أدرك التحالف الأمريكي - “الإسرائيلي" ثالثا، قيمة المساندة الشعبية الهائلة من المحيط إلى الخليج، التي دعمت القدرات العسكرية في الجبهة الملتهبة، وهي مساندة لم تكن عاطفية بالمعنى الكلاسيكي، ولكنها مساندة هددت المصالح الحيوية للغرب كله ولأمريكا بالتحديد، لأنها جاءت من هبة شعبية هائلة. منذ تلك اللحظة وبعد هذا الإدراك اجتهد التحالف الأمريكي - “الإسرائيلي" في كسر فاعلية هذه الأسباب الجوهرية ونزعها من أيدي العرب، بل تحويلها إلى عوامل سالبة، فانطلق الهجوم الأمريكي - “الإسرائيلي" الشرس، على المنطقة، وظل يتصاعد على مدى الثلاثين عاما الأخيرة ليحقق أهدافه، بينما تهاوى التنسيق العربي وصولا لفقدان أسباب القوة الثلاثة التي ذكرناها آنفا، سواء بالإهمال واللامبالاة، أو بالتسليم الطوعي، فانتهى الأمر إلى ما نحن فيه، من تغييب لكل أسس التضامن العربي، سياسيا وعسكريا واقتصاديا وشعبيا. ولا مفر من الاعتراف بأن التحالف الأمريكي - “الإسرائيلي" قد نجح في تحقيق معظم أهدافه الرئيسية، من خلال حزمة من السياسات والإجراءات التي وضعتنا أمام نكبة جديدة نبكي على أطلالها الآن في حسرة، ليس فقط لأن العدو فعل، ولكن أيضا لأننا ساعدناه على أن يفعل وينجح. لقد بدأوا بكسر روح المقاومة في العرب عموما وفي بعض الفلسطينيين خصوصا، حين أقنعونا بصرف النظر عن هذا البعد العسكري القادر، والانغماس في تسويات سياسية واهية، ابتداء بكامب ديفيد ووادي عربة، وانتهاء بمكلمة أنابولس وبينهما أوسلو ووادي ريفر وغيرها، وها هي كلها تنتهي إلى لاشيء حقيقي رغم مضي أكثر من ثلاثين عاما من المساومة والمراوغة. ثم ركزوا على إهدار القدرات الاقتصادية المؤثرة للعرب، وخصوصا استنزاف النفط، حتى لا يكون رديفا لتعزيز القدرات السياسية للعرب، ناهيك عن تخفيض القدرات العسكرية لمجموع العرب، مقابل زيادة القدرات “الإسرائيلية"، بصرف النظر عما ينشر عن صفقات سلاح عربية بمئات المليارات، لأنها صفقات محكومة بشروط تعجيزية؛ تبقيها في المخازن للذكرى. ولقد تمكن التحالف الأمريكي - “الإسرائيلي"، من تحويل اتجاهات العرب، فبدلا من تركيزهم على الصراع العربي - “الإسرائيلي"، جرى إغراقهم في صراعات أخرى، استنزفت قدراتهم السياسية والاقتصادية والإعلامية والنفسية، مثل حرب العراق - إيران، والحرب الأهلية اللبنانية، وها هي تتجلى أكثر في حرب واحتلال العراق وأزمة لبنان ومشكلات السودان والصومال، ومخاوف الخليج الأمنية من هواجس صعود القوة النووية الإيرانية. وبينما كنا نغط في نوم عميق، نجح هذا التحالف الشرير في كسر الطوق العربي الرئيسي، وساعد على شق المحور الثلاثي القائد، المكون من مصر والسعودية وسوريا فمزق ما كان يسمى التضامن العربي الفعال، وأغلق ملف القومية العربية وشوه سيرة زعمائها التاريخيين، وخصوصا جمال عبدالناصر، كاسراً خطوط التواصل ومحبطا حتى آمال العرب وطموحاتهم في الحلم القومي، حتى عند حدوده الدنيا. وبينما كنا نفرق ونلهو ونتصارع، كانت القدرات العسكرية الأمريكية قد امتلكت دول المنطقة بأرضها ومائها وسمائها، عبر وجود كثيف للقواعد والأساطيل والجيوش المحاربة، وكانت “إسرائيل" قد ابتلعت الأرض الفلسطينية واخترقت “حركة التحرير الوطني" فمزقتها شيعا متناحرة تدمي باقتتالها قلب الجماد.. فأصبحنا أعداء أنفسنا وقتلة أبنائنا. فهل هناك نكبة أشد من هذه النكبة؟ ** آخر الكلام: يقول أحمد شوقي: الله يعلم ما نفس بجاهلة مَنْ أهل خلتها ممن يعاديها. عن صحيفة الخليج الاماراتية 5/3/2008