لن نتازل عن حقنا في تلك التلال هيفاء اسعد في الطريق إلى تل ابيب، وعلى طول الشارع، من القدس وحتى رأس الناقورة، على مداخل المدن العربية، وعلى المفارق التي تحملك شوارعها الفرعية لقرى عربية، التي قد تستطيع رؤيتها من الشارع أو لا تراها، تحكم حركة السيارت بدخولها وخروجها، إشارات مرور شعارها العنصرية. فأنت إذا كنت متجها لمدينة أو كيبوتس إسرائيلي، يأتيك الضوء الأخضر سريعاً، ولك كل الوقت للعبور، وتطول الدقائق التي تعطى لذلك الضوء ليبقى اخضر. ويا لحظك التعس، إذا غمزت لإحدى المدن العربية أو لتلك القرى العربية على مفارق الطرق. فالإشارة جوالة لا تأخذ ولا تعطي، عليك أن تكون مستعداً وانطلق. اما اسماء المدن والقرى على اللافتات على جنبات الطرق، فهي ما شبه للأسماء الحقيقية التي كانت يوما. فالناصرة اصبحت "نصرات"، وعكا "عكو"، وصفد "إصفاد"، اما قرية برعم فهي "برعام" والمجيدل "مجدال". وكلما اتجهت شمالاً يزداد تشقلب الأسماء واحيانا تختفي. في ذلك اليوم خرجنا متجهين إلى اقصى الشمال، إلى ما يقارب الحدود اللبنانية. كانت وجهتنا "برعم"، والتي ما زالت بما تبقى منها تقع في اقصى الشمال لفلسطين. برعم التي هجر أهلها منها في العام 1952 إلى القرى والمدن الفلسطينية القريبة، حيث ما زالت قضيتهم، بإصرار أبنائها وملاحقتهم، تؤرق الاحتلال الصهيوني بأجهزته القضائية والسياسية. في ذلك اليوم كانت برعم تشهد وداع مخيمها الصيفي السنوي الذي تعقده على ما تبقى من أطلال القرية التي ما زال أهلها يجهدون، على مدار السنين، في الاحتيال على حارس أملاك العدو في توسيع بقعة البيوت المرممة لتصبح جزءاً من العمار الذي يستخدمونه في فعالياتهم التي ينظمونها في القرية كلما تسنى لهم ذلك. تأخذك الطريق التي تشير شمالاً، حاملة لوحة كتب عليها اسم "إصفاد" لمناطق من الغابات والوديان لا تتكرر في فلسطين. وتترك نفسك لشارع يواصل الصعود بك، حتى لتحسب انك لا بد ستأتي لقمة ما بعدها قمة. وفجاءة ينتصب من امامك، صامدا لا شائبة عليه، وكأنه ينتظرك لتطل عليه من وراء التلال، قمة جبل تشعرك بطول المسار وتعب المسيرة، إنه "الجرمق"، الذي لا تدري لماذا، يأسرك ذلك الشاهق كأعلى جبل في فلسطين، وتواصل النظر إليه محتميا فيه، مما ينتشر حوله هناك من كيبوتسات وقرى تعاونية اسرائيلية، وتبقى مسمراً نظرك فيه ومحتبساً لأنفاسك التي لا تعود إليك إلا عند وصولك إلى مدخل قرية "برعم"، حيث يصدمك وجود الحرس وكيشك التذاكر الذي ينبئك بأنك أصبحت في حدود محمية طبيعية سيجت وتباع للسياحة. على مدخل القرية التي تصعد إليها بدرجات تواجهك كنيسة رومانية نزع سقفها وبقيت اعمدتها بتيجانها تتوسط القرية التي ترشدك يميناً لمقبرة، تحب ان تزورها، حيث اعدت لتكون حديقة تستقطب اهل برعم ليرتاح موتاهم فيها. أما على اليسار من الكنيسة، فأنت مدعو للتوجه لما تبقى من بيوتها برفقة كنيسة صغيرة، يقصدها "البرعميون"، حاملين أفراحهم واتراحهم إليها لتشاركهم المراسيم. الدخول للمخيم في ليلة الختام، لم يكن ابداً كيوم الافتتاح. فالساحة الصغيرة كانت تعج بالصبايا والشباب، والبراعم والطلائع، وصوت مرسيل خليفة الذي كان يصدح "والقصة مكتوبة عسطيحات الضيعة، والضيعة الهيوبة والعتمت مالشمعة". كانوا يستعدون لمراسيم الحفل الختامي، حيث كما في كل مرة، في نهاية المخيم، يقيمون العرس الفلسطيني، ويزفون شابا وفتاة، بمراسيمه وأهازيجه الفلسطينية. فهناك على سطح بيت وقفت ارقب الدبكة والرقص والدلعونا، وحنة العروس "وتلولحي يا دالية". وقفت وانا انظر تارة لجبل "الجرمق" من على يميني، والذي تحيطه عتمة ما وضع عليه من أجهزة مراقبة للاحتلال، محاكيا اضواء "مارون الراس" في الجنوب اللبناني شاكيا همه لها والتي تراءت من على يساري، واصداء الموسيقى والأغاني العربية وعجقة العرس بالصبايا والشباب وأصحاب القرية تواصل الإعلان عن عهد أبدي "بأن لن نتازل عن حقنا بتلك التلال". عن صحيفة الايام الفلسطينية 13/5/2008