ويسألونك عن حرية الصحافة د.محمد قيراط تُغتصب حرية الصحافة يومياً في مختلف دول العالم سواء كانت تلك التي تدعي الديمقراطية والحرية والتقدم والازدهار أو تلك التي تعاني من ويلات النزاعات والحروب والفقر والجهل والتخلف. فالصحافة هي الوسيلة الاستراتيجية التي تحلم أي سلطة في العالم بالاستحواذ عليها بكل الطرق والوسائل للوصول إلى عقول وقلوب الجماهير وتمرر ما يحلو ويطيب لها من رسائل وأفكار.
وفي حال انعدام القوانين والتشريعات ومؤسسات المجتمع المدني القوية والنقابات والاتحادات الصحافية الفاعلة فيكون مصير هذه الأداة الاستراتيجية في المجتمع تحت رحمة سلطة المال والسياسة.
وفي هذه الحالة تحدد معايير ومبادئ حرية الصحافة وفق ما يتناغم ويتناسق مع مصالح وأهداف هاتين السلطتين ومن يمثلهما في المجتمع.
يعود علينا الثالث من مايو في كل سنة ليذكرنا بحرية الصحافة ووضعها في العالم العربي الذي يعاني الكثير في مجال الحريات الفردية ومنها حرية الرأي والتعبير والصحافة كما يفتقر إلى المجتمع المدني ومختلف المؤسسات التي من شأنها أن تناضل وتعمل جاهدة من أجل إرساء تقاليد وأعراف تمجد هذه الحرية التي تعتبر مفتاح الديمقراطية والحكم الرشيد وإشراك الشعب في صناعة القرار.
الغريب في الأمر أن الجميع يتغنى بحرية الصحافة وأهميتها للعمل السياسي والاقتصادي الناجح، لكن في المقابل نلاحظ أن الغالبية تحاول مصادرة هذه الحرية والسطو عليها من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الضيقة. فالأنظمة السياسية في الغرب والشرق والشمال والجنوب تتغنى بحرية الصحافة لكنها كلها تتهافت على السيطرة والتحكم ومصادرة حرية وسائل الإعلام.
في معظم دول العالم «مافيا» المال والأعمال والسياسة لا تؤمن بحرية الصحافة ولا بالرأي والرأي الآخر ولا بالتناوب على السلطة ولا بالشفافية، وأصبح من يملك المال والنفوذ والسلطة له حق التعبير والرأي، أما باقي شرائح المجتمع فتكتفي باستهلاك ما يُقدم لها بدون مساءلة ولا استفسار.
إخبار الرأي العام وإيجاد سوق حرة للأفكار أصبحت من المهمات الصعبة في معظم دول العالم، الأمر الذي يضع القائم بالاتصال بين المطرقة والسندان، فهو أخلاقيا ومهنيا وعمليا مطالب بإعلام وإخبار الرأي العام ومن جهة أخرى يجد نفسه تحت ضغوط ومضايقات لا ترحم من أجل إرضاء أصحاب النفوذ والمال وأصحاب السلطة.
يعكس النظام الإعلامي في العالم العربي البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية، وما دامت أن السلطة تصادر الفعل السياسي فهي بذلك تصادر حرية الصحافة، الأمر الذي يجعل من الجهاز الإعلامي في الوطن العربي وسيلة في يد السلطة تتصرف فيها.
كما تشاء ووفق خطها السياسي والمسار التي تحدده لها. وهكذا بدلا أن يكون الجهاز الإعلامي في خدمة التنمية المستدامة وتنمية الفرد وتنوير الرأي العام والكشف عن الفضائح والفساد والتجاوزات يتحول إلى وسيلة لإخفاء المستور وتبرير الباطل والتلاعب بالعقول وفبركة واقع مزيف لا علاقة له بالواقع الذي تعيشه الجماهير العريضة في المجتمع.
تكمن جدلية حرية الصحافة والديمقراطية في أن الأخيرة تقوم أساسا على الاتصال السياسي الحر والشفاف وكذلك حرية التعبير والفكر ما يتطلب وجود إعلام يراقب وينتقد ويكشف ويستقصي ويستجوب ويثير القضايا الرئيسية والحساسة في المجتمع للنقاش والجدال. فالأطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحاجة إلى وسائط إعلامية ومنابر للمعارضة والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة...الخ.
إن أي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجع في الديمقراطية، وتاريخ حرية الصحافة في مختلف دول العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة. فالأنظمة السياسية الدكتاتورية أو السلطوية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تنعم بصحافة حرة وقوية ونفس الشيء يمكننا قوله عن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالتعددية الحزبية وبحرية الرأي والتعبير. فصحافة هذه الأنظمة تكون دائما أحادية الاتجاه تخدم من يشرف عليها ويمولها ويسيطر عليها.
ما زالت السلطة في العالم العربي تنظر إلى المنظومة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم. السلطة في العالم العربي عجزت على بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعال، ونتيجة لكل هذا فإنها فشلت كذلك في بناء نظام إعلامي قوي وفعال يقوم برسالة الإخبار والاستقصاء والتوعية والتثقيف وإشراك مختلف فئات المجتمع في الحوار والنقاش وليس سلبياً يستقبل ويٌؤمر، نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام إعلامي رسالته الشريفة هي كشف الأخطاء والعيوب وليس التلميع والتبرير.
فإذا كان واقع الإعلام العربي على هذا الشكل هل يحق لنا أن نطالب بنظام إعلامي دولي عادل ومنصف ونحن لم نرتب أمور بيوتنا؟ هل يحق لنا أن ننتقد العولمة الإعلامية والثقافية ونحن لم نتسلح بالشجاعة الكافية لإعطاء الحرية اللازمة لجهازنا الإعلامي ليقوم بدوره كما ينبغي؟
هل يحق لنا أن ننتقد الوكالات العالمية للأنباء على القيم الإخبارية التي تنقلها وعلى التغطية السلبية والمضللة التي تقوم بها في مختلف أرجاء العالم؟ هل يحق لنا أن ننتقد الغرب وخاصة الولاياتالمتحدة الأميركية لسيطرتها على الصناعات الإعلامية والثقافية العالمية ؟ وكيف يا ترى سنواجه القرن الحادي والعشرين ونحن لم نعرف بعد كيف نوظف ونستغل جهازنا وصناعاتنا الإعلامية والثقافية كما ينبغي.
يحتاج النظام الإعلامي العربي الراهن إلى نظرة نقدية جادة مع نفسه كما يحتاج إلى مراجعة الذات وهذا للوقوف على السلبيات والتعلم من الأخطاء والهفوات السابقة للانطلاق بخطى قوية وإيجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الإعلام وسيلة للسيطرة والتحكم والتلميع والتملق وإنما وسيلة للحوار والنقاش والعلم والمعرفة والإبداع والابتكار. عن صحيفة البيان الاماراتية 7/5/2008